بنيتي الحبيبة: كلنا ضيوف على مسرح الحياة، وسيأتي يوم ونغادرها؛ لنفد على رب عظيم يحاسبنا على أعمالنا، وما عمرنا به أيامنا.
وهذه الحقيقة التي تنوعت سبل بيانها في الكتاب العزيز والروايات الشريفة، لم يكن القصد من إيصالها إلينا أن نهجر الدنيا ونعيش في الكهوف للعبادة والمناجاة، بل أراد الإسلام منا أن نعيها ونجعلها نصب أعيننا على الدوام؛ كي لا تغرق سفينة أيامنا وهي تشق طريقها وسط أمواج هذا العالم المليء بالتحديات والصعوبات.
أراد الله تعالى منا أن ندرك أن لكل شيء أجلا، وأن رحلة حياة المرء ينبغي أن تكون للتزود من دار ممره لدار مقره.
أراد أن نعرف أن الخاسر الحقيقي هو من ضيع عمره في غير ما خلق له، ولم يهتم بتحصيل زاده، وهو لا يعلم هل سيكون غدا بين الأحياء؟ أو سيحمل على الأكتاف إلى القبور؟
أراد منا أن نعي حقيقة العمر وأهميته وكيفية اغتنامه فيما ينفعنا، وما يكون سببا لنجاتنا وفوزنا بعد رحيلنا من هذه الدنيا إلى دار إقامتنا.
فمن تمام التوفيق للعبد أن لا ينسى آخرته وهو في قلب دنياه، يؤدي تكليفه مثلما أراد الله جل في علاه، ويذكر نفسه بأجله ومنتهاه، فتصغر في عينه الهموم، وتتضاءل أمامه كل الصعاب، لا يكترث لكثير من الأمور التي تؤلم غيره، وتكدر خاطر سواه، فيقينه بأن دنياه رحلة مؤقتة، ومحطة سريعة يجعله في حالة من الهدوء والاستقرار والطمأنينة، وإيمانه بأن كل ما يجري عليه هو تقدير رب رحيم ودود، أعلم بمصلحته وأحرص على نجاته من نفسه، يملأ روحه بالسكينة.
ومن كان هذا حاله يا عزيزة أمك، فلن تهزه البلايا، ولن يزعزعه توالي الرزايا، شعاره في كل أحواله: ﴿إنا لله وإنا إليه راجعون﴾ (البقرة:156)، ويقينه في جميع محطات حياته راسخ، لا تعصف به الشبه والظنون، وأمله ودعاؤه: اللهم اجعلني من سكنة النعيم الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
تجدينه يا عزيزتي دائم الذكر، كثير النفع والبر، بعيدا عن اللغو وأهله، شديد المراقبة لنفسه، ساعيا إلى أن يكون يومه خيرا من أمسه، جادا في التفكير بصدقة جارية تنفعه بعد موته ورمسه، يسن السنن الحسنة، ويترك خلفه الكلمة الطيبة، والعلم النافع، والذرية الصالحة.
فطوبى لك يا بنتي إن اتعظت بهؤلاء، وجعلت عمرك ميدانا للتزود والنماء، ومحطة للأثر المبارك، عبر العمل الصالح والسير على خطى الأئمة النجباء (صلوات الله عليهم أجمعين).