صفحات من التاريخ المجهول (طاعة وشجاعة وتسليم)
2022/02/09
بعد انقضاء الانتفاضة الشعبانية سنة ١٩٩١م قُتلت الرجال في المقابر
الجماعية، وهدّمت المدارس الدينية، وأحرقت كتب المكتبات، وكثرت الجثث
في الشوارع، وغير هذا وهذا قصف المشاهد المقدّسة على عظمتها، حتى كتب
على الجدران (لا شيعة بعد اليوم)، وبين هذا الخوف والمحن والبلايا
التي لايعرفها إلا من أدركها ورآها، انتهت إقامة آية الله العظمى
السيد أبو القاسم الخوئي قدس سره في العراق، ومن يلوذ به، من أهله
وذراريه.
فأرسل الحجة السيد محمد تقي الخوئي على الشيخ شريف كاشف الغطاء بأن
الوالد يطلبك، فجاء والتقى بالسيد المرجع وقال له: شيخ شريف إنني
استخرت الله تعالى أن تذهب لمديرية أمن كربلاء وتجدد لنا الإقامة،
والاستخارة جيدة جدا في أن تذهب غداً.
وانتخاب السيد المرجع له لقوة شخصيته وبديهيته وحنكته.
فولول الشيخ في قلبه وتذمر، وصعد في الليلة الظلماء إلى سطح داره
وتوجه لقبة أمير المؤمنين عليه السلام، وجرت دموعه، وأخذ يبكي ويخاطب
الأمير إلى الفجر قائلاً: سيدي هذا ولدك، وأمرني بأمره، وأمره مطاع
كمجتهد، وأمرني بخدمته، وأنا لا أخالفه شرعاً، وأنت بكيفك بعد.
فصلى الفجر وأخذ جوازات العائلة وأوراق الإقامة ليجددها لهم في دائرة
الأمن بكربلاء، وكانت دائرة النجف محروقة يومئذ.
فذهب لكربلاء بعد الصلاة ووصل للدائرة في السابعة صباحا قبل الدوام،
وجلس عند امرأة تبيع الشاي، والقيمر تبعد عن الدائرة مسافة إلى أن
تأتي الساعة الثامنة، وقالت له المرأة: ((حجي، شعدك رايح، بس تدخل بعد
متطلع، آني نصحتك)).
فقال الشيخ في قلبه بعد أن ارتعدت فرائصه: ((شسوي بلاء وكتب
عليّ)).
فدخل الدائرة، والتقى مدير الأمن وفي بالي كان اسمه عمر، فعندما اطلع
المدير على مراد الشيخ، أخذ يسب السيد المرجع وأهل بيته بالكلام
الفاحش الذي يجل القلم عن ذكره.
وأخذ بالسب من دون توقف، والشيخ واقف بين يديه لا يتكلم، ويحدث - رحمه
الله قائلا - : ((لو تكلمت بكلمة يقتلني،
وبعد أن أتم كلامه أعطاني الله تعالى قوة في اللسان والبيان،
فقلت:
سيدي هل يعجبك أن تجتمع الطلبة من كل أنحاء العالم وتتوجه للأزهر في
مصر، والعراق خال من طلبة العلم في عهد السيد الرئيس صدام حسين،
أسفي.
أم هل يعجبك أن يتوجهوا لمكة والمدينة، والعراق خال من طلبة العلم في
عهد السيد القائد، أسفي.
أم هل يعجبك أن يتوجهوا لقم ويدرسوا وترفع رايتهم، والعراق خال من
طلبة العلم في زمن القائد المؤمن.
أم هل يعجبك أن تتفاخر اسطنبول بطلبتها والعراق لاطلبة له، أسفي.
هل يعجبك أن تزدهر القيروان بطلبتها، ونحن نسفّر بالطلبة.
فالدول تتفاخر وتتطاول على غيرها بمحافلها العلمية، فلماذا لايزدهر
العراق بطلبة العلم في عهدكم، فأنتم راعية العلم والعلماء، فليكن
الفخر بإيواء أهل العلم، وأنتم أهل الكرم والإحسان.
فقال المدير بعد أن تأمل: ((جيب الجوازات، واحنه أردلك الخبر، وسيدكم
خلي ايحضر روحه يرجع لأهله)).
يقول الشيخ: ((فرجعت بخفي حنين، متعجبًا من نفسي كيف خرجت من تلك
الدائرة المشؤومة، بيت الموت الذي لامهرب منه.
فوصلت للنجف وأخبرت السيد المرجع، وحوقل، وتمتم بالدعاء، وقال: نصبر
ونرى)).
ثم قال الشيخ: ((مرّت ثلاثة أيام، وإذا بالضابط عند دكاني ومعه ثلاثة
أشخاص، وإذا معه أوراق الإقامة مختومة، وقال: وافق السيد الرئيس على
تجديد الإقامة، بعد نقل كلامك معي في هذا الأمر، فسلّمها لي وشكرته،
وأهديته سبحاً من الكهرب الغالي، وغادر الدكان، وقُضيت حاجة السيد
المرجع بتجديد الإقامة، واستقر في البلاد بحمد الله تعالى، وببركة من
نحن بجواره)).
سمعت هذه الحكاية عن الشيخ كاشف الغطاء مباشرة، وكان يتحدث في بعضها
بالبكاء تارة، وبوصف الخوف والرعب تارة أخرى.
وكنت انتظر الوقت لكتابتها بالمضمون الأقرب من الضبط، وجاء وقت الوفاء
لقائلها.
- أحمد علي الحلي