كيف تنسبون علم الغيب لغير الله تعالى ؟ وأين العلم المستأثر ؟
2021/02/20
شعيب العاملي
السؤال رقم10: كيف تنسبون للنبي علم الغيب والله تعالى يقول:
(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) ؟
والإمام الصادق يقول: يا عجباً لأقوام يزعمون أنا نعلم الغيب، ما يعلم
الغيب إلا اللَّه (عز وجل).
والأئمة يقولون أن الله حجب عنهم علم الغيب واستأثر به لنفسه ؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
إن جواب الأدلة التي تحصر علم الغيب بالله تعالى مشهور معروف عند
الشيعة أعزهم الله.. يتداوله عامتهم كما علماؤهم، وخلاصته أن الآيات
المباركة كما أثبتت حصر علم الغيب بالله تعالى: قُل لَّا يَعْلَمُ مَن
فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا
يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل : 65]
أثبتت أيضاً إظهار الله تعالى هذا العلم لبعض خلقه:
عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا
مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ
وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً [الجن : 26- 27]
فالآيات التي تنفي علم أحدٍ بالغيب تنفيه كعلم استقلالي، أي أنه لا
يعلم الغيب أحد بنفسه، إنما قد يعلمه بتعليم من الله تعالى، وهو حال
الأنبياء والرسل والملائكة.
وقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام إلى ذلك بقوله: إِنَّمَا هُوَ
تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْمٍ.. فثبت أن المنفي هو العلم بالغيب بغير
تعليم الله، والمثبَت هو العلم بالغيب بتعليم من الله تعالى.
لكن المهم هو الكلام في حدود ما أظهر الله تعالى عليه نبيه محمداً صلى
اله عليه وآله، وحدود ما حجبه عنه بحسب النصوص المباركة، فبعدما ثبت
علمهم ب(كل شيء) أحصاه الله فيهم وفي كتابه المبين، ينتقل البحث إلى
الأدلة التي قد يستدل بها على ما حجبه الله تعالى عنهم، سوى ما دل
عليه العقل والنقل من عدم إمكان إحاطة المخلوق بكنه ذات الخالق عز
وجل.
وهذه الأدلة على قسمين:
القسم الأول: روايات عامة ذكر فيه ان لله عز وجل علماً اختص به دون
تفصيل جهة العلم.
القسم الثاني: روايات خاصة ذكر فيها بعض الجهات التي اختص الباري عز
وجل بها نفسه (كعلم الساعة وسواها).
ونتعرض في هذا الجواب للقسم الأول ونترك القسم الثاني للجواب القادم
إن شاء الله.
وروايات القسم الأول على طوائف:
الطائفة الأولى: ما دلّ على أن لله علماً لا يعلمه إلا هو.(أو لا
يعلمه غيره، أو لا يعلمه أحد غيره)
وهي روايات عديدة منها ما روي عن الصادق عليه السلام: إِنَّ لِلَّهِ
عِلْماً لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ وَلَهُ عِلْمٌ يَعْلَمُ
أَنْبِيَاؤُهُ وَرُسُلُهُ فَنَحْنُ نَعْلَمُهُ. (بصائر الدرجات ج1
ص110)
ويلحق بها روايات (عِلْماً لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ
خَلْقِ اللَّهِ) وأمثالها.
ويلاحظ على هذه الروايات:
أولاً: أنها أثبتت لهم عليهم السلام علم الأنبياء والملائكة، ولكنها
لم تحصر علمهم بذلك، فإنها بعد أن أثبتت هذا العلم لهم سكتت عما سواه،
وتكفّلت نصوص أخرى تقدمت الاشارة إليها في إثبات أنهم يعلمون ما لا
يعلمه الأنبياء والمرسلون.
ثانياً: أن قسماً من الروايات سكت عن الإشارة إلى العلم الذي (لا
يعلمه إلا هو)، وأن قسماً آخر منها أشار إلى البداء، وسنترك الحديث عن
البداء إلى موضوع آخر، ونكتفي بالتعرض للنصوص الخالية من الإشارة له
هنا.
ثالثاً: أن عدم علمهم بهذا العلم الخاص أعم من إمكان إحاطة المخلوق
بهذا العلم وعدمه.
بمعنى أنه يمكن أن يكون المراد من هذا العلم أحد أمرين:
الأول هو العلم الذي يمكن للأئمة أن يعلموه لكن الله تعالى حجبه
عنهم.
والثاني هو العلم الذي لا يمكن لمخلوق الإحاطة به وهو العلم بالذات
الإلهية المقدسة.
والنتيجة أن هذه الروايات بنفسها لا تعارض ولا تخصص ما ثبت من معرفتهم
ب(كل شيء) في الكتاب، لامكان كونها ناظرة إلى العلم بالذات الإلهية،
أو كونها ناظرة للبداء وهو ما سيأتي الكلام حوله لاحقاً.
الطائفة الثانية: الحرف المستأثر
وهي الروايات التي دلت على أن اسم الله الأعظم على ثلاثة وسبعين
حرفاً، وأن عندهم منه اثنان وسبعون حرفاً، وحرف (عند الله استأثر به
في علم الغيب، أو: في علم الغيب المكنون، أو: حجب عنه ص حرفاً واحداً)
وأمثالها من الروايات.
وبعض فقراتها عنهم عليهم السلام كما في بصائر الدرجات ج1 ص208 وما
بعدها وفي الكافي ج1 ص230 كما يلي:
- وَعِنْدَنَا نَحْنُ مِنْ الِاسْمِ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ حَرْفاً
وَحَرْفٌ عِنْدَ اللَّهِ اسْتَأْثَرَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ
عِنْدَهُ.
- إِنَّ اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ حَرْفاً
أَعْطَى اللَّهُ مُحَمَّداً ص اثْنَيْنِ وَ سَبْعِينَ حَرْفاً
وَحَجَبَ عَنْهُ حَرْفاً وَاحِداً.
- وَعِنْدَنَا نَحْنُ مِنَ الِاسْمِ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ حَرْفاً
وَحَرْفٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى اسْتَأْثَرَ بِهِ فِي عِلْمِ
الْغَيْبِ الْمَكْنُونِ عِنْدَهُ.
وهذه الروايات كسابقاتها فيها احتمالان:
الأول: أن يكون المراد من الحرف هو معرفة الذات الإلهية، فتكون معرفته
ممتنعة على كل أحد.
الثاني: أن يكون المراد هو معرفة شيء آخر يمكن لهم معرفته لكن الله
حجبه عنهم، فتكون مخصصة لعمومات معرفتهم ب(كل شيء)
وقد يذكر كمرجح للوجه الأول (كون الحرف هو الذات الالهية) ما روي عن
أبي عبد الله عليه السلام: وَاحْتَجَبَ حَرْفاً لِئَلَّا يُعْلَمَ مَا
فِي نَفْسِهِ وَيَعْلَمَ مَا [فِي] نَفْسِ الْعِبَادِ.(بصائر الدرجات
ج1 ص209)
فإن معرفة الخلق بما في نفسه تعالى تعني معرفة حقيقة الذات الإلهية،
لذا كان هذا الحرف أي معرفة الذات الإلهية محجوباً عن كل أحد حتى سيد
الأنبياء وأشرفهم وخاتمهم صلى الله عليه وآله. فيكون الاسم الاعظم
إشارة إلى كل علم، حجب عنهم أحد حروف هذا الاسم وهو العلم بالذات
الإلهية، وعلم آل محمد اثنان وسبعون حرفاً وهي (كل شيء) سوى معرفة
الذات الالهية، وقد تكون الحروف إشارات لأنواع العلوم، أو لأسماء لله
تعالى، فيكون المحجوب هو الاسم المخزون الدال على الذات المقدسة.
وقد يذكر كمرجح للوجه الثاني (كون الحرف لا يعني الذات الالهية) أن
الاسم غير المسمى، فأسماء الله ليست هي حقيقة الذات الإلهية، وعليه لا
يكون المحجوب هو العلم بالذات المقدسة، إنما علم آخر حجبه الله تعالى
عن خلقه جميعاً بمن فيهم محمد وآل محمد.
ولكن قد يقال، أن روايات أسمائه تعالى في بعض جهاتها تحتمل ذكر الإسم
وإرادة المسمى كما نذكر الله تعالى ونتوجه إليه ولا نريد المسمى، بل
نريد التوجه للباري عز وجل، وكما أشار إليه الخبر عن أبي عبد الله
عليه السلام: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى خَلَقَ اسْماً...
فَجَعَلَهُ كَلِمَةً تَامَّةً عَلَى أَرْبَعَةِ أَجْزَاءٍ مَعاً
لَيْسَ مِنْهَا وَاحِدٌ قَبْلَ الْآخَرِ فَأَظْهَرَ مِنْهَا ثَلَاثَةَ
أَسْمَاءٍ لِفَاقَةِ الْخَلْقِ إِلَيْهَا وَحَجَبَ مِنْهَا وَاحِداً
وَهُوَ الِاسْمُ الْمَكْنُونُ الْمَخْزُونُ (الكافي ج1 ص112)
وقد احتمل بعض العلماء في هذا الحديث أنه: (لمّا كان كنه ذاته تعالى
مستوراً عن عقول جميع الخلق، فالاسم الدالّ عليه ينبغي أن يكون
مستوراً عنهم)
فيرجع إلى الاحتمال الأول مجدداً وهو كون المحجوب هو حقيقة الذات
الإلهية دون سواها.
ثم إن لم يتم الكلام السابق، وقيل بأن العلم المكنون المخزون لا يراد
منه الذات الإلهية، فهناك احتمال آخر (جمعاً بين الأدلة) وهو أن يراد
من العلم المكنون العلم الذي لم يظهره الله تعالى لأنبيائه وملائكته
عموماً، مقابل العلم المبذول الذي اطلعوا عليه.
وبعبارة أخرى: أن يكون العلم العام أو المبذول هو الذي أطلع الله عليه
الملائكة والأنبياء (سوى محمد وآله)، وأن يكون العلم المكنون هو الذي
لم يطلع عليه أحداً من الأنبياء والملائكة (سواهم عليهم السلام)
أي أنه يمكن أن يخص به محمداً وآله دون سائر النبيين والمرسلين، ولعل
في الرواية التالية إشارة لهذا المعنى:
- فعن أبي عبد الله عليه السلام: إِنَّ لِلَّهِ عِلْمَيْنِ عِلْمٌ
تَعْلَمُهُ مَلَائِكَتُهُ وَرُسُلُهُ وَ عِلْمٌ لَا يعلم
[يَعْلَمُهُ] غَيْرُهُ، فَمَا كَانَ مِمَّا يَعْلَمُهُ مَلَائِكَتُهُ
وَ رُسُلُهُ فَنَحْنُ نَعْلَمُهُ، وَمَا خَرَجَ مِنَ الْعِلْمِ
الَّذِي لَا يَعْلَمُ غَيْرُهُ فَإِلَيْنَا يَخْرُجُ.(بصائر الدرجات
ج1 ص112)
وهو واضح في اطلاعهم على العلم الخاص الذي لا يعلمه الملائكة والرسل،
والتعبير في بعض النصوص بالعلم المكنون وإن كان ظاهراً في أنه محجوب
عن (الخلق) حتى عنهم عليهم السلام، إلا أنه قد يراد منه أنه محجوب عن
عموم الخلق بمن فيهم الملائكة والرسل، إلا محمداً وآله عليهم السلام
كما في هذا الحديث وغيره.
ويشير إليه أيضاً التعبير ب(علمه العام) مقابل العلم الخاص، فيدل
العلم العام على ما يبذل للأنبياء والملائكة، والخاص على ما يختص
بمحمد وآله: وَأَمَّا عِلْمُهُ الْعَامُّ فَهُوَ الَّذِي اطَّلَعَ
مَلَائِكَتُهُ الْمُقَرَّبُونَ وَأَنْبِيَاؤُهُ الْمُرْسَلُونَ..
(بصائر الدرجات ج1 ص111)
وتدل على هذا المعنى أيضاً جملة من النصوص منها:
- ما روي عن الإمام الحسن عليه السلام: إِنَّا نَعْلَمُ الْمَكْنُونَ
الْمَخْزُونَ الْمَكْتُومَ، الَّذِي لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ مَلَكٌ
مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ غَيْرُ مُحَمَّدٍ (صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وَ ذُرِّيَّتِهِ (عَلَيْهِمْ السَّلَامُ).(دلائل
الإمامة ص: 171)
وقريب منه ما في نوادر المعجزات في مناقب الأئمة الهداة عليهم السلام،
ص: 235
- وقول أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة عن رسول الله:
فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ وَخَازِنُ عِلْمِكَ الْمَخْزُونِ
(ص101)
- ما روي عن أبي عبد الله عليه السلام بعد ذكر السماع عن الصادقين:
وَذَلِكَ الْبَابُ الْمَأْمُونُ عَلَى سِرِّ اللَّهِ الْمَكْنُونِ
(الكافي ج1 ص377)
- وما روي عنهم عليهم السلام: ما نحن خزانة على ذهب ولا فضة، ولكن على
المكنون من علمه (شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار عليهم السلام
ج3 ص402)
وأمثالها من الروايات التي دلت على اطلاعهم على العلم المكنون
المخزون.
وخلاصة القول
أن البحث في علم النبي والإمام وإن كان بحثاً تقصر عنه عقولنا وتضيق
عن استيعابه أفهامنا، إلا أن لنا أن نتلمس من روايات آل محمد شذرات
حول علومهم بقدر وسعنا وطاقتنا..
وبعد ملاحظة النصوص ووجوه الجمع بينها، يتبين أمور:
1. دل العقل والنقل أولاً على أنه لا يعلم الغيب إلا الله تعالى.
2. قامت الأدلة على أن الله تعالى أطلع النبي والأئمة على (كل شيء) ما
خلا حقيقة الذات الإلهية المقدسة التي يمتنع الإحاطة بها.
3. أن نصوص اختصاص الله تعالى لنفسه او أنه استأثر لنفسه بحرف يمكن
حملها على ما امتنعت الاحاطة به وهو الذات الالهية.
4. فلا تكون هذه النصوص دليلاً قطعياً صالحاً لتخصيص عموم علمهم ب(كل
شيء)
وسيأتي البحث في سائر الجهات بإذن الله تعالى