غيّرت الحرب العالميّة الأولى (1914 - 1918) أشياء كثيرة في
عالمنا، فسقطت إمبراطوريّات عتيقة، وخُلقت دول من اللاشيء، وأُعيد
تكوين النّظام السياسي العالمي على نسق جديد. لكّن ذات التجربة
المؤلمة أنتجت أيضاً عدداً من الإبداعات الإنسانيّة: من الدبابة
إلى كيس الشاي، ومن الرّمز البريدي إلى ساعات اليد. ويمكننا على
صعيد الفكر الإنساني أن نضيف أيضاً إلى تلك القائمة كتاب «رسالة
منطقيّة فلسفيّة» للودفيغ فيتجنشتاين، النصّ الذي عند البعض غيّر
الفلسفة إلى الأبد، وعند آخرين قضى عليها نهائيّاً.
عندما بدأت الحرب كانت هذه الأطروحة القصيرة خليطاً من الأفكار في
رأس جندي نمساوي شاب وطالب فلسفة سابق يدعى فيتجنشتاين. وبحلول
الوقت الذي أُطلق سراحه فيه من معسكر لأسرى الحرب إثر «مؤتمر
فرساي للسلام»، كان النصّ قد أخذ شكله الأساسي على مدى بضع عشرات
من الصفحات المتسخة بالطين في حقيبته العسكريّة، دوّنها في
الخنادق بين كل هجوم وآخر. وفي عام 1921 وجد ناشراً، فكان الكتاب
الذي لا يزال يحيّر ويُلهم ويثير الجَدَلَ إلى اليوم.
ما شغل عقل فيتجنشتاين خلال فترة الحرب كانت تلك العلاقة الملتبسة
بين اللغة والفلسفة، وكيف أن البحث الفلسفي الدائم عن إجابات بشأن
طبيعة المعرفة والحقيقة والعقل والمعنى والقيم الجماليّة
والأخلاقيّة وغيرها من الأسئلة الكبرى إنما هو بحث «عبثي» في
مشكلات مفهوميّة ومنطقيّة دون إدراكٍ للطريقة التي تعمل بها اللغة
وتشكّل مجمل وعينا للعالم من حولنا. وجهة نظره التي دوّنها في
الرسالة هي أن المسائل الأخلاقيّة والجماليّة والصوفيّة جميعها
تقع خارج العالم وبالتالي خارج اللغة –التي هي عنده صورة العالم-
ولذلك لا يمكن تحديدها ولن يتسنى للعلم يوماً البحث في ماهيتها،
رغم أهميتها الفائقة للحياة الإنسانيّة، مقترحاً علينا الصمت في
مواجهتها بدل ممارسة «الهراء» الفلسفي، «لأن ما لا يستطيع المرء
أن يتحدث عنه وتقصر عنه اللّغة لا بدّ أن يُصمت عنه»، فـ«حدود
لغتي تعني بالضرورة حدود عالمي».
كان فيتجنشتاين قبل كتابته (الرّسالة) على اطلاع بأعمال غوتلوب
فريجه، وهو عالم منطق ألماني شغله الشّاغل اشتقاق الرياضيّات من
مبادئ منطقيّة محددة. ويبدو أن هذا التصوّر بقي معه وهو يفكّر في
علاقة اللّغة بالعالم في أثناء الحرب ليصوغ أفكاره الثوريّة
بمباشَرة صادمة مسائلاً بُنية اللّغة، وكيف تستحضر السّجالات
اللغوية بين الأشخاص كل ما هو واقع في العالم.
كانت تلك القدرة لديه على طرح الأسئلة عمّا يقبله الآخرون
كمسلّمات أشبه ما تكون –كما يقول الفيلسوف البريطاني أنتوني
كوينتون– ببصيرة إسحاق نيوتن الذي أقلقه سقوط الأشياء نحو الأرض
بينما كان الآخرون راضين بما فيه الكفاية ليقولوا: «إنها تفعل ذلك
فحسب». وبالفعل، فإن سيرة حياة فيتجنشتاين الفكريّة تشير إلى عقل
استثنائي يتمتّع بنبوغ وأصالة وحِدّة في التفكير قلما تجتمع
لإنسان واحد.
لم يكمل الفيلسوف الشاب تعليمه الثانوي فأرسله والده إلى كليّة
صناعيّة في برلين قضى فيها ثلاثة فصول قبل أن ينتقل إلى بريطانيا
عام 1908 لتعلّم هندسة الطيران وتصميم المحركات النفاثة بجامعة
مانشستر. وقد فتنته وقتها رياضيّات التصميم فأخذته إلى الرياضيّات
البحتة ومنها انتهى إلى الأسئلة الفلسفيّة المرتبطة بالمنطق
والحساب. وقد قابل في 1911 غوتلوب فريجه الذي نصحه بالذّهاب إلى
جامعة كمبريدج والتتلمذ فيها على مؤلّف أصول الرياضيّات الفيلسوف
برتراند رسل، وهو ما فعله في 1912 رغم أنّه لم يكن متيقناً من صحة
خياره في ترك هندسة الطيران والتفرّغ للفلسفة التي كان إلمامه بها
محدوداً للغاية.
لاحظ رسل سريعاً بوادر نبوغ تلميذه النمساوي، فنصحه بمواصلة دراسة
الفلسفة وتوسل إليه مع كثيرين بأن يدوّن أفكاره، وكان يسجّل
ملاحظات عن أحاديثهما المشتركة خشية ضياع عبقريّته في خضمّ
المجادلات اليوميّة، لكن فيتجنشتاين لم يكن يرغب في «أن يضيف إلى
المكتبة عملاً فلسفياً ناقصاً يكون عديم القيمة»، وكان مشغولاً
بتساؤلات وجوديّة كبرى كانت تدفعه أحياناً للتفكير بالانتحار.
ورث لاحقاً ثروة ضخمة من والده، لكنّه تنازل عنها لإخوته وانعزل
وحيداً داخل كوخ هادئ في مكان قصيّ من النرويج مكرساً وقته
للتعمّق في المنطق والفلسفة إلى أن نشبت الحرب العالميّة الأولى
فتطوّع –وكان حينها في الخامسة والعشرين من عمره- للخدمة
ميكانيكياً في وحدة المدفعيّة بالجيش النمساويّ-المجريّ، ثم وقع
أسيراً في يد الإيطاليين وهو يحمل على ظهره الحقيبة التي ضمّت
مخطوطة رسالة منطقيّة فلسفيّة (في محاكاة لتسميّة كتاب سبينوزا
«رسالة لاهوتيّة سياسيّة»).
وبعد إطلاق سراحه عام 1919 أتمّ فيتجنشتاين عمله في الرسالة،
وتصوّر بذلك بأنّه قد انتهى من حلّ كل المشكلات الفلسفيّة وسيكون
في حاجة إلى وظيفة من نوع آخر، فالتحق بسلك التدريس في المدارس
الابتدائيّة لست سنوات (1920 – 1926) انتهت بالاستقالة بعدما
اشتكى أولياء الأمور من صرامته في تأديب التلاميذ الأغبياء، فعاد
إلى فيينا حزيناً وعمل بستانياً في دير قصيّ وقضى وقتاً يساعد
أختاً له بتصميم منزلاً كانت تشيده.
وفي تلك الأثناء، التقت مجموعة مع العلماء والفلاسفة في جامعة
فيينا للنظر في مشكلات الفلسفة ووضع رؤية علميّة جديدة للعالم.
وعندما ناقشت المجموعة التي صارت تُعرف بـ«دائرة فيينا» رسالة
فيتجنشتاين قررت دعوته لعضويتها لكنّه رغب عن ذلك واكتفى
بالموافقة على عقد لقاءات مع ممثلين عنها. وقد تكررت هذه
اللقاءات، واستمرت لاحقاً خلال العطلات الصيفيّة بعدما عاد
فيتجنشتاين إلى كمبريدج عام 1929، ويبدو أنّ المناقشات مع ممثلي
دائرة فيينا قد جعلته يدرك أن رسالته لم تحل مشكلات الفلسفة
نهائياً كما اعتقد، وأنّ ثمّة نقائص فيها وجوانب يلفّها الغموض،
فكان أن عاد إلى كمبريدج وتقدّم للحصول على درجة الدكتوراه في
الفلسفة والتحق بالعمل الأكاديمي بعدها لفترة قطعتها زيارة
للاتحاد السوفياتي بعد فترة من الاهتمام بكتابات تولستوي
ودوستويفسكي، ثم الحرب العالميّة الثانية –وتطوّع خلالها للعمل
بواباً لمستشفى في لندن– قبل أن يكتشف إصابته بالسرطان ويقضي
أيّامه الأخيرة في منزل طبيبه المعالج في كمبريدج ليفارق الحياة
مع نهاية أبريل (نيسان) 1951.
بعد وفاته، تم تجميع بعض أفكاره ونُشرت تحت عنوان «تحقيقات
فلسفية»، كما تدافع تلاميذه وزملاؤه لنشر أوراقه وملاحظاته
ومذكراته ومحادثاته ومحاضراته وخطاباته، لكنه لم ينشر في حياته
كتاباً آخر سوى «رسالة منطقيّة فلسفيّة»، فكأنّها احتوت مجمل
نظرته الفلسفية التي شغلت تفكيره طوال حياته.
وترافقاً مع الذكرى المئوية لنشر الرّسالة، ستستضيف جمعية
فيتجنشتاين (بريطانيا) ندوة دولية للفلاسفة حولها، وتنظم «وقفيّة
فيتجنشتاين» في فيينا معرضاً افتراضياً عن حياته وعمله، وأنجز
لوتشيانو بازوتشي، وهو باحث متخصص في فلسفة فيتجنشتاين، طبعات
جديدة محرَّرة من الرّسالة باللغتين الألمانية والإنجليزية. أمّا
في أكاديميّات الفلسفة نفسها، فإن إرث الرسالة كان مختلطاً. ففي
وقت من الأوقات كان لا بدّ من وجود فرقة من الفيتجنشتاينيين
المخلصين الذين ما فتئوا يحملون الشعلة في كل قسم فلسفة في جامعات
العالم الأنغلوفوني، ولكن على مر العقود، بدت تصريحاته حول هراء
الفلسفة ونهايتها أقل إقناعاً، وتجاوزها النقاش. لربما كانت تلك
طريقة فلاسفة الأكاديميات في ردّ الصاع لفيتجنشتاين، الذي كان
يكنّ احتقاراً كاملاً لهم ولطريقة حياتهم المصطنعة والمدّعية.
100 عام على نشر رسالة دوّنها في خنادق الحرب بين كل هجوم وآخر
لندن: ندى حطيط