من وجوه الإعجاز البياني في القرآن الكريم هو فرادة نظمه بوصفه منظومة واحدة عن طريق صفات الحروف وأصواتها، وكذلك بين الآية الواحدة وبقية الآيات في السورة؛ لتشكل وحدة بنائية كاملة للسورة الواحدة بترابط أجزائها ونظم إيقاعاتها ووحدة مقاصدها وجوها العام، وصولا إلى ترتيب السور كافة بصفتها قطعة واحدة لا تتجزأ، فالقرآن الكريم أشبه بحبات اللؤلؤ المنتظمة في سلسلة مترابطة فيما بينها، لا اختلاف في جوهرها وإن تعددت حباتها وألوانها.
وتتأكد فرادة نظم القرآن الكريم عن طريق (علم المناسبات) القرآني الذي يبحث في تناسب فواتح السور وخواتمها، وكذلك يبحث في تناسب فواتح السور المتتالية، وفي تناسب بداية السورة بختام ما قبلها(1)، ففواتح السور تمثل المفاتيح لها؛ لمعرفة ما تتضمنه من مقاصد ومفاهيم وموضوعات، وتترابط فيما بين أجزائها ترابطا تاما، وصولا إلى الخاتمة التي تتمثل بألفاظ قوية الجرس ورنانة، بحيث يحسن السكوت فيما بعدها؛ لأنها آخر ما يقرع الأسماع من السورة.
ونجد نماذج من السور في الموارد الآتية:
1ـ تناسب مفتتح السورة بختامها: مثاله سورة الحشر المباركة، حيث إن مفتتحها وختامها تسبيح، قال تعالى: (سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم) (الحشر:١)، وفي ختامها قوله (عز وجل): )هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم( (الحشر:24).
2ـ تناسب مفتتح السور المتتالية: مثاله توالي مفتتح سورة (العلق، والقدر، والبينة)، حيث مفتتح سورة (العلق) قوله تعالى: )اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علقٍ اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم( (العلق:1ـ5)، هذه الآيات الخمس هي أول الوحي السماوي الذي نزل على قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مبعثه الشريف، فكلمة (اقرأ) تعد مفتاح الرسالة الإسلامية التي تتضمن الهدف والوسيلة في الوقت ذاته، ألا وهي (القراءة)، والتي تمثل متعلقات القراءة من الوعي والتعلم، وهي أيضا مفتاح هذه السورة الذي يرسم لنا ملامح الرسالة الخاتمة في ظل مجتمع يتسم بالجهالة والضلالة، وكذلك تعكس أهمية القراءة، والقلم، والتعليم في نجاح هذه الرسالة واستمرارها لقرون، حتى بنيت على أساسها أكبر حضارة اكتسحت العالم بالعلم، والنور، والهداية، بخاصة إذا ما اقترنت القراءة والتعليم والقلم والوعي أساسا باسم الخالق سبحانه، وهو ما يتوافق مع مفتتح سورة القدر: )إنا أنزلناه في ليلة القدر( (القدر:١) الذي يبين ماذا على الرسول أن يقرأ باسم الخالق: يقرأ ما أنزله الله تعالى في ليلة القدر وهو القرآن الكريم، وهو ما يتوافق أيضا مع مفتتح سورة (البينة) في قوله تعالى: )رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة( (البينة:٢ـ٣).
3ـ تناسب ختام السورة مع مفتتح السورة التي تليها: مثاله أواخر سورة (القيامة)، قوله تعالى: )أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى( (القيامة: ٣٦ـ٣٨) مع أوائل سورة (الإنسان) قوله تعالى: )هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفةٍ أمشاجٍ نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا( (الإنسان:١ـ٢)، والتناسب واضح جدا في بيان حقيقة الإنسان وخلقه من النطفة، فلا يعجب بنفسه ويأخذه الغرور ويتكبر ويتغطرس.
وبلحاظ ما تقدم، نستنتج أن مناسبات سور القرآن الكريم وجه من وجوه الإعجاز البياني، والتي تعتمد على القراءة والتدبر لآياته وسوره بدقة، وملاحظة ذلك التناسب الذي يكون غالبا مختبئا بين السطور، ويعتمد على الرؤية الثلاثية الأبعاد إن صح التعبير؛ لتناسب الإيقاع الداخلي والخارجي للألفاظ، والآيات، والسور، والقرآن الكريم كله يمثل منظومة بنائية واحدة، منتظمة بشكل فريد، لا يستطيع أحد أن يقول مثله، وهو سر تحدي القرآن الكريم للإنس والجن بأن يأتوا بمثله، وبهذا يكون معجزة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الخالدة، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.