عندما رويت الخطبة الفدكية للسيدة الزهراء (عليها السلام) نقلت بالتفاصيل، وبينت حتى كيف كانت مشية ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأوضحت كل حركة، فنقرأ أنها: "نيطت دونها ملاءة فجلست، ثم أنت أنة أجهش القوم لها بالبكاء، فارتج المجلس، ثم أمهلت هنيئة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم، افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله، فعاد القوم في بكائهم، فلما أمسكوا عادت في كلامها"(1)، وباشرت بالخطبة الشريفة.
هنا لابد من أن ندرك أننا عندما ندرس خطابا تاريخيا مهما مرويا بأسانيد متواترة وموثوقة كالخطاب الفاطمي، فإننا لا شك أمام خطاب يحتاج إلى التأمل والتدقيق في كل كلمة ووصف، سواء في مقدمات الخطاب، وسياقاته الخارجية، ومتنه، وتقنياته اللغوية، مثلما لابد من التأمل من حيث إيصال الرسالة عبر مقدمة الخطاب المبارك؛ لذا لابد من أن يكون اهتمامنا منصبا على عتبة الرواية وسياقها المقامي من دون الخوض في طرحها، وقد نجد في مدخل الرواية وعتبتها صورة متكاملة عن دخول السيدة الزهراء (عليها السلام) بوصف دقيق لكل تفاصيل الواقعة بحيث تجعل القارئ يتخيل ويعيش اللحظات تلك ويستشعرها، ولهذا فقد اهتم الراوي بهذه المقدمة بنقله لتلك التفاصيل مع أن العادة في النقل لا تكون بهذه الدقة، حتى إن قرأت فلا تقرأ بتفاصيلها مثلما نلاحظ في خطبتها (عليها السلام)، فيروي ويذكر الهيئة التي خرجت بها، وكيف أحاطتها النساء من كل جانب، وتسير بهيبتها مثلما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فهي روحه وبضعته التي ورثت عنه وشابهته، فيركز الراوي على هذه التفاصيل التي منها نستلهم العبر والحقائق، فالسيدة الزهراء (عليها السلام) الوارثة رسول الله (صلى الله عليه وآله) خرجت لتطالب بحقها الذي تركه لها والدها النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وتحدثت مبتدئة بذكر الله تعالى وحمده، ثم أوضحت حال القوم وكيف أنقذهم الله سبحانه بالنبي محمد (صلى الله عليه وآله) إشارة منها لحق الرسول (صلى الله عليه وآله) على هذه الأمة، ووصيته في أهل بيته (عليهم السلام)، وتأكيده على حفظ حق ابنته سيدة نساء العالمين (عليها السلام)، وبيان حقها وقربها من رب العالمين.
لذا يجب علينا قراءة ما بين السطور وبيان أهمية الحق المطلوب الذي أرادت (عليها السلام) المطالبة به، ومدى تأثير ذلك في حياة الأمة على المدى البعيد وفق خطاب ثوري وتوجيهي، ومثلما نعلم، كلما علا شأن الخاطب، ارتفع تأثيره بين الجمهور، فكيف إذا كانت المخاطبة هي بضعة النبوة وسيدة النساء، ثم إن ظهور السيدة الزهراء (عليها السلام) بهذه الهيأة لم يكن متداولا أو مألوفا لدى القوم مثلما تصف ذلك الروايات، فالأمر إذن عظيم وشديد، فبمجرد أنينها أجهش القوم بالبكاء، كأنها استعادت صورة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وشخصه وحديثه، وقد أثرت في الذين خدعوا بالشعارات الزائفة والمغلوبين على أمرهم.
وقد تركت (عليها السلام) بدخولها ومشيتها حتى أنينها وكلامها أثرا عجيبا في نفوس القوم.
إن اختيار المسجد شكل البيئة الأكثر ملائمة لهذا الخطاب التأريخي وقد كان مفصلا وحدثا كبيرا للأمة؛ لذا فإن الاطلاع على تلك الخطبة المباركة والتمعن بها قدر الإمكان، يحتاج إلى دراسة مكثفة، وتطبيق واضح، حيث إن الخطبة لا نفي حقها بهذه الصفحات، فكيف بالمضمون المبارك.
...............
(1) بيت الأحزان: ص141.