تذكرة من سماحة آية الله السيد محمد باقر السيستاني دام عطاؤه لطلاب الحوزة العلمية

2020/08/06

 
-حياتنا كطلاب علم إنما هي لأجل الحصول على أساس علمي متين، فلابد من الحصول على هذا الشيء والوصول إليه، وينبغي أن يكون ذلك عاجلاً؛ لأنه لا يوجد عمر كافٍ لنفرّط ونتهاون فيه، ولابد من الوصول إلى هذا الأساس في سن يتراوح بين الخامسة والثلاثين إلى الأربعين؛ فقلّما تحصل للطالب نقلة نوعية بعد هذا السن، وإنما أوصلتُه للأربعين باعتبار تأخر الشروع في الدراسة الحوزوية لأكثر أبناء هذا العصر، وإلا فالسابقون كانوا يصلون إلى المقامات العالية من الفضل والعلم وهم دون الثلاثين من أعمارهم، فالطالب يكون أمام خيارين إما أن يكون فاضلاً وإما أن يكون عالةً على الحوزة.

-الإنسان بعد سن معيّنة يميل إلى الإنتاج والعطاء دون التلقّي والبناء، فإذا كان الطالب غير محصّل ولا أساس علمي له واتجه إلى التدريس وغيره تجده يقول بغير علم وربما قام بالتمويه على الطلاب حفظاً لماء وجهه، وهذا من المعاصي، بل قد يكتسب في كل جلسة درس معاصي عديدة.

-لابد أن يعيش الإنسان عيشاً كريماً، والعيش الكريم لطالب العلم هو أن يجدّ ويحصّل ويصل إلى مقام سامٍ من العلم والفضيلة، وبالنسبة لي لو خُيّرت بين أن يتوفاني الله تعالى وبين أن أكون مجرد شخص لا مسؤولية له في الحوزة وإنما يحضر بعض الدروس والمجالس لاخترت الوفاة.

-الطالب المعتاد على استقبال المعلومات فقط تكون طاقته كامنة، فلابد من تحريك الذهن والفكر.

-كثيرٌ مما نراه من مقامات العظماء هو نتيجة جهدهم وتعبهم لا أنه نتيجة ذكاء فوق العادة، والجهد المستميت يفضي إلى الوصول لنتائج عجيبة.

-طالب البحث الخارج إذا أراد الكتابة في شيء فليكتب في المسائل الفقهية والأصولية ولا يشغل نفسه بغيرها، ومع الاستمرار في الكتابة التخصصية فإن ثمارها ستظهر وتينع مع مرور السنوات من خلال الرقي إلى مدارج العلم والفضيلة، وليُعلم أن كثيراً من رسائل الأعلام في بعض المسائل كانت مكتوبة في شبابهم وكانت سداً لأوقات فراغهم.

-لا يصل أحد إلى الفقه إلا بأصول قوية، وقد نُقل عن السيد الخوئي قدس سره أنه صرف عشر سنوات على الأصول متمحضاً فيها، والظاهر أنها بعد مرحلة التلقي من أساتيذه، لا أنها في مرحلة دراسته.

-  لابد أن يحضر طالب الخارج درساً في البيع؛ لأنه من لم يوفق لحضور البيع استدلالياً يصيبه – عادةً - نقصٌ كثيرٌ إلا أن يبذل جهداً كبيراً في التحصيل لجبر ذلك النقص، وبالنسبة لي شخصياً لم أوفق لحضور المعاملات في البحث الخارج، فقد حضرتُ مقداراً من أواخر كتاب الحج عند السيد الخوئي قدس سره وما بعده من الإرث والقضاء والشهادات والحدود، ثم حضرت عند السيد الأستاذ الوالد مُدَّ ظله في أبواب من العبادات، ولكنّي تداركتُ هذا النقصان الحاصل من عدم دراسة كتاب البيع من خلال التدريس المكرر لكتاب المكاسب والمتابعة في الأقوال والمصادر والتدقيق والتأمل فيها.

والحاصل: أن كتاب البيع يعتبر من (رؤوس الأموال) للطلاب والأساتذة، وكانت سيرة الأساتيذ اختيار هذا الباب في أوائل شروعهم في الدرس العالي، فعندما شرع السيد الخوئي في تدريس البحث الخارج بشكل منظّم اختار بحث المكاسب ودرّسه مرتين ثم شرع في الطهارة على ضوء العروة – وإن كان قد باحث الصلاة سابقاً بنحو أقل سعة من الموجود في شرح العروة -، وكان السيد الحكيم قدس سره قبل تأليفه للمستمسك أو في أوائل تأليفه له قد اعتنى بتدريس كتاب البيع، كما أن المحقق النائيني رحمه الله درّس المكاسب مرتين ولم يباحث من بقية الأبواب إلا قليلاً كالصلاة، فبناءُ الأساتذة هو تدريس كتابين من كتب الفقه، كتابٌ في العبادات وآخر في المعاملات، وإن يسّر الله لهم وأتموا هذين الكتابين شرعوا في غيرهما.

وبالنسبة للطلبة فينبغي لهم الحضور في درس المكاسب الاستدلالي عند أستاذ قوي، وإلا فلا يحصل أحد على فضل في المعاملات إلا بجهد جهيد.

-فهم كتاب المكاسب ليس بالأمر السهل، فتحتاج دراسة الكتاب في مرحلة السطح إلى أستاذ قدير، فإن وجد الطالب أستاذاً قديراً بحيث يفصّل له بنحو لا يُخرج الدرس من السطح ولا يُلحقه بالخارج ولا يستغرق سنوات كثيرة فهو، وهذا نادر الاتفاق، وإلا فليبحث عن الدرس الذي تتحقق معه براءة الذمة في تفهيم الكتاب ولو من باب الانسداد، ولا ينبغي أن يُعطّل الطالب نفسه من أجل الحصول على الأستاذ الأفضل، بل كثير من الأمور والمسؤوليات تقع على عاتق الطالب، والدرس الناقص خير من الانتظار وضياع العمر، وقد حضرنا عند بعض الأساتذة في بعض الدروس ولم يكونوا بالنحو الأمثل، فقمنا بالجهد الذاتي من المتابعة والمطالعة والمباحثة.

-هناك أساتذة يدرّسون كتب السطح العالي لأول مرة ولكن لديهم همّةٌ في الفهم والتفهيم، ويوجد هناك من درّس كتب السطح العالي لعدة دورات ولكنه ليس متفاعلاً في درسه، فليست الضابطة هي دراسة هذه الكتب عند من مارس تدريسها من قبل.

-أنصح الطلاب في عدم التأخر في الدراسة لا سيّما في مرحلة المقدمات كالنحو والمنطق والصرف وغيرها فلا ينبغي صرف سنوات طوال في هذه العلوم، بل ينبغي دراستها على النحو المتعارف وفي المدة المتعارفة مع مراعاة الإتقان.

-كل إنسان على نفسه بصيرة، وهو أعرف بمواقع ضعفه، فمن كان عنده ضعف في مادة من مواد المقدمات كالنحو والمنطق وغيرهما فلابد أن يتدارك ذلك من خلال التدريس.

-لا ينبغي أن تضعف همة الطالب بسبب عدم كونه من أسرة علمية.

-ينبغي للطالب الذي يريد أن يصبح خطيباً أن لا يصبح خطيباً إلا بعد أن يكون مقتدراً علمياً، وكم وجدنا من بعض الخطباء زلات كثيرة لأجل عدم تمكنهم العلمي، وقد قرأت في مذكرات الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله أنه لم يتأسف على شيء كتأسفه على أنه توانى في دروسه العليا.

-كان الكلام المتقدم حول الجانب العلمي وضرورة وكيفية الاهتمام به، وهنا أود أن أنبّه إلى الاهتمام بالجانب المعنوي والعملي، وهذا الجانب أهم من الجانب العلمي، فلابد من الاهتمام به، ولا سيّما في أداء الدين والقيّم إلى الناس، فالطالب الذي يمتلك سمتاً ووقاراً وخلقاً وتكون شروط (الروحانية) متحققة فيه أفضل من الطالب الذي لا يمتلك ذلك وإن كان مرجّحاً من جهة العلم.
فالطلاب يفترضون في أنفسهم وكذلك الناس تفترض فيهم أنهم حملة الدين والقيّم بالقول والعمل، فلابد أن نعرف وظائفنا جيداً ولا ينبغي التفريط في شيء من ذلك؛ فإننا محاسبون أمام الله سبحانه وتعالى، والأئمة عليهم السلام والعلماء الربّانيون شهود علينا.

ثم تلا سماحته بعض الآيات الكريمة:

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ* إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ*وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ*وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُم أمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُون* وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ* وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً إِنَّمَا عِندَ اللّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ* مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ* مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} صدق الله العلي العظيم.


حرره: محمد جعفر الزاكي، وفّقه الله وجميع الطلبة للعلم والعمل الصالحين بحق محمد وآله الطاهرين.
أخترنا لك
علماء الطائفة من الذين درسوا في النجف الاشرف في القرن الثامن الهجري

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة