بقلم|مجاهد منعثر منشد
قال تعالى :ـ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}1.
الشهادة :ـ ذروة الرقي والتكامل في المسيرة الإنسانية .. فهي الوعي والاختيار وخلو الإنسان من ميوله الذاتية ..وهي لباس التقوى.وعمل بطولي يبعث على الإعجاب والافتخار.
الشهادة تكسب قداستها من صفتها التضحوية الواعية على طريق الهدف المقدس.
والاستشهاد، هو الموت الذي يتجه نحوه القتيل تحقيقا لهدف مقدس إنساني، أو "في سبيل الله "، على حد التعبير القرآني، مع ما يحتمله أو يظنه أو يعلمه من أخطار في طريقه .
تعريف الشهيد لغويا.
"شهد" : الشين والهاء والدال أصل يدل على حضور وعلم وإعلام. تقول: شَهِدَ، أو شَهْدَ، وشَهِده شُهودًا فهو شاهد. والشهيد: الشاهد، والأمين في شهادة، والذي لا يغيب عن علمه شيء، والقتيل في سبيل الله، فهو فَعيل بمعنى فَاعل ومعنى مَفعول على اختلاف التأويل. والجمع شهداء، والاسم الشهادة.2.
يقول النبي (صلى الله عليه واله وسلم ) فوق كل ذي بر بر حتى يقتل في سبيل الله، وإذا قتل في سبيل الله، فليس فوقه بر.
يقول امير المؤمنين الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام ):ـ "إن أكرم الموت القتل!والذي نفس ابن أبي طالب بيده، لألف ضربة بالسيف أهون عليمن ميتة على الفراش في غير طاعة الله ".
وكان الامام الحسين (عليه السلام ) يردد وهو يسير نحو كربلاء هذه الأبيات:
فان تكن الدنيا تعد نفيسة فدار ثواب الله أعلى وأنبل
وان تكن الاموال للترك جمعها فما بال متروك به المرء يبخل
وان تكن الأبدان للموت انشأت فقتل امرئ بالسيف في الله أجمل
ويعرف الشهيد مرتضى مطهري (قدس سره ) الشهيد3:ـ
إنسان ارتفعت روحه إلى مستوى الشهادة ..وتحررت روحه من قيود الشهوات الهابطة، فأضحى منطقه منطقا جديدا قد لا يفهمه (العلماء) و (الفلاسفة) و (عقلاء القوم)!و"الشهيد" كلمه لها في الإطار الإسلامي قداسة خاصة ..وكلمة الشهيد مقرونة بالقداسة والعظمة في جميع اعراف المجموعات البشرية مع اختلاف بينهما في الموازين والمقاييس.
الشهيد _ في المعايير الإسلامية_ هو الذي نال درجة "الشهادة" أي الذي بذل نفسه، على طريق الأهداف الإسلامية السامية، ومن أجل تحقيق القيم الإنسانية الواقعية .
والإنسان الشهيد في المفهوم الإسلامي يبلغ -بشهادته- أسمى درجة يمكن أن يصلها الإنسان في مسيرته التكاملية.
وفي الدنيا توجد احتياجات واجواء المواطن بحاجه الى الامان والعيش الكريم .والعالم يريد اظهار علمه .وخصومة لايريدون ذلك .. والفيلسوف في فلسفته .. والمخترع في اختراعه .. ومعلم الأخلاق في تعاليمه، محتاجون إلى أجواء حرة مساعدة كي يقدموا خدماتهم للبشر..والشهيد بتضحياته يوفر هذه الأجواء ..الشهيد كالشمعة التي تحترق وتفنى لتضئ الطريق للآخرين ..
ولولا هذه الشموع لما استطاعت المسيرة البشرية أن تواصل طريقها، ولما استطاع أبناء البشر في ظلمات الاستعباد والاستبداد أن يمارسوا نشاطاتهم ويقدموا خدماتهم الإنسانية.
في الاية الكريمة من سورة ال عمران اعلاه يبين الله تعالى المنزلة العظيمة حيث ان الشهداء احياء عند ربهم يرزقون ..فتأتي الدرجة الواضحة اكثر في احكام الميت حيث ان جميع الاموات الذين ماتوا حتف انفهم يغسلون ويذهبون الى القبر بالكفن والشهيد مستثنى وهذا الإستثناء يختص بجسد الشهيد . فأحكام الميت لا تطبق على جسد الشهيد سوى الصلاة والدفن . أما الغسل والتكفين .. فلا . الشهيد يدفن بدمه وملابسه . وهذا الإستثناء له مغزاه العميق، انه يرمز إلى أن روح الشهيد بلغت درجة ومنزلة من السمو والطهارة بحيث ترك هذا السمو والطهر آثاره على جسد الشهيد وعلى دمه، بل وحتى على ما يرتديه من لباس . بدن الشهيد "جسد متروح " إن صح التعبير، أي أضحى وجودا تجري عليه أحكام الروح .. ولباسه أضحى .. "لباسا متجسدا" أي تجري عليه أحكام الجسد الذي يضم تلك الروح الطاهرة فجسد الشهيد ولباسه اكتسبا الشرف من طهر روحه وعلو فكره وسمو تضحيته ..
لكل إنسان منطق خاص، وطريقة تفكير خاصة . ولكل معايير ومقاييس يحدد بموجبهاموقفه من المسائل والظواهر المختلفة . وللشهيد منطق خاص .. انه (منطق الشهيد) الذي لا يمكن قياسه بمنطق الأفراد العاديين . فمنطق الشهيد أسمى .. انه مزيج من منطق المصلح ومنطق العاشق .. منطق المصلح الذي يتضور قلبه ألما لمجتمعه، ومنطق العارف العاشق للقاء ربه.
بعبارة أخرى - لو امتزجت مشاعر عارف عاشق للذات الإلهية بمنطق إنسان مصل لنتج عن ذلك "منطق الشهيد".
مثال حين توجه الحسين بن علي -عليه السلام - نحو الكوفة، اجمع عقلاء القوم على منعه من السفر قائلين: إن عزمه على السفر إلى العراق غير منطقي وكانوا صادقين فيما يقولون ..لم يكن عزم الإمام ينسجم مع منطقهم ..
مع منطق الإنسان الاعتيادي .. مع منطق الإنسان الذي يدور فكره حول محور مصالحه ومنافعه . لكن الحسين كان له منطق أسمى، كان منطقه منطق الشهيد، ومنطق الشهيد أسمى وأرفع من منطق الأفراد العاديين.
لم يكن "عبدالله بن عباس" و"محمد بن الحنفيه" من عامة الناس، بل كانا سياسيين عالمين، ومنطقهما منطق السياسة والمصلحة، منطق الحنكة والذكاء الذي يدور حول المصلحة الفردية والانتصار الشخصي على المنافسين
وذهاب الحسين إلى العراق عمليه خاطئة استنادا إلى هذا المنطق . وهنا تجدر الإشارة إلى اقتراح ذكي قدمه ابن عباس إلى الحسين .. لقد اقترح عليه أن يسلك طريقا سياسيا من نوع الطرق التي يسلكها "الأذكياء " ممن يتخذون الناس وسيلة لتحقيق أهدافهم وممن يقفون في المؤخرة دافعين الجماهير نحو مقدمة الجبهة، فان أحرز النصر نالوا ما جنته يد الجماهير، وإن فشلت الجماهير وقفوا على التل سالمين .
يا ابن عم إني أتصبر ولا أصبر، إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال، إن أهل العراق قوم غدر فلا تقربهم، أقم في هذا البلد، فانك سيد أهل الحجاز، فان كان أهل العراق يريدونك -كما زعموا- فاكتب إليهم، فلينفوا عاملهم وعدوهم، ثم أقدم عليهم 4.
فابن عباس يريد أن يضع جماهير العراق في مقدمة الجبهة والحسين في المؤخرة .
يريد أن يقول للحسين:دع أهل العراق يواجهون العدو بأنفسهم فان انتصروا فقد استتب الأمر لك، وان لم يفعلوا كنت في حل منهم، ولن يصيبك مكروه. لم يعر الحسين أي اهتمام لهذا الاقتراح وأعلن عن عزمه على الذهاب.
فقال له ابن عباس: فان كنت سائرا فلا تسر بنسائك وصبيتك .
أجابه الحسين: يا ابن عم، إني لأعلم أنك ناصح مشفق، وقد أزمعت وأجمعت المسير !!
نعم .. منطق الشهيد منطق آخر .منطق الشهيد منطق الاشتعال والإضاءة، منطق الانصهار والانحلال في جسم المجتمع من أجل بعث الحياة في هذا الجسم وبعث الروح في القيم الإنسانية الميتة .. منطق تسجيل الملاحم ..منطق النظرة البعيدة .. البعيدة جدا . ومن هنا كانت كلمة "الشهيد" مقدسة عظيمة .
الشهيد يقف بوجه العدو، فأما أن يصرعه وأما أن يصرع لكن عمل الشهيد لا ينحصر في هذا الموقف!فلو كان عمله منحصرا بهذا لذهب دمه هدرا حينما يخر صريعا في ساحة المعركة. وهذا مالا يحدث، فدم الشهيد لايذهب هدرا .. دم الشهيد لايراق على الأرض .
كل قطره من دم الشهيد تتحول إلى آلاف القطرات .. بل إلى بحر من الدماء يدخل جسد المجتمع. ومن هنا قال الرسول-صلى الله عليه وآله- ما من قطرة أحب إلى الله من قطرة دم في سبيل الله . الشهادة تزريق لجسد الأمة بدم جديد . والشهداء يضخون في شرايين المجتمع، وخاصة المجتمع الذي يعاني من فقر الدم، دما جديدا.
العالم يخدم المجتمع بعلمه، وعن طريق قناة العلم يخرج هذا العالم من فرديته ليرتبط بالمجتمع.
أي، عن طريق العلم تتحد شخصيته الفردية بشخصية المجتمع كما تتحد القطرة بالبحر .
بهذا الإتحاد، يخلد العالم جزءا من شخصيته، أي يخلد فكره وعمله .
والمخترع يتحد بالمجتمع عن طريق اختراعه، ويخلد وجوده عن طريق ما يقدمه للمجتمع من مخترعات .. وهكذا الفنان والشاعر ومعلم الأخلاق ..
والشهيد يخلد نفسه في المجتمع عن طريق دمه . أي عن طريق الدم الجديد الخالد الذي يهبه شرايين المجتمع، وبعبارة أخرى يكتسب الشهيد صفة الخلود عن طريق تقديم كل وجوده وحياته .. لا عن طريق تقديم جزء من وجوده وشخصيته، كما يفعل غيره من الخالدين .
ورد في الأثر أن الله يقبل الشفاعة يوم القيامة من ثلاث طبقات:
طبقة الأنبياء وطبقة العلماء ثم الشهداء .
وهنا ينبغي أن نوضح أن الشفاعة هذه هي "شفاعة الهداية" ..
إنها تجسيد لما حدث في الدنيا من حقائق ..
فعن طريق الأنبياء اهتدى الناس ونجوا من الظلمات .
والعلماء -في هذا الحديث - هم العلماء الربانيون بما فيهم الأئمة الأطهار والرهط الصالح من أتباعهم ومن حذا حذوهم، وهؤلاء أيضا ساروا على طريق الأنبياء واخرجوا الناس من الظلمات إلى النور .
والشهداء ينهضون بنفس الدور، يضيئون الدرب أمام الناس ، فيهتدي من يريد الهداية ،
وبذلك يكون الشهداء شفعاء لمن اهتدى بهم .
المجتمعات الإنسانية لا تخلو من أجواء فاسدة تتطلب الشهادة .
وهنا ينبغي دفع مشاعر أفراد المجتمع على طريق الإستشهاد، عن طريق سرد ما قام به الشهيد من أعمال بطولية عن " وعي " و " انتخاب " .فعن هذا الطريق ترتفع مشاعر أفراد المجتمع إلى مستوى مشاعر الشهيد، وتنطبع بطابعها.ومن هنا إن البكاء على الشهيد: اشتراك معه فيما سجله من ملاحم، وتعاطف مع روحه، وانسياق مع نشاطه وتحركه وتياره ..لأن منطق الحسين وأهل بيته وأصحابه منطق الشهيد، وهذا المنطق يرى أن المجتمع الميت بحاجة إلى دم يحرك كيانه المشلول . الشهادة لا تستهدف التغلب على العدو وحسب .. بل تستهدف تسجيل المواقف البطولية وتدوين الملاحم الإنسانية .
المصادر |
1. آل عمران/ 169
2. معجم مقاييس اللغة ج3ص221 و المفردات في غريب القرآن ص269،و لسان العرب ج4ص2350و والقاموس المحيط،، ص372.
3. كتاب الشهيد مرتضى مطهري ( اقتباسات من كتابه )
4. ابن الأثير ج4 ص16.