معادلة العنف والثقافة في «الأميركي الذي قرأ جلجامش»

2022/11/25

حكاية المترجم الخائن والترجمة الخائنة لكن من زاوية سياسية وعسكرية

في رواية أحمد الشويخات «الأميركي الذي قرأ جلجامش» (غلغامش)، الصادرة عن مركز الأدب العربي لعام 2022، تتداخل عدة قضايا وهموم، مثلما تتداخل أصوات الساردين، ويشتبك الغزو الأميركي للعراق بالمقاومة التي تقض مضجع الغزو. يعلن العنوان عن معادلة هي مفارقة في الوقت نفسه تضع عنف الغزو ووحشيته أمام حضارة أرض الرافدين ليأتي التساؤل طبيعياً: من المتحضر هنا؟ الشخصية المحورية في الرواية هو الأميركي ديفيد بوكاشيو الذي نقرأه سارداً تارة ونقرأه مسروداً تارة أخرى، لكنه في الحالين مترجم يتحرك على الجسر الذي تعنيه الترجمة في تاريخ الحضارات وفي علاقة الشعوب بعضها ببعض. القوات الأميركية تحتاج ديفيد لا ليترجم جلجامش، وإنما ليقول لها ماذا يقول العراقيون أثناء ممارسة تلك القوات غزوها وبحثها الذي لا يهدأ عن المقاومة العراقية.
يخبرنا ديفيد في الصفحات الأولى من الرواية أن عائلته تعود، نقلاً عن والدة ديفيد، إلى الكاتب الإيطالي بوكاشيو مؤلف «الديكاميرون»، مجموعة الحكايات التي تعود إلى القرن الرابع عشر والتي تعد من نفائس الأدب الإيطالي والأوروبي عامة. وحين يخبرنا ديفيد، الذي قرأ جلجامش، أن تعلمه للعربية كان مدفوعاً بإعجابه صبياً بقراءته لألف ليلة وليلة، فإن البعد الثقافي للرواية يزداد دون شك، وإن أدى ذلك البعد إلى جنوح السرد أحياناً نحو استطرادات ثقافية قد تفيد القارئ لكنها تشكل تهديداً للبناء الفني للرواية.
مع أن محور الرواية هو الغزو الأميركي للعراقي فإن الرواية تستدعي أيضاً أماكن أخرى تتعلق بديفيد. أميركا، وبالتحديد سان فرنسيسكو بولاية كاليفورنيا، حاضرة بقوة، وكذلك السعودية التي سبق أن عمل فيها والد ديفيد، حين كان موظفاً في «أرامكو»، والتي زار ديفيد نفسه منطقتها الشرقية، حيث تعرف على صديقه رجب سمعان الذي تلوح عليه ملامح للكاتب نفسه، أي أحمد الشويخات، لا سيما في انتمائهما للمنطقة الشرقية من السعودية وفيما لقي كلاهما من العنت حين عبرا في جامعة البلد العربي الذي درسا فيه، دون التصريح باسمه مع أنه واضح، عن آرائهما حول مسائل تمس المقدس.
تعدد الأماكن في الرواية لم يعنِ تواري المكانين الرئيسيين للأحداث: العراق وأميركا، وإذا كان ديفيد بوكاشيو هو الشخصية المركزية في الرواية، فإن سعيه للعودة إلى بلاده بإقناع الجيش الأميركي بالسماح له بذلك ثم عودته في آخر الرواية هو الخيط الناظم الرئيسي فيها. موقعه بوصفه مترجماً يجعله في المنطقة الأكثر حساسية من الناحيتين الثقافية والسياسية، إن جاز التعبير: «كانت الشكوك تحول حول ديفيد بوكاشيو، كشخصية عجيبة، قد تكون على صلة بالأعداء. كان تحت المراقبة وهو لا يدري». قراءته لجلجامش وألف ليلة وليلة، حبه للغة والثقافة العربية جعلت الجنود في المعسكر الأميركي يصنفونه «رجلاً متعاطفاً جداً، بل متساهلاً، مع السكان المحليين أثناء الترجمة». إنها حكاية المترجم الخائن والترجمة الخائنة، لكن من زاوية سياسية وعسكرية في المقام الأول.
تتخذ الشكوك حول ديفيد بعداً واضحاً ودرامياً حين يحدث تفجير لإحدى الدوريات العسكرية الأميركية التي انطلقت لتبحث عن أحد قادة المقاومة العراقية، الرجل الذي تفتتح الرواية بإحدى هجماته وردود الفعل الأميركية على ذلك الهجوم. تلك الهجمات التي تصعد بالسرد إلى توتر درامي تكثف أيضاً التوتر الإنساني والثقافي الناجم عن الغزو. المفاجأة التي تنتظر القارئ ولا يجد تفسيراً مقنعاً لها هي أن كل أفراد الكتيبة الذين قتلوا نتيجة التفجير ماتوا ما عدا ديفيد. هي نجاة عجائبية لا سيما أنها أدت إلى بقاء ديفيد مع المقاومة العراقية (أو الإرهاب، كما يراه الأميركيون) وتحوله كما يقول هو إلى أسير لديهم. إنها تزيد من الشكوك حول انتماء ديفيد ومدى إخلاصه للأميركيين، الأمر الذي يفسر المدة الطويلة التي اقتضاها التحقيق معه. أسرة ديفيد التي تبلغ في البدء عن وفاته تفاجأ هي الأخرى بأنه حي يرزق وتنتظر عودته مجدداً بعد أن تهيأت لمراسم عزائه.
من الجوانب التي تسترعي الانتباه والاهتمام في «الأميركي الذي قرأ جلجامش» والتي تبدو منافسة للمتن السردي، هو الجانب الثقافي المتعلق مرة بالأدب ومرة أخرى بالفنون، إلى جانب الأساطير وحب المعرفة والاحتفاظ بالمكتبات والجامعات وما فيها من تخصصات، وما إلى ذلك. هذا الجانب يبرز لدى ديفيد بوصفه مترجماً مثقفاً كما لدى صديقه رجب سمعان. وإذا كان بعض ذلك يصدر عن الشخصيات نفسها، فإن بعضه الآخر يصدر عن راوٍ عليم، كما يحدث عند تحليل اللوحات. ومن أمثلة ذلك وصف أحد البورتريهات في منزل الأسرة في سان فرنسيسكو: «وفي البورتريه بدا نصف وجه الجد موريللو مشعاً جداً أمام خلفية داكنة على طريقة لوحات الرسام كورفاجيو وهو يستخدم تقنية الكيروسكورو (تضاد النور والظل)، مع لمسات جريئة بالفرشاة على طريقة رامبرانت». هذا الوصف ينم عن معرفة وثيقة بالفن التشكيلي الأوروبي تتضافر مع المعلومات المبثوثة في جنبات الرواية حول الأعمال الأدبية والأساطير التي يصعب تصور صدورها عن كاتب غير مثقف ثقافة واسعة في هذه المجالات.
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو إلى أي حد يبرر السرد تلك الاستطرادات، وهل هي مقحمة عليه؟ إن حضور مثل تلك الاستطرادات ليس غريباً على أعمال روائية كثيرة وكلما عظمت ثقافة الكاتب كان إغراء دمجها في السرد أعلى. لكن من الخطأ القول إن الأعمال الروائية التي يقل فيها ذلك التدخل الثقافي التحليلي تنم عن محدودية ثقافة الكاتب. الفرق هو في قدرة الكاتب على توظيف تلك الاستطرادات، بحيث لا تبدو كأنها كذلك، أي أن تكون مقنعة سردياً بدلاً من أن تكون حشواً كما يعبر البلاغيون. الشويخات حريص، كما يتضح، على ألا تبدو تلك الإضافات غير مبررة، فهي إن دخلت في موضع على أنها من راوٍ عليم مباشرة، فإنها في موضع آخر تدخل على لسان شخصية خبير، وإن كان من ينسبها إليه راوياً عليماً أيضاً. ومثال ذلك حين نستمع إلى لورا، زوجة ديفيد، تتحدث عن مأساة فقد زوجها حين ورد خبر وفاته. يتغير الصوت السارد فجأة ليروي ما تشاهده الزوجة وبقية رواد مقهى «النورس الأبيض»: «تدير رأسها إلى رسومات متفرقة لبابلو بيكاسو تغطي الجدران...»، ليتلو ذلك وصف للوحة «الجرنيكا» (ويرد اسم اللوحة بالحروف الأجنبية) مقروناً بوجه ديفيد. هنا يأتي الحديث عن اللوحة التي تعبر عن العنف مناسبة للظرف والحدث، وكذلك الحال مع الإشارة التي تتلو إلى لوحة للرسام الإسباني الآخر «جويا»، لكن هذه المرة ينسب التعليق إلى ناقد فني كان صديقاً لديفيد، وهي ملاحظة دقيقة يصعب صدورها عن غير ذي خبرة بالفن التشكيلي عامة، وباللوحات المشار إليها تحديداً.
عنوان رواية أحمد الشويخات يحيلنا منذ البدء على الثقافة واضعاً إياها في منطقة توازن مع العنف الناجم عن غزو العراق، الثقافة التي يمثل حضورها من خلال ديفيد وأصدقائه، سواء كانت ثقافة الأدب أو الفنون أو الترجمة لوناً من المقاومة لجريمة الغزو وما جر إليه من دمار. هو مشروع سردي طموح وجدير بالاحتفاء والتقدير، والمعادلة التي سعى إليها بين العنف والثقافة لا تتكرر كثيراً على صعوبتها وكثرة مزالقها في العملية السردية.

أخترنا لك
انظُرْ وراءك... بهدوء!

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة