بقلم :نجوى معروف/ الراية
وصلتني عدة رسائل حول المقال السابق «الخوف من المدرسة»، بصراحة تألّمت لبعض الحالات، التي كان بالإمكان تداركها لولا الاستهانة بذكاء الأطفال ومشاعرهم، وقدرتهم على استشعار أن ثمة ما يُخفيه الأهل، من نبرة الصوت وحركة العين ولغة الجسد والمجريات المُحيطة، تحديدًا بين المُقربين كالوالدين أو الجدّيْن، فالكذب يُفقدهم الثقة بالآخر ويزعزع شعورهم بالأمان، ويُسبب لهم الحزن والعُزلة، وفقدان الشغف بالمعرفة.
يولد الأطفال على الفطرة السليمة بقلوبٍ وعقولٍ صافية، ثم تبدأ عملية التخزين والبرمجة العصبيّة والإدراك من خلال نعمة الحواس الخمس، والأهل، والبيئة، والتجارب الشخصيّة.
اشَتكَت إحدى الأمهات من كآبة ابنها ذي الأربعة أعوام وتمنّعه عن المدرسة، رغم أنها نقلته إلى مدرسة جديدة، لكنّه حزين ومُنعزل ويقول إنّه يذهب لإرضائها فقط، لكنّه تعيس ولا يُصاحب أحدًا.
بعد حوارٍ بسيط، تبيّن أنّ جدّه توفي أثناء سفره منذ عام تقريبًا، وكان الطفل مُتعلّقًا به، وقرر الوالدان إخفاء الأمر عن الطفل خوفًا على نفسيّته، لدرجة أنّه سأل والديه في فترة العزاء لماذا يقيمون الولائم أثناء سفر جدّه، ومهما كرر السؤال بطرق غير مباشرة، سمع نفس الإجابة: جدّك مُسافرٌ.
الطفل يُدرك أن بإمكان جدّه الاتصال به، فلماذا يعاقبه ولا يتكلم معه؟ ويسأل نفسه تُرى بماذا أخطأت؟ هل أستحق كل هذا الجفاء؟ كنت أحبه كثيرًا، ألم يَشتقْ؟ لديه شَكّ في أقوال والديه، فهو يعلم أن الحياة لا تخلو من الموت، لكنّه لم يتجرّأ على السؤال بشكل مباشر، كأنّه لم يعد راغبًا في سماع أكاذيبهم.
يعيش المكتئب في حوارات داخلية، وتكرر ذاكرته بث مشاهد المواقف الصادمة التي تتغلب عليه، وتوصف مشاعره بأنّه مجروح، أو مضطهد، أو مظلوم، أو مُحبط، أو نادمٌ لسوء تصرفه بالتهوّر أو التقاعس.
إذا استمعنا لمعاناة المكتئب جيدًّا، قد لا تبدو بعض المواقف صادمة بالنسبة لنا، لكن وقعها مختلف التأثير من شخص لآخر، ضمن ظروفه وخبرته الخاصة، ومن الصعب أن نضعَ أنفسنا مكان الآخرين.
لا لون للكذب، فلا تُصَنِّفوه أبيض متى شئتم، ولا تجعلوه ذريعة لتهدئة النفوس أو للإصلاح بين الناس، كما لا تُفسدوا بينهم بنقل الآراء السلبية، فالآراء والأحكام الشخصيّة، تعتبر أمورًا نسبيّة، وغير مطلوبةٍ ولا مرغوبة.
أما أخبار المرض والوفاة وما شابه ذلك كالرفض الشخصي والرسوب مثلًا، فالتدرج في إبلاغها مطلوب، وتحمّل ردود الأفعال وتهدئة النفوس واجبٌ يُطيّب الخاطر.
الصراحة كوخزة اللقاح، تُؤلِمنا لفترة وجيزة، لتمنحنا مناعة طويلة الأمد.
وما زالت الأم تُخفي الخبر عن ابنها الحزين، ولا تعرف سبب كراهيته للمدرسة، هل هو التنمّر، أم الخوف من الابتعاد عن البيت، أم ماذا؟
يقول المثل: «وجع ساعة ولا كلّ ساعة»، ووجع الأم من وجع أبنائها، فمن يدلّها على سُبل العلاج؟!