اسمحوا لي أن أُخبركم أشياء قليلة عن أكرم الذي نلتقي اليوم
لتكريمه. والحال أنّني حين أذكر أكرم، أذكر عدداً من الصفات العريضة
التي لا يتّسع لها شخص واحد.
فأكرم، قبل أيّ شيء آخر، كان صانع نفسه، أو مخترع نفسه. لم يكن
يعنيه كثيراً ما حمله وما ورثه من أسماء أو دلالات، أو من أمكنة صدر
عنها. فالعالم، عنده، ظلّ مسرحاً كبيراً للاختبار وللتجريب، يسأله
ويسائله ويتغيّر بموجبه ويحاول أن يغيّر فيه. حتّى اسمه كان اسمين،
واحداً ورثه، وهو أكرم، وآخر صنعه، وهو مارك، وفي أحيان أخرى ماركو.
وأظنّ أنّ هذا الاسم الأخير استوحاه من ماركو بولو، ذاك التاجر
والرحّالة الذي غادر البندقيّة في أواخر القرن الثالث عشر وراح يجوب
بلدان آسيا. فحين عاد إلى بلده إيطاليا، عرَّف أهلها بالصين
واليابان والهند وبلاد فارس.
هكذا اختار أكرم لنفسه المهن التي تتيح له أن يدافع عن إنسانيّة الإنسان، لا عن لونه أو دينه أو قومه. اختار «أمنستي إنترناشونال» لأنّها تقف مع من يُقهَر بسبب رأيه، كائناً ما كان هذا الرأي، واختار أن يكتب لجريدة «الحياة» مقالات تعرِّف بما يجدّ في الإعلام وفي وسائل التواصل، وهي مهمّةٌ بلغت مداها في مجلّة «كورييه إنترناسيونال»، حيث تولّى لعشرين سنة مسؤوليّة تعريف القارئ الفرنسيّ بالشرق الأوسط، تماماً كما كان يفعل أستاذه ماركو بولو قبل أكثر من سبعة قرون.
وكان يسخر من الأفكار التي لا يستسيغها، لكنّه نادراً جدّاً ما حقد على أصحابها أو كرههم. وكان كريماً ومتواضعاً، بالغ الشعور بفرديّته وعديم الشعور بأنانيّته.
لا يتحدّث عن نفسه ولا يطلب لنفسه إلاّ أقلّ ممّا تستحقّ، يتذكّر القليل الذي يُعطى له ويذكِّر به فيما ينسى الكثير الذي يعطيه لسواه. أمّا العواطف فكان يحبسها في صدره دون أن يُثقل بها على الآخرين. وربّما كان من أبلغ ما قيل فيه عبارة كتبتها الأديبة دومينيك إدّه: «رجلٌ كبير أراد أن يكون لا أحد».
وحين رحل أكرم، مشى على رأس أصابعه كي لا يزعجنا. دخل غرفته وأغمض عينيه ونام وتركنا ساهرين.