قبسات الهدى (1).. وقفات مع فكر الدكتور شريعتي..

2021/01/18

شعيب العاملي

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعنة على أعدائهم إلى يوم الدين..

عديدة هي الظواهر التي أثارت لغطاً في الأوساط الشيعية قديماً وحديثاً، ومتنوعة هي بين أشخاص وأفكار وتيارات وغيرها..
وأحد نماذجها هو الأستاذ الجامعي الإيراني الدكتور علي شريعتي(المتوفى سنة 1977م)، الذي تقلبت رؤاه في أقدس المعتقدات بين طرفي نقيض..

فيوماً وصل به الحال إلى الشك المطلق حتى في أهم المسائل الاعتقادية عند كل الأديان ألا وهي مسألة التوحيد فقال محدِّثاً عن نفسه: تعرضت لحملة أفكار خطيرة مسمومة... ألفيت نفسي داخلاً في معترك فكري فلسفي حول وجود الله أو عدم وجوده... رأيتني أمام واقع مرعب يهدد كياني من الأساس ... واستولى علي اليأس والقنوط! (معرفة الإسلام ص144-146) ويوماً آخر طرح نفسه مُنَظِّراً لمذهب الحق ومُجلِياً لحقائقه ومُخلصاً من الخرافات والأساطير !

وهو الذي قرأ محمداً وعلياً بإنسانيته قراءة عميقة وجاهر بعصمتهم ولزوم اتباعهم والأخذ عنهم في كل مجالات الحياة لأنهم أفضل من يمكن الاقتداء به، فقال فيما قال عن عليّ عليه السلام: أنه أعظم شخصية إنسانية على الإطلاق عدا رسول الله (الإمام علي في محنه الثلاث ص40) ويقول عنه: إنه عليّ، نموذج النماذج، ورب النوع لجميع الأنواع، إله جميع الآلهة، إله العظمة، إله القداسة، إله الجمال، إنه الحلم الطموح الذي كان يراود البشرية دائماً وأبداً... علي شخصية جمعت صفات كل هذه الآلهة التي كان الإنسان يتمناها ويحلم بها (المصدر ص90) بل قال عنه: هذا هو معنى قول الإمام (أنا القرآن الناطق)... أنا (إمام).. نموذج مثالي أعلى، والنموذج لا يزلّ.. لا يشطّ.. لا يضعف في حياته أبداً.. لا يعتري فضائله ولا عواطفه ولا أفكاره وأعماله أبسط صور النقص والتلوث.. حياته صافية..(المصدر ص100)
ثم ما لبث في مقابل ذلك أن وصف النبي (ص) باضطراب الروح واليأس وتمني الموت وكثرة الأخطاء والجهل!! (معرفة الإسلام ص261 و266 و268 و275 و378 و379 وغيرها) وعلياً بالتردد في قبول الإسلام ! (المصدر ص280)

وهو الذي إذا قال عن أبي طالب يوماً أنه مؤمن: فهل (الدين) شيء غير الذي أظهره أبو طالب في هذه السنوات العشر وعمل به وقاله ؟ الإسلام هو العمل.. (فاطمة هي فاطمة هامش ص149) قال في يوم آخر أنه من عبدة الأوثان: محمد ينمو في أحضان عبدة الأوثان، المؤرخون المسلمون يحاولون جاهدين تبرئة ساحة عبد المطلب وأبي طالب من الشرك، وهذا ميل طبيعي وعام لدى الإنسان (معرفة الإسلام ص248)

فلا يعجب القارئ بعد هذا إن رآه يثني على من تسنم الخلافة بعد النبي (ص) فيقول أن صيت الإسلام قد ذاع بإيمان أبي بكر ومن معه، وانتقلت الدعوة من السر إلى العلن من بعد دخول عمر في الإسلام (معرفة الإسلام ص289) ويقول: أبو بكر ذو الإحساس الرقيق، كان وجوده طافحاً بحبّ محمد فضلاً عن الإيمان به(ص352)، بل يعتبر أن لإسلام عمر أثراً في تغيير المعادلة لمصلحة المسلمين (ص299) ليضمّ الأول والثاني مع غيرهم من الصحابة بقوله: لا ريب أن لهؤلاء الأفذاذ دَيناً ليس في أعناق المسلمين فحسب بل في عنق التمدن البشري على الأصعدة كافة (معرفة الإسلام ص299) ويصف الناس في زمنهم بأنهم: مسلمون ملتزمون اجتماعياً بشدة وحرص (النباهة والاستحمار ص103) ثم يزعم كما زعم بعض المخالفين انطباق كلام أمير المؤمنين عليه السلام في النهج على عمر بن الخطاب فيقول عنه عليه السلام: انه لم يتنكر للخدمات التي قدمها عمر للدولة الاسلامية لانه لا يريد أن يغمط حق الرجل على خلفية أخذ الخلافة منه بغير حق، وها هو يشيد بتلك الخدمات في كتاب (نهج البلاغة)... فيقول: لله بلاد فلان فقد قوّم الأود وداوى العمد وأقام السنة وخلف الفتنة وذهب نقي الثوب قليل العيب، أصاب خيرها وسبق شرّها، أدى إلى الله طاعته واتقاه بحقّه...(التشيع العلوي والتشيع الصفوي ص116)
ثم بعد ذلك يعود ويصف نفس الأشخاص بأنهم أعداء فاطمة (فاطمة هي فاطمة ص216) وأن الحرب بينهم وبينها سلام الله عليها هي: حرب الرجعية والثورية، العبودية والحرية، الأسر والخلاص، الذلة والسيادة والدناءة والطهارة، وأخيراً حرب أعداء الإنسانية وحماة الجهل والظلام ضد الوجوه الإنسانية ومبشري الوعي واليقظة.(المصدر ص218) ويصف دينهم بأنه: دين الشرك الذي يتستّر بلباس التقوى والتوحيد (دين ضد دين ص73) ويتحدث عن فعالهم بقوله: عندما يرتدي الجور لباس التقوى تقع أكبر كارثة في التاريخ. الكارثة التي راح ضحيتها علي وفاطمة ثم أبناؤهم وأخلافهم! (فاطمة هي فاطمة ص222) ويعبر عن المصلحة التي برروا بها تصرفاتهم بأنها : المصلحة التي ذبح بها الدهاة الحقيقة دائماً ذبحاً شرعياً مستقبلين القبلة وباسم الله! (المصدر ص221)

ولا تنتهي القائمة هنا.. فتراه يقول عن عائشة: عائشة الفتاة البكر الوحيدة التي وطأت بيت محمد، وهي المرأة الوحيدة التي كان لجمالها وطراوتها تأثير في قلب محمد ! (معرفة الإسلام ص353) ويقول عنها: أول زهرة تورق وأولى الثمار التي تنضج في البستان تهدى لزارعه !(ص352) بل قال عنها: عائشة مثال للمحب المؤمن(المصدر ص381)..
كل هذا بعدما كان قد أقرّ بحسدها لفاطمة وعلي عليهما السلام !! (المصدر ص320)

وتراه يحذّر من الأقلام المأجورة التي كتبت التاريخ من علماء البلاط ويقر بالتحريف والتزوير الهائل في التاريخ، ويقول: أعرف جيداً كم وكيف تلاعب سلاطين هذين (البيتين) بمجريات التاريخ (معرفة الإسلام ص233)..
ثم في الوقت نفسه يقرأ شطراً كبيراً جداً من التاريخ بلسان الطبري وأضرابه من أجراء السلطة (كما ذكر بنفسه في المصدر المذكور) ويتعامل معه تعامل المسلمات! ولم يوفق لما ذكره عن نفسه بقوله: تحررت - قدر المستطاع - ... من التعصب الطائفي والميول المذهبية، وأخيراً من الدسائس السياسية الأموية والعباسية (المصدر).. فإن كان قد تحرر من كل هذه الأمور فمن أين جاءت كل تلك الأقوال السابقة ؟! هذا فضلاً عما قد يلحظه القارئ من ندرة الاستشهاد بروايات العترة الطاهرة رغم أنه يرى الحق فيهم لا في عدوّهم !

وخارج هذا المضمار.. تراه تارة يذم قومه فيصف (عامة شعبنا) بالاستحمار (النباهة والإستحمار ص123) وتارة أخرى يمدحهم ويذم العلماء منهم فقط فيقول: لم تقصر أمتنا في عطائها.. ولكن علماءنا الذين يحملون على عاتقهم مسؤولية تعريف الإمام علي هم المقصرون (علي في محنه الثلاث ص179)

وهذا غيض من فيض كانت كلماته فيها قمّة في الاضطراب! بل التناقض الرهيب ! وكأنه كان لا يزال يعيش صراعاً فكرياً في كل يوم كما عاش صراعاً توحيدياً !! وكأن الآراء كانت تتقاذفه يميناً وشمالاً فلا تكاد تحط به على نبعٍ صافٍ من ينابيع آل محمد حتى تعود وتقذف به على نبع أعدائهم !!

وكما كانت مواقفه كانت ردات الفعل والمواقف من طروحاته على طرفي نقيض..
فمن جهة صدرت فتاوى الضلال بحقه أو فتاوى بحرمة بيع كتبه والترويج لها من أكابر علماء المذهب وأساطينه (كالسيد الخوئي والمرعشي والميلاني والروحاني والقمي وغيرهم)، باعتبار أنها تتضمن ما قد يوجب الضلال عند من لا يتمكن من تمييز الحق من الباطل فيها.. فما أنكر هؤلاء كلمات الحق في كتبه إنما كانت مآخذهم عليها (الخلط الرهيب) بينها وبين الباطل !

في حين عدّته جماعة من الثوريين رمزاً من رموز النضال والتحرر! وواحداً من قادة الفكر الإسلامي ! وعملت على الترويج له قدر استطاعتها بعدما جعلته محوراً بل مصدراً للكثير من الحركات الإسلامية..

ولعلّ أكثر الاخوة المندفعين والمدافعين والمتبنين لفكر الدكتور شريعتي ما قرؤوا من أقواله إلا الشيء اليسير! ومن الراجح عندنا أن جملة من آرائه الدينية لن تجد من يدافع عنها حتى بين أشدّ المعجبين به والمدافعين عن شخصه ! ذلك أنه قد تجاوز فيها مسلّمات المذهب الإمامي بحسب المعتقد الشيعي، وما كان يرى في ذلك غضاضة بل كان يحسب أنه يحسن صنعاً، وقد صرح بأنه يخالف أكثر الآراء المعروفة مخالفة تامة.. حيث قال: أغلب المواضيع المطروحة على الساحة الشيعية اليوم تجمعها قواسم مشتركة بالنسبة للمواضيع التي نطرحها هنا، حيث إن ما نطرحه -غالباً- يخالف الشائع الذي تعارف عليه الرأي العام في المجال الشيعي، يخالفه مخالفة تامة ويعاكسه في الاتجاه معاكسة كاملة (الإمام علي في محنه الثلاث ص244)
والغريب في الأمر أنه مع ذلك يقول: إن من ينكر عقيدة من عقائد الشيعة يكون سنياً وكفى ! (المصدر ص245).. ثم ما يلبث مجدداً أن يكرر تمسكه بمعتقده الشيعي وتكراره لاعتقاداته كما في كتابه (دين ضد دين) ص178.

ثم إنه ما اكتفى بهذه المخالفة، بل تحامل على التشيع (الشائع) بأن أرجعه إلى ما أسماه (التشيع الصفوي) الذي أسسه (أبو سفيان) كما يذهب !
ليخلص بعد ذلك إلى اتباع كثير من الشيعة حتى في زمانه لهذا النهج المنحرف ! ويعتبر نفسه مصلحاً ومصححاً لمثل هذه الانحرافات ! ويعتبر أن التشيع قد انقلب وصار تشيعاً آخر حيث يقول: التشيع تغير على هذه الشاكلة، فكل (يجب) فيه صارت (لا يجب)، وكل (لا يجب) صارت (يجب). (الإمام علي في محنه الثلاث ص246)

ولعلّ من كان مؤيداً أو مدافعاً إنما كان في مقام الدفاع عن (شيءٍ) من (أسلوب) الرجل لا عن (فكره)، أو عن (بعض) أفكاره التي ترتبط (بعلم الاجتماع) لا (بالعلوم الدينية) التي أقر الدكتور شريعتي أنه ينبغي الرجوع فيها إلى أهل الاختصاص..

ولما كان بنفسه قد اشتكى من أحكام أطلقت عليه دون قراءة كتبه كما قال! وكان يعتبر الحوار العلمي والحرية الفكرية أحد أهم سمات التشيع وخصائصه..
آثرنا أن نطرح هذا الموضوع في (سلسلة قبسات) متتالية تتعرض لجملة من أقواله وآرائه (الدينية على وجه الخصوص) والتي طرحت في جملة من كتبه المترجمة للغة العربية، فنعرض (بعض) هذه الأقوال.. ونناقشها نقاشاً علمياً هادئاً، مختصراً حيناً ومفصلاً حيناً آخر.. رغم أنه استنكر على من طالبه بانتهاج الطرق العلمية الهادئة! (راجع دين ضد دين ص190)
ونكتفي بذلك دون أن نغوص في النوايا والخلفيات ! ودون إصدار أحكام مسبقة.. لنسير والقارئ خطوة خطوة إلى حين انتهاء هذه المناقشات.. فيكون على بيّنة من هذه الآراء مطلعاً على (بعض) المناقشات التي ترد عليها.. فتتضح النتيجة عنده تلقائياً ولو في الجملة.. وههنا يمكن للقارئ العزيز أن يستعين بالقاعدة العلوية الشهيرة: اعرف الحق تعرف أهله..

على أننا قد اقتصرنا في ما اخترنا مناقشته على جملة من المسائل الهامة، ولم نركز على الأخطاء المنهجية إلا على سبيل الإشارة ولفت النظر.. وأكثر هذه (الهفوات) قد التزم بها المخالفون في المذهب أو المستشرقون الذين جهلوا أو تجاهلوا حقيقة الاعتقاد الحق.
ولا يفوتنا أن نسجل -للإنصاف- أن بعض الأمور التي نسبت إليه لم تكن نسبتها في محلها وكان (بريئاً) من (بعضها) غير (متبرئ) من البعض الآخر متمسك به دائماً.. وقد نعرض لذلك لاحقاً..
وقد اعتمدنا (عند ذكر المصادر) على سلسلة كتبه التي طبعتها (دار الأمير) في بيروت لمن أراد العودة للتحقق من المصادر، لئلا يقول قائل كما قال الدكتور شريعتي في من ناقشه أنهم يعتمدون على مصدر مشكوك ومجهول وموهوم اسمه (قالوا) او اخبار وكالة (قالوا) (راجع دين ضد دين ص174-175)

ورغم أن الدكتور شريعتي قد بالغ في الطعن في من خالفه الرؤى وهم أغلب علماء الشيعة وجمهور المؤمنين، ووصفهم أو بعضهم تارة بالتخلف وأخرى بالرجعية وثالثة بالجهل ورابعة بالبلاهة وخامسة بالتحجر وسادسة بالانغلاق وليس أخيراً بالاستحمار! فإننا تجنبنا أسلوب السخرية والتهكم الذي أكثَرَ منه بشكل واضح واكتفينا بعرض الحقائق كما هي.. وستأتيك سلسلة (القبسات) فيما يأتي إن شاء الله.
أخترنا لك
الوحيد الخراساني عن دعاة الوحدة: نساء لبسن عمّة وعباءة!

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف