بقلم / د. قصي الشيخ عسكر
قصي الشيخ عسكريمامة تتهجى النهار
التنغيم هو مفهوم صوتي يدل على ارتفاع وانخفاض في درجة مستوى الصوت عند الجهر بالكلام، ومما لا شك فيه إن قصيدة النثر لا تعتمد أساسا على المؤثر الصوتي الأساس ألا العروض العربي والتفعيلات في الشعر الحر أوالقافية كما في الشعر العمودي.
لذلك لابد أن تتحلى قصيدة النثر بمفهوم موسيقى آخر يجعلها مستساغة ومقبولة في الآن نفسه وقد وجدت خلال استقرائي لقصيدة النثر عند الشواعر العربيات أنهن نجحن في صياغتهن لقصائدهن وما ذلك إلا راجع لنفسية المرأة التي تحب الترتيب والتنسيق ولها خبرة كبيرة في التنظيم وإعادة صياغة الأشياء بشكل جميل ربّما أكثر من الرجال أنفسهم..
والأديبة ذكرى لعيبي من هؤلاء الأديبات اللائي أبدين تفوقا في قصيدة النثر والدليل أو الحجة التي بين يدي هو ديوانها الذي وضعت له عنوانا لافتا للنظر هو (يمامة تتهجى النهار).
العنوان من ثلاث كلمات تنتهي بمدّ بعده ساكن ولو حللنا كلمة يمامة لوجدناها نكرة تبدأ بحرف لين مريح للفم هو الياء وتنتهي في مواصلة القراءة بتنوين الضمّ فحرف الياء هو حرف حلقي هادئ ناعم كما أن كلمة يمامة يتوسطها حرف مد هو (ألف لام) فهي تعطي أثناء القراءة انفتاحا واسعا يقابله في نهاية الكلمة الثانية (تتهجى) انفتاح بالألف المقصورة مخفف بالتقاء الساكن في همزة الوصل الداخلة على كلمة النهار التي تواجهنا بمد بعده ساكن ليكون التوافق النغمي أثناء القراءة كالآتي:
يما= فعل
متن=فعل
تتهججن=متفاعل
نهار=فعل
مثل هذا الالتزام بالتفعيلة نجده في قصيدة عنوانها (مرّة واحدة) فهو لايمرّ مرور الكرام بل يسجل حضوره بصفته تناغما يلتقط من التفعيلة العربية القديمة بمقدارٍ يمنح نثر التفعيلة حيوية موسيقية:
دع قرابين أهلي تمر
دعقرابينأهليتمر
فاعلاتنفعولنفعلْ
ودعني ألملم عمري الصغير وأطلقه
ودعنيألملمعمر صصغيروأطلقه
فعولنفعولفغولنفعولفعولفع
مرة واحدة
فاعلنفاعلن
لن أموت جزافا
فاعلانفعولن
وأسقط سهوا
وأسق طسهوا
فعولفعولن
ستخطئني القنبلة
ستخطئنلقنبله
فعولفعولنفعل
فالقصيدة أعلاه لاتنفلت في نثر رتيب بل تبني نفسها على تفعيلة عربية لبحر مشهور من البحور التي بنيت على تفعيلة واحدة (فعولن) هو البحر المتقارب والذي يدخل على تفعيلته الحذف وأشهر قصيدتين معاصرتين كتبتا فيه هما قصيدة أبي القاسم الشابي :
إذا الشعب يوما أراد الحياة
وقصيدة علي محمود طه المهندس:
أخي جاوز الظالمون المدى
وقد تُدخل الشاعرة تفعيلة بحر الرجز (مستفعلن) في عموم قصيدتها النثريّة تلك التفعيلة التي تقبل الكثير من الحذف فتصبح مرة مفتعلن ومرة متفعلن وأخرى فعول كما في قصيد( من أجلك)
كنت أسوق البحر للموانئ البعيدة
كنتئسوقلبحرللموانئلبعيدة
مفتعلنمستفعلنمفاعلنفعولن
كي تدفع الرياح صوب القلب
كيتدفعررياحصوبلقلب
مستفعلنمفاعلنفعلان
أكتب وسط العصف
مفتعلنفعلان
لتقرأ المكتوب في المياه
مفاعلنمستفعلنفعول
ياغادر الوفاء والأمل
مستفعلنمفاعلنفعل
ياعشب ياطلل
مستفعلنفعل
نهر بلا مياه
مستفعلنفعول
أحلامك الممزقة
مستفعلنمفاعلن
ثم تأتي الجملة النثرية التي تطالعنا في القصيدة بعد هذا التمدد الشعري المتناغم:
الهواء في شباك
وهي جملة قصيرة لانشعر بنثريتها لأنها أحيطت من قبل ومن بعد بمدّ عروضي متلاحق فيأتي بعدها سطر التفعيلة التالي:
تحرث في البحر وفي الضياع
مفتعلنمفتعلن فعول
كأنني
مفاعلن
لم أنتظر سنين
مستفعلنفعول
أحيك في سجادة الأمل (الفعل حاك يحوك)
مفاعلنمستفعلنفعل
لم أقطع الخيوط
مستفعلنفعول
يأتي بعد هذا التدفق الموسيقي العروضي سطر نثري:
ولست بنيلوب ولا اليمامة
فتردفه الشاعرة بسطر من تفعيلة الرجز
كنت كما الغمامة
مفتعلنفعولن
فكأنّ الأسطر النثرية في قصيدتها فترات استراحة يلتقط عندها القارئ أو المنشد أنفاسه مع توقف الموسيقى فهي في هذه القصيدة زادت كفة الوزن على النثر وفي قصائد أخرى يكون النثر هو الغالب
وتنتقل في القصيدة نفسها في المقطع الثالث إلى المزج بين تفعيلتين تقول:
صوب روحي اروح
فاعلاتن فعول
كما نرى البحر هو مجزوء الخفيف وتستمر فيه :
بالدعاء فاعلان
والغناء فاعلان
غير أنها تغير في التسجيع أو القافية الموسيقية فتعود إلى مجزوء الخفيف:
لا أرى في البكاء فاعلاتن فعول
ملجأ للرجاء فاعلاتن فعول
وقد تبدأ الشاعرة قصيدتها النثرية بسطر موزون مثل قصيدة تحولات التي تبدؤها بالآتي:
كتبت على باب قلبي
فعول فعولن فعولن
وأجدها في موضوع التنغيم تلجأ إلى تسجيع بعض الأسطر لتزيد قصائدها بريقا أكثر والسجع في المصطلح يعني تشابه فواصل الجمل فيما يشبه القافية في الشعر كما في الآتي:
ودين يموت
ليشطبه دفتر الأوفياء
وحزن يفوت
عليه الأوان
أمان أمان
وفي الغوص
در ودان
فهذه المقاطع التي التزمت التفيلة (فعولن) والتسجيع أو القافية هي خاتمة قصيدة عنوانها(غواصون) بدأت بداية نثرية وانقلبت فيما بعد إلى اسطر تلتزم الوزن وكأننا أمام خاتمة يغنيها الغواصون الذين يخرجون إلى البحر بحثا عن اللؤلؤ والمحار فجاءت الموسيقى مع تنامي الحركة لتمنح القصيدة بعدا جماليا يناسب موضوع البحر والغوص.