بقلم:نجوى معروف/ الراية
هي.. طفلةٌ في مريول المدرسة، تذهب بابتسامة وتعود بدمعة، تحلم بنجمةٍ على كراسة الواجب، وبفرصةٍ للحدّ من تلعثمها اللاإرادي، تستجدي ببراءةٍ صبر المُعلّمة، لتُكْملَ تلاوة ما تَيسّر من القرآن: «ويلٌ لكلِّ هُمزة لُمزة»، لمْ يمنعهم التذكير عن الهمزِ واللمزِ، كما لم تُسعفها مُربيّة الفصل، فاكتفت بالمُناجاة، إلا أن قومي لا يفقهون.
هو.. طِفلٌ من عائلة مُتَدَيّنة، تلميذٌ نجيبٌ في مدرسة أجنبيّة في بلد عربيّ إسلامي، لا يُحسن التعبير باللغة العربيّة، ولا أمّه تُجيد الإنجليزية، العلاقة أشبه بحوارِ الصُمّ، لم تُحاول تعليمه لغتها، ولم تبذل جهدًا لتَتعلّم لغته، فاكتفت بالدعاء علّ الله يهديه لسماع كلامها ويرزقها بِرّهُ.
هي.. كانت تبحث عن مَعْبَرٍ يُخلّصها من حصار البنادق، علّها تولد من رحم الأنفاق، مُتَمسّكة بحقها في حياة آمنة، باعت خاتم الزواج وهديّة والديها لقرصانٍ مُبْتَدئ، وارتمت في زورقه للمجهول، وصلَتْ إلى شواطئ الأحرار، لكن هيهاتَ هيهاتَ.. أن يولدَ المرء مرّتين.
هو.. كان يموت على مهلٍ كلّما جاع عياله، يبصم على جباههم قبلات وداعٍ، ويَعِدهُم بسمكة ذهبية، ثم يزحف قبل الفجر إلى شاطئ غزّة، علّ السمك يعرف الطريق إلى شِباكِهِ، لكن رصاصات الغدر أقالته من الحياة.
هي.. بين إصراره على ترويضها لتشاركه هزائم الانفصام، وبين تمسّكها بما تبقّى من ذاتها المطواعة، أضحت في طوابير الطلاق بِلا حول ولا قوة إلا بالله، كغيرها من المُنتظرات لحُكمِ قاضٍ لا عِلْمَ له بأدوات النحت التي مورست في تعديلها حدّ التشوّه، لتصنع منها اختلافًا هشًّا، لَخّصت العدالة شبابها بورقةٍ في أرشيف التفريق، وصدق الله وعده وأغناها من حيث لا تحتسب، قُل إنّ مع العسر يُسرًا.
هو.. بكل إنجازاته وحواراتهِ الصمّاء، كان ضحيّة أُمٍّ أرهقها استنساخُ تجارب السابقين في معمل الزوجيّة، وبكلِّ ما أوتيت من دموعٍ قرر أن يشفي غليلها من باقي النساء، وتقديم ما استطاع من قرابين تروي عطش سنواتها العجاف، فلا هي ارتوت، ولا هو استكان.
هي.. لم تحظَ بمساحة انفصالٍ عن أجواء أُسرتها الغائمة، بيضُ السحائبِ حَجَبَتها عن الأنظار، فانسَلَّ كبرقٍ خاطفٍ على أمل المراوغة، ثم ابتعدَ على أملِ العودة، أطلقت لساقَيْها حريّة الحرث، لم تُخلق بجذورٍ تغرسها في الأرض، لكنّها أنبتت خيرًا في البُعْد الآخر.
هو.. رسم لها حدودًا من نواميس الأنا، لكن الطبيعة لا تحتمل هذا الكَمّ من حقول النرجس، ظل يمدد سياجه لتبقى في حوزته، لم تُرِد منه سوى التوازي، فأصَرّ على انحناء الخطوط، ضاع في المُنعطفات، وأكملت على صراطٍ مستقيم.
هي.. مات ابنها كغزالٍ يجري من الوحوش.. على بُعدِ مدرسةٍ وكتابٍ.. بلغ قلبه سبعين انتفاضة، وابيضَّ شعره ألف عام، فلتتقِد الحسرة وهجًا لا يُطفئه.. إلا الثأر.