الرئيس عز الدين سليم ومستقبل العراق السياسي

2022/05/16

بقلم الأستاذ المرحوم / جهاد كريم  العيدان

ـــــــــــــــــــــــــــــ

رغم تطاول البعد الزمني على شهادة رئيس مجلس الحكم السابق في العراق الاستاذ والمفكر عبدالزهرة عثمان محمد واسمه الحركي عزالدين سليم الا ان القضية مازالت مبهمة واحد اسرار الوضع العراقي الموسوم بالمطلسم سيما وان القضية لفها الكثير من النسيان والجمود ووضعت على رفوف الماضي وطواها غبار الزمن لتسجل ضد الارهاب وابو مصعب الزرقاوي دون اي تمحيص او تحقيق عملي ودون التحقيق العلمي واستسقاء المعلومات من مظانها والتي يمكن من خلالها تسليط الضوء على هذه القضية ,هل هي خيانة , او جناية او نذالة  , كما يمكن من خلال دراستها تسليط الضوء على طبيعة الجريمة  والجهات المنفذة والمستفيدة او التي لها اصابع من قريب اوبعيد .

ان توقيت اغتيال الشهيد عز الدين سليم كان يحمل في طياته الكثير من الرسائل والدلالات والاستحقاقات والاستقطابات , ولم يكن حادثا عرضيا اوعابرا او مجرد عمل ارهابي , كما حاولت ردود الافعال تحجيمه في كونه عملا ارهابيا , كما هو الحال في البيانات الصادرة سواء عن مجلس الحكم انذاك الذي وصف الحادث بالارهابي , ووصف غازي عجيل الياور الذي تولى الرئاسة الدورية خلفا لسليم اغتياله بأنه عمل إرهابي خسيس وجبان , او من خلال الادارة الامريكية المحتلة حيث ادان الحاكم الأميركي للعراق بول بريمر عملية الاغتيال ووصفها بالعمل الخسيس, اما نائب قائد قوات الاحتلال الأميركي في العراق والمتحدث باسمها الجنرال مارك كيميت فوصف الهجوم بالانتحاري متهما ما وصفها بجماعات إرهابية في العراق بمحاولة إخراج العملية الديمقراطية واستعادة السيادة عن مسارها.

لاننسى ان عملية اغتيال الشهيد عز الدين سليم لم تكن عملية منفردة او طارئة اواعتباطية اومنفلتة بل هي مخططة ومدبرة ومبرمجة ووراءها مخابرات دولية وهي تحمل بصمات واضحة لعمل تخريبي كبير ومبرمج يطال العملية السياسية باسرها ومستقبل الوضع العراقي , فضلا عما تحدثه عمليات الاغتيال من قلق واضطراب سياسي واجتماعي داخلي ، تمهد للقرصنة المخابراتية وتفسح المجال امام اختراقات امنية قادمة تمخضت في القادم من الايام عن ظهور جماعة داعش الارهابية التي تم التاسيس لها وتاطيرها والتنظير لها من خلال هذه الجريمة التي لم يتم التعامل معها بسلوك مناسب ومسؤول وحازم من قبل المعنيين في القضية العراقية .

فالجريمة جاءت بشكل مفاجئ في الظاهر ولكنه مدروس ومبيت من اجل الاطاحة بالمكاسب التي تمت من خلال جهود هذا الرجل المجاهد الذي حمل صوته وحجته ومنطقه لايجاد اجماع سياسي حول العديد من القضايا موضع الخلاف , وقد قالت عنه بعض الزعامات السياسية انه - رحمة الله تعالى عليه - كان قطب الرحى والمرجع للسياسيين عندما يختلفون حول قضية ما , حيث كان يجد لهم الارضية المناسبة والحل الوسط لاحتواء الخلافات , وفتح نافذة جديدة لرؤية العراق في موقع القوة والاقتدار , وهذا ماتعارضه جهات داخلية واخرى خارجية لانه يفضح اجنداتهم , واتذكر انه اخبرني بانه في حالة اعياء وعدم ارتياح من سلوكيات وافكار بعض السياسيين الذين وصفهم بالتسطيح السياسي لعدم الخبرة وعدم المسؤولية لان همهم الوحيد هو الحصول على المكاسب , دون النظر الى النتائج او المخاطر الكامنة وراءها , وما يُراد منها من محاولة لخلط الاوراق وتصفير المطالب .

ثمّة مراقبين يرون انه كلما انتهك المجال الامني للبلاد كلما وجدت بعض القوى السياسية فرصة للتماهي مع اللعبة السياسية البعيدة عن المصالح الوطنية , وان وجود رجل بمستوى (ابو ياسين ) يمكن ان يشوش او يوتر الاجواء ضدهم , واتذكر ان قياديا حركيا (.....) كان اجرى مباحثات سرية مع الامريكان وعندما تناهى الخبر للشهيد ابي ياسين حينها انتفض وغضب لذلك اشد الغضب وعاتب تلك الشخصية بشدة ورفض ان تتم الامور بعيدا عن اطلاع القواعد الشعبية لان المسؤول حسب رايه ليس ملك نفسه بل انه ملك للقواعد الشعبية وهذا ما اثار غضب جهات معينة عليه لانه يتحدث بصوت الشعب وضمير الناس وهذا مفهوم غائب عن الساحة السياسية العراقية , كما ان الجهات التي وقفت وراء هذه الجريمة ارادت التخلص من شخصية بدات تتحول الى رمز والى ثقل وطني يصعب ازاحته لو استمر خاصة وان اخلاقه وكلماته تدخل سويداء القلب وتحظى بمقبولية منقطعة النظير ، ناهيك من جهات تتصيد في المياه العكرة حيث ارادت تحويل عملية الاغتيال الى تصفية حسابات سياسية اقليمية وداخلية وذلك بغية تاجيج الوضع الداخلي وتحويل الانظار عن قضية انسحاب القوات الامريكية من العراق ، وبث جرعة من الصراعات والخلافات الداخلية ، فضلا عن تعطيل النهوض السياسي الواقعي والديمقراطي المطلوب في العراق الجديد.

بمقابل هذا، تبرز نتائج التحقيقات في ان منفذي الاغتيالات، هم جهات خارج العملية السياسية، وهم في الغالب جماعات مسلحة، ترتبط بالقاعدة وغيرها من التنظيمات التي تعتمد العنف وسيلة لبلوغ مراميها دون التعرف على الجهات التي تقف وراءها ومن هي الجهات المنتجة والممولة والدالة لان من المبادئ الأولية فى البحث الجنائى أن تتجه أنظار من يبحث عن الفاعل فى جريمة لا يعرف الفاعل فيها إلى صاحب المصلحة المستفيد من وقوعها، وأحيانا يكون الفاعل رغم معرفته والقبض عليه، ليس هو الفاعل الحقيقى للجريمة بل أداة من أدواتها مثل السلاح المستعمل تماماً، وأن هناك من له مصلحة وغايات حرّكه ورسم له الطريقة التى يرتكب بها الجريمة وأمّده بكل ما يلزم من اسباب ومعلومات لارتكابها، لأنه لا توجد جريمة بلا مصلحة يجنيها المجرم من وراء ارتكابها...

اما مايقال عن الجهة التي أصدرت بيانا أعلنت فيه مسئوليتها عن عملية الاغتيال وهي منظمة «حركة المقاومة العربية - كتائب الرشيد» فالواقع الملموس يؤكد انها جهة غير حقيقية، ولم تكن معروفة سابقا، لذلك فإن بيانها يهدف إلى التغطية على المنفذين الحقيقيين لهذه العملية.

وتشير استطلاعات للرأي أجريت سريعا بعد الحادث إلى أن معظم العراقيين، يدينون مثل هذه العمليات، وأن بعضهم يشكك في ضلوع جهات أجنبية في هذه الحوادث، ويقول إن الساحة العراقية أصبحت مركز صراع بين مخابرات دول إقليمية - شرق أوسطية، إضافة إلى مخابرات الدول الكبرى. وهناك من يربط بين هذه الحادثة وحوادث أخرى شبيهة مثل طريقة اغتيال السيد محمدباقر الحكيم ونسف مقر الأمم المتحدة في بغداد وغيرهما من الحوادث، ويقول إن اغتيال الحكيم جاء بعد خطابه الذي هاجم فيه الوجود الأميركي وطالب برحيل القوات الأميركية، من العراق فورا.

والأمر ينطبق على عزالدين سليم الذي له مواقف وطنية وتصريحات معادية للوجود العسكري الامريكي وافكاره التحررية التي يدعو من خلالها الى دولة الانسان هذه لاتنسجم مع الرؤية الامريكية لما يجب ان يكون عليه العراق ونفس المشكلة صادفتني عندما كنت القي محاضرة في احد مساجد القرنة بعد شهادة الرئيس عز الدين سليم وتطرقت فيه الى الدور التغييري والانساني الذي قام به الشهيد من اجل تنوير الراي الشعبي العراقي واثرت علامات استفهام حول احتمالية وجود دور امريكي ما يقف وراء جريمة الاغتيال , فاذا احد الاشخاص يهمس في اذني ويطلب مني الكف عن مثل هذه المقولات لان كلفتها وثمنها كبير حسب قوله . وبالفعل فان بعض المؤشرات وبعض التكهنات لاتعفي واشنطن ووكالة مخابراتها ان تكون وراء الحادث او ربما تكون الموساد التي كانت  تعمل في شمال العراق وتدرك اهمية وابعاد نشاط الشهيد وافكاره القيمة هي وراء عملية ارهابية كهذه من اجل تحقيق عدة مكاسب وعلى راسها تفريغ الساحة العراقية عموما والكردية خصوصا من تاثير وحضور وافكار هذه الشخصية الانسيابية الفكرية سيما اذا عرفنا ان البرزاني كان يسمع من الشهيد توصيات يقبلها في الظاهر الا انه في الباطن وفي قرارة نفسه يستاء منها ويرى فيها تدخلا في توجهاته وتحركاته.والملفت ان عملية الاغتيال جاءت  بعد عودته من اربيل الى بغداد اثر محادثات اجراها مع زعماء اقليم كردستان العراق , وبالطبع ركزت المحادثات على خطوط اساسية من بينها بلورة اجماع سياسي للمكونات العراقية على خروج قوات الاحتلال وعلى تشكيل حكومة وطنية فاعلة وعلى اشراك كل العراقيين في العملية السياسية وابعاد العراق عن صراع النفوذ الدولي , وتعويض العراقيين عن الماسي التي تعرضوا لها في الحكومات السابقة , هذه الخطوط الاساسية اطلعت عليها عبر اتصالاتي الهاتفية بالشهيد (ابو ياسين ) قبيل سفره الى اربيل , وحدثني عن مشروع سياسي متكامل كان يعد له لمرحلة مابعد خروج القوات الامريكية , من اجل تعزيز اللحمة الوطنية واخراج قوات الاحتلال , وكسر حالة القومية المتطرفة لدى الزعامات الكردية , اذ كان رحمه الله يردد كثيرا على مسامع مسعود البرزاني بان يترك دعوات الانفصال والتغريب لانها تعني في واقعها اغتيالا لقضية الاكراد , وانتحارا سياسيا للزعامات الكردية التي تعتاش على هذه الاسطوانة المشروخة .

اما اشراك القاعدة وجماعة ابو مصعب الزرقاوي او المحسوبين على الجماعات الارهابية الاخرى بدم الشهيد عز الدين سليم وبهذه الطريقة فهو سيف ذو حدين حيث اريد من خلال هذه الجريمة الاطاحة برجل توفيقي حكمائي لايرى للمذهب او القومية اية اهمية او قبول في العمل التغييري ودائرته الانسانية لذلك اريد من هذه الجريمة اعادة مشهد الخلاف الشيعي – السني الى اعلى درجاته والقول بان التعاطي مع اهل السنة غير مقبول ويجب تفعيل وتفجير الانشطار المذهبي ودفعه الى المزيد من الطائفية والى المزيد من التطرف , كما اريد من هذه العملية القول بان الوطنيين لايمكن ان يكونوا بمامن من اذناب وايتام البعث ومرتزقة القوى الكبرى وان سيادة الارهاب ستكون هي المنطلق الجديد للوضع العراقي وان شهادة رئيس مجلس الحكم ونائبه طالب قاسم الحجامي ( ابو محمد العامري) ماهي الا مرحلة تاسيسية من اجل تفريخ الارهاب والصعود به الى مستوى الحاكمية في الوضع العراقي وهذا ماتجلى بعد ذلك حيث شهدنا قيام كيان داعشي سيطر على غالبية مدن غرب البلاد واجزاء كبيرة من سوريا .

ان اغتيال الشهيد عز الدين سليم هو بالحقيقة اغتيال لسيادة العراق المرتقبة والتي كان العراقيون يتطلعون اليها بعد ان تحول الوجود الامريكي في العراق الى كابوس , كما انه اغتيال للاستحقاق الثوري والتحرري الذي كان الشرفاء والحريصون على عراق حضاري يتطلعون الى تحقيقه , وكان في مقدمتهم الشهيد ابو ياسين الذي اسرّ لي عدة مرات بان الامريكان لايريدون للعراق ان ياخذ مساره بالاستقلال الحقيقي والناجز ,كما ان اغتيال رئيس مجلس الحكم العراقي السابق ياتي اثر انتقادات لاذعة وجهها الشهيد لتصرفات وعمل قوات التحالف في العراق حيث صرح قبل يومين من اغتياله بأن قوات التحالف ترفض حل مشكلة السيد مقتدى الصدر بالطرق السلمية، وهدد بالانسحاب من مجلس الحكم، وكان الشهيد ترك مجلس الحكم وغادر إلى مدينة البصرة أثناء ضرب مدينة الصدر من قبل قوات التحالف وكذلك مدينة الفلوجة، ولكن أعضاء مجلس الحكم تدخلوا وأنهوا اعتكافه في البصرة من خلال تأكيدات ووعود بأنهم سيضغطون بصورة أكثر على قوات التحالف ويحولون دون تكرار هذه الاعمال .

هذه المواقف المتحررة والوطنية لايمكن استيعابها من دولة تعتبر نفسها بانها عظمى وانها القيمة على شؤون العالم , كما أن هذه المواقف الثورية لا يمكن أن تُنسى من قبل قوات التحالف، ولايمكن ان تغفر للشهيد ذلك الرجل الاصيل والوطني والذي يطلق رصاص الكلمات الناقدة بوجه حاكمهم المدني في العراق بريمر , وعليه فإن بعض الآراء توجه أصابع الاتهام إلى منظمتين أكثر من غيرهما وهي الـ CIAأو الموساد.

واخيرا فان اخلاقية الشهيد وعطاءه الفكري احد العوامل المساعدة لقيام جماعات حاقدة وتكفيرية بارتكاب هذه الجريمة خدمة للاسياد وللمتبنيات الشريرة والمشوهة حيث كان الشهيد عز الدين سليم يؤمن بدولة الانسان والتجربة الانسانية إيمانا عميقا وكان يقول (خرجنا من تجربة الطغيان والظلم والعدوان وان لنا تصحيح الاوضاع بما يؤدي الى خلق تجربة انسانية ريادية , خاصة وان الفرصة متاحة لنا ان نبني تجربة انسانية تخدم جميع العراقيين , ويتسائل رحمة الله عليه : فهل نحن قادرون على صنع هذه التجربة المهمة والرشيدة ؟ كان يقول رحمة الله تعالى عليه يفترض بنا ان ننشئ دولة تحترم الانسان وقيمة اختياره وان نحقق العدالة فذلك هو جوهر الدين وهذا مايدعو اليه الاسلام ).

ان الشهيد وخلال مسيرته المتالقة كثيرا مايقول ( ان الامة في العراق العزيز بحاجة الى ثقافة بناء تتلمس من خلالها مواضع اقدامها وهي تسلك دربها تجاه بناء العراق الجديد على اسس الرحمة والتسامح والعدالة والحرية المسؤولة ).

كان الشهيد ابو ياسين متدينا ليس بتلك الصبغة الروتينية للدين او تلك الجنبة الدينية الانغلاقية بل كان يعتبر الحالة الدينية جسرا نحو العبور الى الجانب الانساني الواسع والاصيل ، لم يكن يميز بين الناس على أساس التدين أو عدمه, بل كان يدعو إلى حكم إسلامي ولكن عن طريق الحكمة والموعظة الحسنة وليس عن طريق الاكراه او الترهيب , وكان يعتبر الخوض في الأمور السياسية من اختصاص المهتمين بأمور وشؤون الناس فقط ولا يمكن أن يجيدها او ينبري لها إلا من يهتم بالناس ويتابع شؤونهم يوما بيوم.

كان النظام الإسلامي الذي يؤمن به الشهيد أقرب إلى النظام الانساني المتكامل البعيد عن الحزبية او المناطقية او الديكتاتورية او المحسوبية ، فهو يؤمن بحرية الفرد في الاختيار في كل الأمور ويطبق الآية الكريمة “لا إكراه في الدين” تطبيقا عمليا لا كلاميا , لم يميز ضد المرأة السافرة رغم اعتقاده بوجوب الحجاب وكان يقول “المتدين الحقيقي لا تخيفه المرأة السافرة أو المقتصرة في لباسها” فقوة الإيمان في رأيه لا تضاهيها قوة أخرى كما يرفض الاعتداء على النصارى او غيرهم من مكونات الشعب العراقي بعناوين عنصرية او دينية او فئوية او تاريخية بل كان يدعو الى الرفق بهم والى استمالتهم واذاقتهم حلاوة الدين الاسلامي ومذهب اهل البيت (ع) يقول رحمة الله عليه( نعتقد ان الدعوات التي تنادي بمحاربة النصارى ومحاربة السفور واستعمال العنف لايقبل بها رب العالمين ولايقبل بها مذهب اهل البيت (ع) فشريعة الله العادلة تحتضن الانسان وتهتم برعايته وبمصالحه وبتحقيق العدالة الاجتماعية وان الهداية لاتفرض على الناس فرضا وانما ندعوهم فقط ونوضح لهم فان استجابوا فبها وان لم يستجيبوا فندعهم ومايشاؤون ) هذه الافكار العقلانية لم تكن ترضي بعض الاطراف , كما ان الوضع العراقي فضح حقيقة مؤامرة الاغتيال حيث كشر التكفيريون عن انيابهم بالاساءة الى كل ماهو رائع وانساني ومثالي في الاسلام مما يعني ان اغتيال الشهيد هو اغتيال للفكر العقلاني وللاسلام الانساني السليم واغتيال للحقيقة ولمستقبل العراق واجياله القادمة ,فانا لله وانا اليه راجعون ...

أخترنا لك
شهر رمضان في الاحاديث والقران الكريم

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة