منذ سنوات عدة، ربما في العد والعدد ضاعت بلا انتباه، إنما في الذاكرة ما تزال تتجدد وتزداد قربًا ووضوحًا، إنها حقيقة ناصعة، أكثر صدقًا في الحضور والتأثير، ولنكن نحن كذلك أكثر عمقًا في الإيمان والتمسك بها.
تلك الفرادة في القداسة والطهر، ليس بين النساء فحسب، بل بين خلق الله جميعًا، ذلك النور الأول والخلق الأول الذي من أجله تم إيجاد الوجود كله، ذلك التعلق الذي أعاد لي فهم الحياة والوجود عن طريقها (عليها السلام)، وصار فهم الحق بمدى قربه أو بعده عنها.
عندما أتيحت لي الفرصة وأنا طالبة أن أقرأ كتابًا عن حياتها (عليها السلام)، كتابًا مفصلًا وليس مجرد أخبار مبتورة، وأحاديث متفرقة، كنت أعيش مأساة الظلم، وحسرة الخذلان، ووجع التكذيب الذي مرت به، بعد أن بانت ووضحت مكانتها ومنزلتها من الله تعالى ومن رسوله (صلى الله عليه وآله)، وبعد أن آمن المخلصون بما تمثله سيدة نساء العالمين (عليهاالسلام) للدين وللإنسانية، ولشخص النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فهي علة الوجود، ومنتهى اللطف الإلهي بالعباد.
وبعد استشهاد الصادق الأمين (صلى الله عليه وآله) سقطت الأقنعة، واستيقظت الجاهلية، وانتعش الحقد، وعادت الأمة إلى ضلالها وانقلبت على أعقابها، وبدأت مرحلة الظلم بخطواتها الأولى بانتهاك حقوق السيدة الزهراء (عليها السلام) وتكذيبها، وهي الصديقة الكبرى وسيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين.
خرجت ببهائها الملكوتي الذي أخرسهم، وأسقطت حججهم الواهية، وعرت منطقهم الجاهلي وعقيدتهم الهشة، وسرعة نكوصهم عن الحق، تتحدث بلسان الوحي الذي لا يختلف عن منطق أبيها (صلى الله عليه وآله)، زعزعت وجودهم بين قومهم في مسجده، وعادت إلى بيتها لتتوالى عليها مصائب القوم واعتداءاتهم تباعًا.
وبعد أن أكملت قراءة الكتاب وكنت حينها ما أزال صغيرة، تملكني الحزن والغضب، وبكيت ألمًا وحسرةً على سيدة النساء التي لم ترع حرمتها، ولم تعرف هناءة العيش، حتى طلبت الموت لتلتحق بأبيها (صلى الله عليه وآله)، وتغادر قومًا نكثوا العهد، وخانوا الأمانة، وانتهكوا الستر، فحل عليهم غضب من الله ورسوله إلى يوم الدين؛ لأنهم لم يعوا منزلتها من الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) الذي قال بحقها: "فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها فقد أغضبني، ومن أغضبني فقد أغضب الله"(1).
...........................
(1) بحار الأنوار: ج43، ص٣٩.