بقلم / وضة عمران القبيسي
التخطيطُ الاستراتيجيُّ هو مفهومٌ معبِّرٌ عن معيار التطوُّر التقني والفكري وزيادة الحاجة للتخصص تبعًا لأوجه ومستويات وحقول الاستراتيجية، بحيث أصبح لكل حقل من الحقول استراتيجيته الخاصة التي تلائم اعتباراته المعنوية ومعطياته المادية، فمن حيث المستوى هناك استراتيجية عُليا، أو شاملة، واستراتيجية بحتة، أو عسكرية، أو عملياتيَّة. وضمن الاستراتيجية العسكرية ثمة استراتيجية برية وبحرية وجوية، أما من حيث المجال فثمة استراتيجية سياسية واقتصادية، واجتماعية، وعسكرية، وغيرها، ومن حيث المدى فقد تتميز الاستراتيجية إلى شاملة ومحدودة مرحلية، ومن حيث طريقة الوصول للهدف فقد تقسم إلى الاستراتيجية المباشرة وغير المباشرة، وبالرغم من التقسيمات آنفة الذكر فإن الاستراتيجية حقيقتها واحدة من حيث الجوهر والهدف والأسلوب. وليس التقسيم إلا ضرورة عملية أو أكاديمية نشأت من خلال تشعب وتضخم مهام الاستراتيجية.
ومن هنا نُدرك أنَّ ضمان نجاح الاستراتيجية بتساند وتوافق وتكامل كافة الخطط والاستراتيجيات المختلفة كي تؤدي جميعها إلى تحقيق الهدف العام للسياسة، وضمانًا لهذا التكامل والتواؤم فقد وضعت الاستراتيجية العليا أو الشاملة على قمة الهرم الاستراتيجي واعتبرت السلطة العليا في الدولة هي المسؤولة عن وضعها وتوجيهها، فالاستراتيجية العسكرية مثلًا هي التنفيذ العملي لمخططات الاستراتيجية العليا من حيث توجيه وإدارة الصراع المسلح. أي أن الاستراتيجية العليا تعالج جزئيًا بالاستراتيجية العسكرية في حين تعالج الأخيرة جزئيًا بالتكتيك. وبكلمة موجزة فإن الاستراتيجية العليا هي سياسة حرب والاستراتيجية العسكرية هي فن قيادة الحرب، والتكتيك هو فن القتال، كما تتباين الوسائل التي تستخدمها الاستراتيجية لتحقيق هدفها تبعًا للتباين في طبيعة وأهمية ذلك الهدف وتبعًا للإمكانات والقدرات المتاحة للظروف والأجواء المحلية والدولية السائدة.
كما أن بعض الاستراتيجيين القدماء عبَّر عن مفهوم التخطيط الاستراتيجي على أنها الوسيلة العسكرية الوحيدة الحاسمة للوصول للهدف، في حين يرى المحدثون منهم أن الحلَّ العسكري أو القوة العسكرية هي واحدة من الوسائل وأن الأفضل عدم اللجوء إليها فعلًا إلا بعد استنفاد وعجز الوسائل الأخرى من دبلوماسية وسياسية واقتصادية ونفسية عن تحقيق الهدف، أي يجب العمل بالوسائل الأخرى لخلق وضع استراتيجي مناسب قد يؤدي بذاته إلى الهدف دون اللجوء إلى القوة العسكرية، أو قد يؤدي إلى خلق ظروف للمعركة يمكن انتزاع النصر والوصول إلى الهدف بواسطتها بسهولة، والسبب الرئيسي في ذلك الاختلاف هو أنَّ الاستراتيجية ليست فكرة محددة المعالم ولكنها كما يقول عنها البعض (أسلوب تفكير)، فلكل موقف استراتيجية تلائمه ولكل دولة استراتيجية تناسبها مع ظروفها، فالاستراتيجية تتأثر بعوامل الزمان والمكان وبعقلية المخططين وظروف العصر وتقنيته وغير ذلك من العوامل.
وفي الختام نجدُ أنَّ الاستراتيجية الناجحة هي المعبرة عن التوافق في الوسيلة المختارة بين كافة الوسائل المتاحة للوصول إلى هدفها، أي التي تنجح في تحقيق وتأمين التوافق بين الوسيلة والهدف، والتي تعمل على خلق التأثير النفسي المؤثر على الخصم والعامل على تفتيت إرادته وعزيمته وحرمانه من حرية العمل، ما سيؤدِّي حتمًا إلى قبوله بالشروط المفروضة، ولكي يكون اختيار الوسيلة ناجحًا فمن الضروري عمل دراسة واعية للموقف بشتى جوانبه لمعرفة العدو المطلوب قهره وتمييز نقاط ضعفه الأكثر حساسية مع تحليل عميق للتأثيرات الحاسمة التي يمكن أن تحدثها الوسيلة المختارة على معنويات الخصم وهذا يقتضي إنشاء مخطط استراتيجي يتضمن كافة الأعمال الممكنة وردود الأفعال المتوقعة عليها محليًا ودوليًا لوضع الحلول المناسبة كي يكون المخطط الاستراتيجي مترابط الأجزاء قادرًا على مواجهة أي مفاجآت أو ردود فعل غير ملائمة أو سيئة التأثير لضمان حرية العمل للخُطة الاستراتيجية.