عندما يكون رجحان كفة الحرب في الميدان لصالح جبهة الباطل لا بيد جبهة الحق المدافعة، فستأتي فرصة النصر التي يمكن أن تكتسب، والتي يمكن بها أن ترجح الكفة لصالح الحق وأهله، وهو أسلوب يتطلب وعيًا سياسيًا، وحكمة قلوب محاطة بسور من الصبر، وهو ما يعرف اليوم بـ(أسلوب المقاطعة)، وتعرف المقاطعة على أنها حرب معنوية لا عسكرية، حرب إعلامية أكثر من كونها ميدانية، يتم فيها إضعاف العدو عسكريًا وميدانيًا، وذلك عن طريق سلبه القدرة على المحافظة على قوته من مصادرها.
وإذا تأملنا في السيرة الجهادية للسيدة الزهراء (عليها السلام)، لوجدناها لا تخلو من استخدام هذا الأسلوب مع الظالمين، فقوة السلطة الظالمة الميدانية كانت مستمدة من القاعدة الجماهيرية، ممن تم تضليلهم بالأساس الباطل الذي أسسوا له، وبنوا عليه بنيانهم في كسب رضا المسلمين وتأييدهم وإجماعهم على كون من تولى الخلافة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الأحق بها من غيره، ومن ثم فإن أساليب المقاطعة التي استخدمتها الصديقة الطاهرة (عليها السلام) كانت تستهدف إيقاظ المجتمع من غفلته تلك، التي جعلتهم يعتقدون بشرعية من جلس على منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) حاكمًا بدلًا من وصيه، وكشف زيف ادعاء أصحابها للأجيال القادمة، ومن هذه الأساليب:
أولًا: مقاطعة فرحة تنصيب الحاكم بالبكاء، حيث كانت تسود أجواء من الفرح في المجتمع لتنصيب من غصب الخلافة من أهلها، فكسرت السيدة الزهراء (عليها السلام) هذه الأجواء عبر الدخول إلى المسجد "ثم أقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها، ما تخرم من مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله) مشيتها، حتى انتهت إلى أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار، فنيطت دونها ودون الناس ملاءة، فجلست، ثم أنت أنةً أجهش القوم لها بالبكاء، فارتج المجلس، فأمسكت حتى سكن نشيج القوم، وهدأت فورتهم"(١).
فالبكاء مثلما جاء في دعاء كميل: "وسلاحه البكاء"(2)، هو سلاح قوة لا ضعف، يظهر به رفض الظلم، وتحريك الوجدان الإنساني الذي يرفض ذلك بفطرته، حتى عدت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من البكائين الخمسة، مثلما ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: "البكاؤون خمسة: آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله)، وعلي بن الحسين (عليهما السلام)"(3)، فبكاؤها (عليها السلام) كان بكاء إيقاظ من الغفلة؛ لإسماع القلوب التي طالما ألقى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليها أحاديثه في حق بضعته (سلام الله عليها)، فعن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): "قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن فاطمة شجنة مني، يسخطني ما أسخطها، ويرضيني ما أرضاها"(4)، وعنه (صلى الله عليه وآله): "إن فاطمة شعرة مني، فمن آذى شعرة مني فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله لعنه الله ملء السماوات والأرض"(5).
أرادت (عليها السلام) أن تنبه القوم إلى عظيم الجرم الذي اقترفوه بحق أنفسهم، والذي يتعلق به مصيرهم الأبدي، فالسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هي الميزان لمعرفة الهدى من الضلالة حتى قيام الساعة.
ثانيًا: مقاطعة المجتمع المؤيد للظالم، فالسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) لم تكتف بالحديث عن ظلامتها، وإظهار الألم بالبكاء، وما فعلوه بها وبوصي رسول الله (صلى الله عليه وآله) من بعده، بل اتخذت موقفًا عمليًا بمقاطعتهم وعدم الحديث معهم واعتزالهم، فهي بذلك عبرت عن سخطها عليهم، فعن فاطمة بنت الحسين (عليهما السلام) أنها قالت: "لما اشتدت علة فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وغلبها، اجتمع عندها نساء المهاجرين والأنصار، فقلن لها: يا بنت رسول الله: كيف أصبحت عن علتك؟ فقالت (عليها السلام): أصبحت والله عائفة لدنياكم، قالية لرجالكم، لفظتهم قبل أن عجمتهم، وشنئتهم بعد أن سبرتهم، فقبحًا لفلول الحد، وخور القناة، وخطل الرأي، وبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون"(6).
ثالثًا: وصيتها لأمير المؤمنين (عليه السلام) بقولها: "أوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني وأخذوا حقي، فإنهم عدوي وعدو رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا تترك أن يصلي علي أحد منهم ولا من أتباعهم، وادفني في الليل إذا هدأت العيون ونامت الأبصار"(7)، وهذا أشد أنواع المقاطعة بيانًا لرفضها (عليها السلام) وجود الظالمين، وعدم مشروعية خلافتهم، ومقاطعة المؤيدين لتلك السياسة الجائرة.
وعلى ضوء ما تقدم، فإن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بمقاطعتها للظالمين بينت لنا مفهومًا مهما، ألا وهو أن تسلط الظالم وتحقيق مشروعه على أرض الواقع، لا يعني أن جبهة الحق انهزمت، بل هو اختبار لها هل ستثبت على الدفاع عن مشروعها على الرغم من الظلم أم لا؟ والمقاطعة إنما هي إحدى علامات الانتصار المعنوي، والثبات النفسي، والإثبات التاريخي للأجيال أن الحق مع من، ولمن؟
واليوم نرى المسلمين في جميع أنحاء العالم يتعرضون إلى أقصى درجات الظلم والاضطهاد، ولدينا الفرصة لنصرتهم عبر إضعاف قوة الباطل إعلاميًا عن طريق إظهار مظلومية الشعوب، وإيضاح الحق للأجيال الناشئة لتعرف مع من تقف وتتعاطف، وكذلك مقاطعة كل ما يمد الظالمين بالقوة المادية من شراء البضائع التي تمولهم بالمال، فهذه كلها أسلحة غير مرئية بيد كل واحد منا لمقاطعة الظالمين، تعلمناها من السيدة الزهراء (عليها السلام) لننصر الحق على الرغم من ضجيج الباطل.
....................
شرح الأخبار: ج3، ص٣٤.
...........
الأمالي للشيخ الصدوق: ص٢٠٤.
بحار الأنوار: ج٤٣، ص54.
المصدر نفسه.
المصدر نفسه: ج٤٣، ص١٥٨.
المصدر نفسه: ج٣١، ص٦١٩.