بقلم رجاء محمد بيطار
مجلة الولاية- عدد ربيع الثاني 1439ه
ربما لم يقف التاريخ حائراً أمام أحد قط كما وقف أمام شخصية المختار الثقفي.
لم يكن المختار نبياً أو ولياً، ولا كان زنديقاً شقياً، ولكنه كان رجلاً عاش في زمن بلغ إبانه انحدار الأمة أقصى حضيضه، فحمل على عاتقه هماً ناء به تارة وارتقى به أخرى.
واي همٍّ أثقل واشدّ وطأةً من رفع لواء الحق في زمنٍ ساد فيه الباطل، حتى التبس بالحق التباسا، وغدا دعاته يتبجّحون بكلام الله على الملأ، فيموّهون به جرائمهم ويلمّعون به أقذارهم حتى استغشّوا العوام من الناس واستمالوهم، بالدرهم تارةً وبالسوط أخرى، وحيث لم يكن الدرهم أو السوط نافعان، كان اختلاق الفضائل لأهل الرذائل، والتشكيك بصحة دعوى أهل التقى والرشاد.
ولكن خسئ المبطلون، فرغم كل ما بذلوه في سبيل إعلاء كلمة الزيف والطغيان، ورغم انتهاكهم لحُرَم الرسول، في شخصه خِفيةً، وفي أشخاص ذراريه علانية، إلا أن الحق يعلو ولا يُعلى عليه، ويظهر ولا يُتظاهر عليه، فرغم بلوغ الطغيان قمته في تلك المأساة الأبدية، مأساة كربلاء، إلا أن مشيئة الله التي جرت في عباده الصالحين، قادةً وسادةً وعاشقين، كانت لهم بالمرصاد، فتحوّلت المأساة إلى نصرٍ مبين، وطعنت دماء سيد الشهداء وصحبه المنتجبين صدور ظالميهم، والتفّت قيود السبايا على أعناق آسريهم، ولعلعت سياط بني أمية على ظهور جلاديهم، فانقلب السحر على الساحر، واحترق بشعاع الشمس كل من حاول إطفاء ضيائها الباهر.
أما المختار، فقد وقف منه المؤرخون موقفين متباينين، فمنهم من رآه آيةً من آيات النصر الحسيني، وعلامة من علامات العدل الإلهي، ويداً من أيدي الانتقام الرباني امتدّت في حلك الظلام لتقبض روح كل من سوّلت له نفسه أن يشارك في قتل سبط النبي.
ومنهم من رآه منافقاً قد تسلّق سلّم الثأر لآل محمد، واستظلّ بفيْ ولايتهم لغاية في نفسه، فرفع رايتهم وما رفع إلا طمعه بالسلطة وكرسي الرئاسة.
ويبرز هنا سؤال: فلو أن المختار فعلاً أراد الدنيا في ثورته، فهل كان ليقف في وجه ذلك السيل الهادر من أهل الدنيا، الذين كان همهم لعق قصاع السلاطين، وكانت كلمةٌ من خلفائهم المنافقين تكفي لترفع زنيماً كابن زياد، فتحكّمه في رقاب العباد، وتسلّمه إمارة البصرة والكوفة معاً، وتُسقط بزعمها سبط المصطفى وتجعله وبنيه وآله في عداد الخوارج؟!
ليس يعنينا إن أردنا الحكم على مصداقية ثورة المختار ان ننبش في جذوره، وهي ربما تكون قد تشوّهت بفعل أعاديه، ممن كان همهم أن ينفضّ عنه حتى شركاؤه في اللوعة على سيد الشهداء وما ارتُكب بحقه وحق آله من جرائم شنعاء، فهم لم يكونوا يتورّعون عن نسبة النفاق إليه، ... وماذا يمنعهم أن يفعلوا وهم قد لفّقوا الأحاديث حتى على لسان خاتم الأنبياء؟!
ليس المختار معصوماً، ولكنه ليس مرجوماً، ولئن تشوّهت صورته لدى البعض بفعل فاعل أو مفعول، إلا أن استغفار الإمام المعصوم له إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على أن عمله قد أرضى الله ورسوله وأهل بيته، وفي هذا كفاية.
ونضم أصواتنا إلى نبرات سادة الكون، لنرافق حديث إمامنا زين العابدين عليه السلام: " لو أن عبداً زنجياً تعصّب لنا أهل البيت لوجب على الناس مؤازرته..."
وقوله ساجداً لما أرسل المختار له راس ابن سعد وابن مرجانة:" الحمد لله الذي أدرك ثاري من أعدائي وجزى المختار خيرا..."
ألهم ارزقنا أن نكون أداة لنكشف عن وجوه آل البيت ذاك الكرب، وأن نرفع في أزمنة الباطل لواءً فيه رضى للرب، وأن تكون أعمالنا فداءً وقربى لعيون صاحب الزمان، وأن لا يخالطنا غرورٌ و كِبر، أو زيفٌ وكدر، فمن استضاء بنور الولاية أدرك الغاية، ومن شحذ نيته على حد محبته، قطع بها هوى نفسه ورغبته، وارتقى ذروة قمته، وعندئذٍ لا يضيره سخَط من سخِط أو رِضى من رضي عن ثورته، طالما هي فوحٌ من عبير آل محمد.