أول مدرس مسيحي في النجف

2023/04/05

تبقى النجف دوما محل دهشة وتقدير اغلب رجال العلم والمعرفة في العالم وذلك لما يسطره رجالها في مختلف المجالات المعرفية ومن بين مؤسسات النجف كانت ثانوية النجف للبنين قبل اكثر من تسعة قرون مثار اعجابا كابر العلماء والمفكرين في البلاد لما كان يبدو منها من جد ونشاط ومنافسة وعطاء في الجانب العلمي والادبي والثقافي مما دفع بوزارة المعارف انذاك في ان تخصها بشيء من الاهتمام بكونها مؤسسة مهمة من مؤسسات العلم والمعرفة في مدينة ولودة لكل المبدعين بالرغم من الاهمال الذي تعانيه من جانب الدولة حيال الكثير من مرافقها المهمة سواء في التعليم او في البلدية والخدمات العامة المختلفة ، لذلك ارتأت وزارة المعارف ان ترسل اليها بعض المدرسين الاكفاء من ذوي الخبرة والاختصاص والثقافة فاختارت اولا المدرس اسكندر حريق القادم من لبنان وهو من الديانة المسحية والمتخرج من الجامعة الامريكية في بيروت ليكون مدرسا لعلوم الاجتماع في اعدادية (ثانوية) النجف للبنين وقتذاك ، ظن بعضهم ان مهمة هذا المدرس ستكون صعبة جدا او شبه مستحيلة خصوصا وهو من ديانة مختلفة وثقافة قد تطغى على شخصه بطابع الغرب وان كان اسلوبه حديث ومتطور حيث ان اقتحام اسوار مدينة تعد عاصمة من عواصم الاسلام وحاضنة الحوزة العلمية للطائفة الشيعية في العالم قد تعد مغامرة بحد ذاته الا انه نجح في ذلك ايما نجاح واقصد المدرس المسيحي اسكندر حريق ويعود ذلك لسببين مهمين اولهما هو السيرة الاخلاقية الحميدة والمكانة الاجتماعية المرموقة التي يتحلى بها اسكندر حريق والسبب الاخر والاهم هو النفوس السمحة الرضية التي تتصل بكثير من رجال الدين بل جميعهم وكذلك حسن الضيافة واحترام الضيوف واكرامهم من قبل اهل النجف وكذلك البعد الفكري والاخلاقي والحداثة والفلسفة الجريئة وتجاوز حدود المذاهب والاديان من قبل رجال التربية والتعليم في المدينة كل هذا كان عاملا مهما في انجاح مهمة المدرس المسيحي وليكون في ايام قلائل صديقا لرجال دين مجددين منهم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والشيخ عبد الكريم الجزائري والشيح محسن شرارة وكذلك من الادباء والمفكرين موسى كاظم نورس وحسين مروة وجعفر الخليلي وقد ارتبط بالاديب والصحفي جعفر الخليلي بصداقة قوية جدا نظرا لزمالته في التدريس وكذلك لاهتمامات اسكندر حريق بالصحافة حيث كان يمتلك الخليلي صحيفة ومطبعة وكان له مقرا للصحيفة يجتمع فيه الادباء والكتاب وكان اسكندر من محبي هذه الاجواء كثيرا فلازمها طيلة مدة مكوثه في المدينة وكانت حادثة وفاة والد اسكندر حريق وهو في غربته بمثابة الرباط الذي شد الخليلي نحو اسكندر حريق للحد الذي بالغ فيه الخليلي بالتقرب من اسكندر خصوصا وان وفاة والد اسكندر كانت صدمة عنيفة له وهو في قمة رهافة الحس وجياشة العواطف في ظروف الغربة والابتعاد عن الاهل مما جعل اصحابه في النجف يستشعرون بعمق جرحه فكان هذا التقارب والاندماج وقد دفع ذلك الخليلي جعفرا الى ان ينقل اسكندر الى بيته لقضاء يومين او ثلاثة تحاشيا للوحدة وتأثيراتها في مثل هذه الظروف، وفي بيت جعفر الخليلي زاره العديد من زملائه ومعارفه معزين وبهذه الطريقة وجد لونا اخر من العلاقات الاجتماعية في هذه المدينة مما خفف عليه كثيرا الم الحزن والفراق والغربة حيث ان النجف معروفة وخصوصا في هذا المجال فأن رجالها يتفردون بصياغة مفردات العزاء وآدابه حيث سمع من خلالها الكثير من المواعظ والعبر ونقلت اليه مصائب اهل البيت ومصيبة الحسين عليه السلام من حيث تخفيف المصاب وحقيقة قد دخلت كل هذه المعاني الى ذاته بلطف وقد اعترف بانه ولأول مره يسمع بهذه القصص والحوادث بل ذهب الى ابعد من ذلك حيث قال ان بعض التعابير والمفردات اسمع بها لاول مره في هذه المدينة وقد تنفرد بها في مقام التعزية مثل (عظم الله لك الاجر) (جعلها الله خاتمة الارزاء) و(صبرك الله على البلاء وجعلها الله في ميزان حسناتك) وكل ذلك دخل في نفس اسكندر مدخل افتخار بهذه المدينة وبصحبة ابنائها حتى ان هذا المدرس اخذ يكتب مقالات ويحيك الحديث وقال هذا جزء من ما منحتني هذه المدينة المعطاء ولذلك كان اسكندر اكبر قوة استعان بها جعفر الخليلي يوم استقال من التدريس واصدر (جريدة الراعي) ثم اصدر (جريدة الهاتف) حين اغلقت (الراعي) وقد ترجم اسكندر سلسلة مقالات (برتراند رسل) ومواضيع اجتماعية اخرى ترجمها من الانكليزية وكذلك الفرسية لتنشر في جريدة الراعي.
كما كتب اسكندر حريق العديد من القصص وعشرات المقالات وقد نقل الشيء الكثير من الادب الفرنسي والانكليزي الى اللغة العربية ونشرها في جريدتي الراعي والهاتف، كما جمع قصصا جعلها في مجموعة باسم (عشرون قصة) ونشرها في جريدة الهاتف وقد نقل اغلبها من روائيين عالميين امثال تولستوي اوسكار ويلد وانطوان تشيخون وغيرهم الا انه وضع بعضها بقلمه، وقد استفاد هذا المدرس من وجوده في النجف الشيء الكثير حتى انه عندما عاد الى بيروت والجامعة الامريكية فيها ليكون استاذا هناك بعد ما انهيت خدمته من وزارة المعارف العراقية ظل يتذكر النجف وما جناه منها من خبرة ومعرفة وعلم وتجربة حتى ان الحنين للعراق ظل يلازمه حتى عمل في شركة نفط العراق في لبنان وانيطت له مهمة رئيس تحرير مجلة (اهل النفط) التي تصدر في بيروت وكان حريصا على ان يجعل الكتاب والادباء يتزاحمون عليها اضافة الى الاقلام العربية المرموقة، وقد زار جعفر الخليلي صديقه الوفي ورفيقه الامين وتناولوا طعام العشاء سويا في بيت اسكندر ليتذكر الماضي وحنينه الى ارض العراق والى النجف التي كانت برغم حياتها الخشنة الا انها الصدر الحنون الذي يحتاج ان يكون فيها مضمونا باستجمام روحي يضمن به راحة نفسية كبيرة ولو لمدة شهر واحد لكن ارادة الله حالت دون تحقيق ذلك فتوفي اسكندر ولم يتسنى له الظفر بتلك الضمة في ربوع العراق والنجف.
انها فعلا سيرة من كانت التربية والتعليم رسالة مقدسة في ذاته فتجاوز كل العقبات ليوصل هذه الرسالة احب طلابه فأحبوه قدم للمدينة ما هو واجب عليه فاعطته الكثير ليعلو شأنه ويعز مقداره هذه هي النجف تعطي وبلا حدود كل من يخدمها ويخدم اهلها وتاريخها ورمزها وعنوان مجدها ومنابر عزها الضريح الطاهر الذي يضم الجسد الطيب لأمير المؤمنين علي عليه السلام.
أخترنا لك
من راهب نصراني إلى شيخ شيعي!

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة