ديمقراطية السيستاني.. في مفترق طرق

2020/01/01

 بعض الاخوة ينتقدني:

شخبصتنا بالمرجعية..! الشعب اليوم هو من يطالب، هو من يريد، وهو من سيحقق مطالبه.

من المفرح ان يكون الشعب العراقي صار بالغاً رشيداً ليس كما كان مثلاً في ٢٠٠٤ عندما اضطرت المرجعية للتدخل بوضوح من اجل ان تشارك اليدُ العراقية في كتابة الدستور، الامرُ الذي لم يكن واضحاً في وعي الجماهير يومها الذي انقسم بين من رضخ تماماً للكتابة الأمريكية للدستور - التي نعيش اليوم مآسي مشاركتها في كتابة الدستور والمحاصصة الطائفية التي جلبتها معها، تلك المشاركة التي حذرت المرجعية يومها منها مراراً وتكراراً -، وبين من رفض فكرة الممانعة السلمية للاحتلال ورفض ان يشارك في العملية السياسية تماماً.

المرجعية - ربّما - تشارك من يعترض عليّ الرأي، وتعتقد ان الشعب العراقي (خصوصاً الشيعة) صاروا اكثر بلوغاً ورشداً، ومن هنا يمكن فهم تجنبها الواضح للدعوة الى تغييرات إجرائية تفصيلية (فحتى عندما تقول غيّروا القانون الانتخابي، لا تأتي المرجعية بتفاصيل ذلك، كأن تقول اجعلوا النظام فردي مثلاً او متعدد الدوائر، وانما تقول فقط "بما يزيد ثقة الشعب بالعملية السياسية" وهذا مخالف تماماً لطبيعة تعامل المرجعية مع الاحداث في ٢٠٠٤ عندما كانت تتكلم بالتفاصيل)، وهذا التجنب مستمر خلال هذه الأزمة التي تتشكل منذ ٢٠١١ الى اليوم بين عامة الشعب المسحوقة ضد التيارات الاسلامية السياسية الشيعية مثل حزب الدعوة والتيار الصدري بشقيه المقتدائي واليعقوبي والتيار الموالي لإيران والتيار الحكيمي/السياسي (والذي يختلف عن بيت الحكيم العلمائي).

بل كون هذا التجنب بسبب رغبة السيستاني ان يأخذ الشعب مواقعه الطبيعية في النظام الديمقراطي الذي سهر السيد علي السيستاني (دام ظله) الليالي في سنين الإحتلال الأولى لتثبيت مشروعيته الفقهية والشعبية عند الشيعة، ليس محض توقع يفهمه عبدالسلام من مواقف المرجعية العامة، وانما شيء يعرفه معرفة اليقين من كلام المرجعية وحوزة النجف العلمية في منتدياتهم الخاصة، فلقد سمعت بأذني هذه لا غيرها (أصمّها الله ان كذبتني)، السيد محمد رضا السيستاني (حفظه الله) عندما سألته في البراني عن رأي سماحة السيد بولاية الفقيه، فقال وبعصبية واضحة كأنها تومئ لضيق صدره بالتعامل مع قلة وعيي وإدراكي للأمور، وبعد أن عبّر بتعبير أفضّل عدم ذكره، قال ما مضمونه - وليس نصه الحرفي - "السيد يقدم نصيحة للشعب العراقي، وليس حكماً شرعياً ولا يريد ان يفرض على أي أحدٍ أيّا كان من مقلديه او من اهل القرار هذه النصائح السياسية، وان تمام فرحة السيّد هو ان يأخذ العراقيون قرارهم بيدهم بعيداً عن وصاية أي أحد، أيّا كان".

كتب فارس كمال نظمي - وهو كاتب علماني بعيدٌ عن التفكير الإسلامي تماماً - مقالةً مهمة، قبل يومين، عن دور السيد السيستاني في أزمة تشرين الأول، وقال ان عدم تدخل المرجعية الان سوف يقلل من دورها السياسي، وسيأخذها الى خلفية المشهد السياسي وتصبح مجرد صوت وعظي، بدون عصا تنفيذية، بعد ان كانت تتصدر المشهد السياسي خلال الأعوام الماضية، وكأن كاتب المقال يأسى لدماء الشباب ويريد حل الأزمة بأسهل الطرق وأسرعها "تدخل المرجعية"، ومن هنا فإن عبدالسلام وأمثاله أيضاً يأسى أحياناً من عدم تدخل المرجعية اليوم بنفس الصورة التي كانت تفعلها في ٢٠٠٤، ولكن وأقولها مع حرقة تعتصرني: ربّما يكون السيستاني وفق تشخيصه للواقع العراقي، للمستقبل، للتشيع، مستعداً لحرق ورقة المرجعية الدينية العليا ودورها السياسي العظيم منذ ثورة التنباك، على أمل أن يتمكن العراقيون من إدارة شؤونهم بدون وصاية أحد، حتى المرجعية نفسها، وهو مستعد لتحمل تقريعات الشباب وتخويناتهم، ان كان سيدفع بهم الى ذلك البرّ، وهو برّ الوعي السياسي.

بعض الأخوة شبّه السيد السيستاني بأنه مثل الملك، وأنه قادر كما تقدر الملوك أن ينهي خدمات عادل عبدالمهدي، ولكن السيد السيستاني لا يريد أن يكونَ ملكاً وهذه جولته الأخيرة (أطال الله في عمره وبقاءه ومنَّ علينا بكرم وجوده) في إرساء دعائم ديمقراطية السيستاني، التي تكون فيها الولاية، مطلق الولاية، للشعب نفسه، لا لملكٍ او فقيه، وتكون فيها الدولة خدميةً، لا تتدخل في البيئة الأيدولوجية للبلد، وبالتالي سيكون السيستاني حذراً جداً من ان يلوح بعصاه التنفيذية، خصوصاً مع مدى قارب عقوداً ثلاثة من الزمن، مرّت على مرجعيته المباركة، وأفقٍ قد يطول او يقصر متبقٍ لتثبيت مشروعها المركزي: الديمقراطية. 

ولكن، مع ذلك، السيد السيستاني يبقى رجل الطوارىء، المستعد على القيام بغير المعهود، وغير المعتاد، اذا ما وجد البلد سينحدر الى هاوية لا يمكنه الخروج منها.. واذا لم يجلس على الطاولة مفاوضٌ يستعد للنطق بمطالب الشعب بسرعة، فإن السيستاني لرأفته بنا قد يستولي على الطاولة مجدداً، ويزيح بثقله أي كائنٍ عليها... ولكن السيستاني ما يزال منتظراً ان تنجح المداولة بين الساسة والشعب - وان كانت سّفّكت من الدماء ما لا يطاق حتى الان - ، لكي تحقق المطالب بصورة اوتوماتيكية وديمقراطية، دون ان يخيم على الأوضاع الراهنة بظله الوارف.

لعلني كمتدين، اتمنى ان يدخل السيستاني الخط، لكي تبقى للمرجعية دورها الكبير في السياسة العراقية، وبالتالي تحقيقها شعورّ أمانٍ خاص للمتدينين، باحترام دينهم، ولكن فلنؤمن للحظة كنخبٍ آلت ان تحيط بالمرجعية وتتبعها، بأمنية السيستاني، بأن نحقق ما نريد بسواعدنا، دون الحاجة لتدخل ولي أمر.. ١٦ سنة كما عبّر أحد الأخوة كافية لكي يبلغ الفرد رشده، وكافية لكي يبلغ الشيعة العراقيون رشدهم وينطلقوا من دارٍ ربّ بيته السيستاني، الى واقعٍ معقد يصبح السيستاني فيه ذكرياتّ طفولة، ولعل نضج مطالب "جبل أحد ثورة التشرين" (المطعم التركي المطلّ على ساحة التحرير) اكبر دليل على ذلك، ولكن فلنتذكر ان لهذا التمثيل قياسه الآخر، فإن الأفراد يفشلون في حياتهم حتى بعد تربيةٍ صالحة (كتربية السيستاني)، أما لجيناتٍ مستمكنة من وجودهم (كما في حالنا كعراقيين وما ورثناه من عقلية محمّلة بالسلبيات)، وأما لمواقفٍ مستعجلة (وكم ذلك محتمل)، وشخوص سوء تحيط بنا (وكم هم كثيرون حول العراق)... هل الشعب العراقي مستعد لتحمل تلك الاحتمالات؟

أخترنا لك
 قَبَسَاتٌ تربويّةٌ وأخلاقيّةٌ قيِّمَةٌ مِن تَذْكِرَةِ سماحة السيِّد الأُستاذ الفاضل مُحَمَّد باقر السيستاني ، دامت توفي

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف