بقلم / خليل مزهر الغالبي
في تجربة رواية (شمس تبريز) الصادرة عن دار الورشة الثقافية للطباعة والنشر والتوزيع للكاتب الشاعر "احمد الشطري" كانت هناك افتراضات لرؤى صوفية عامة في بناءات السرد من جهة ومولداتها الحوارية بمعناها العرفاني النسبي المنفتح من جهة اخرى، والتي اشتغل عليها الكاتب بما يهيء ويقدم الثيمة المسرودة للملائمة والقبول الأكثر لرؤاها الفكرية المتأثرة برؤى الرمزين الصوفين جلال الدين الرومي ومعلمه شمس التبريزي في ضمارِ الارتقاء بروح الإنسان.
وفي متن الرواية وجودات مفصلية مرحلة ومتنقلة بدءاً بكاتب الرواية الشاعر الكاتب، احمد الشطري. وشخصية الشاب "محمد" في العراق، وشخص المولا جلال الدين التبريزي المصاغ من علاقة جلال الرومي مع شمس الدين التبريزي بتكوينه وظهوره في مدينة تبريز الايرانية. ومن بدء بطل الرواية " محمد " في دخوله بصحبة ابيه للمكتبة العامة في مدينته الشطرة و لمح قرائته البيت الشعري لابن الفارض (ما بين معترك الاحداق والمهجِ ... انا القتيل بلا اثم ولا حرج) الذي صار فتح له ليندفع بلهاف و متعة كبيرين لقراءة هذا النوع من صافي الشعر وصدقه.
فمن " محمد " وهو الشاب الرومانسي والعاشق البريء للمراة والجمال، ومن تأثره بتجربة هذيين الشاعرين الرمزين الصوفين الكبيرين، حد لهفته للتقرب لهم، قرر زيارة مدينتهم " تبريز " و تخيل بمتابعته منهم ودعوتهم له لهذهِ الزيارة وهم بهيئة الرجل ذو الوجه الابيض المشرب بالحمرة ولحيته البيضاء المنسربة كما وصفته الرواية، و ولادة رغبة لديه لزيارة مدينة ولادتهم ونشوئهم ولقائهم " تبريز " وبعدها اضرحتهم في مدينة – قونية - وهو يهمس في اذن "محمد" – إيه يا قونية...ما ابعد الطريق وايسر السفر) وقونية مدينة لضريح شمس التبريزي و مولانا جلال الدين الرومي، حيث يجتمع الناس من مختلف الأعراق والأديان في المدينة كل عام وكأنهم يلبون دعوة "مولانا" التي قال فيها "تعالَ .. تعالَ، لا يهم من أنتَ، ولا إلى أي طريقِ تنتهي، تعالَ .. لا يهم من تكون". (عن الجزيرة).
ولعل أبرز ما يميز الفكر الصوفي، ويفعل الروائيين ويدفعهم للتوجه لتوظيفه روائياً كما في هذه تجربة الكاتب "احمد الشطري " هذهِ، هو البحث عن الصفاء الروحي في زمنهم المليء بالضوضاء المنغصة للروح، و منه توظيف هذا النهج في كتابة بعض من الرواية الحديثة، لما يجعل منها نصًا خفيًفا مريحاً يدفع القارئَ للركون الاصفى والتأمل الأصدق لروحه واراحتها من التصدعات في اتزان واثق بوقوفه امام التصديات المراهنة لتمزقه.
وكما نعرف ان لقاء شمس التبريزي مع جلال الدين الرومي، تحول الرومي من رجل دين عادي إلى شاعر يفيض بعاطفة الحب الإلهي، وبنوعٍ من التلاؤمِ بين روحيهما ليصيرالرومي صوفي ملتزم، وداعية إلى الحب الإلهي كطريقة ومنهج في التقرب لله . لتبدء حكاية الرواية من سفر "محمد" الى مدينة "تبريز" وتعرضه لاصطدام ادخله المشفى وهو فاقدٌ للذاكرة، وما فيه غير الهجس والنطق بأسم المولا " جلال الدين" ليكون اسمه الجديد الذي سجله المشفى له، وصدمته الثانية بموت زوجته الحبيبة له "شيرين" وبعدها اصطدامة في مدينة قم ليستفيق من فقدان الذاكرة بوعي وهو يقرأ سجل كتاباته التي دون بها يومياته.
ومال الكاتب "احمد الشطري" في هذه الرواية وهي الاولى له للكشف عن رؤاه المتعلقة بسيرته الخاصة والمتأثرة بالرمزين الصوفين المذكورين، وهو شاعر معروف بعطائه وحضوره الثري الفاعل، وقد كان محكي الرواية وحواراتها، خاصة اقوال بطل الرواية تحمل الكثير من رؤى وفلسفة الكاتب الروائي " احمد الشطري " المستمدة والمتأثرة في ميله للعرفانية المجانبة لحب المرأة باندفاع طبيعي منضبط بعيد عن الخدش الاخلاقي.
ومن خيال الكاتب "احمد الشطري" وافتراضيات السرد الحكائي وصناعتة للاحداث والوقائع والحوارات وبما ينضج سردية الروي وحكايته، لتشهد الرواية تنضيجاً وتطورًا ملحوظًا في بناءات ومكونات وشخوص الرواية وبما يدفع لشد القاريء كثيرا لما في الرواية من بعث للمتعة لمتابعته لاغوار ومخفي الاحداث. ومن ملخص رؤاه على لسان مسمية الاخر " جلال الدين التبريزي " والمتأتي من اسم جلال الدين ومعلمه التبريزي، ومنه تسمية عمله الروائي هذا باسمه " شمس تبريز".
وبعد الاطلاع الكثير "للمولا الرومي " وتكون ونضج رؤاه الفكرية بدأ بالكتابة والاصدار وظهور منتجه الكتابي والشعري بإنطباع عرفاني متصوف ومختلف ايروتيكي نزقي اثار المعجب به والمخالف له كما ذكر في قوله (لم اعر كل ذلك اهتماما بل كنت مصرا على طرح افكاري، بغض النظر عما يمكن ان تخلفه من آثار على علاقاتي .و وسط تلك العتمة اصدرت مجموعتي العربية الاولى والتي ربما رأي فيها الكثير نقيضا لطروحاتي الفكرية والعرفانية، فهي عبارة قصائد لاتخلو من الصور الايروتيكية التي راى فيها البعض ترويجا للاباحية. والحقيقة ان هذا التناقض كان واقعيا في كتاباتي دون ان يظهر له اثر في حياتي الفعلية سوى الجانب العبثي والنزقي او الجانب العرفاني . فانا وان كنت ملتزما دينياً لكني لست من المتبتلين او الذين يجاهدون انفسهم بكثرة العبادة والتفرغ لها..)ص76.
ومنه تعرضه لحادث الضرب من البعض كما في قوله (لم يدر في ذهني ان تلك الاطروحات الفكرية او القصائد الشعرية ممكن ان تعرضني الى الخطر وتهديد حياتي، غير اني فوجئت بعد اصداري لمجموعتي الشعرية الثانية وكانت بعنوان، حفريات في جسد امرأة، وكتابي الرابع، مقتل النبي الاخير،، واثناء عودتي من عملي الى البيت مساء فوجئت بمجموعة من الشباب الملثمين وقد انهالوا علي ضربا بالعصى الغليضة ....)ص76.
وكانت للمولا جلال الدين " في مفصل مابعد فقدانه المؤثر لزوجته . ممارسات في الرقص الصوفي والمسمى بالدروشة، وهذا ما يؤكد اندماجه الروحي مع طقوس وشرائع المتصوفة العرافانين، وهي ممارسات من الذكر يقومون بها تابعي الطريقة، و المسمات بـ المولوية، ويكون بالدوران حول النفس والتأمل لكبح النفس كما يرون في ذلك ورغباتهم بالدوران حول النفس، ويرون انها منبعثة من مفهوم دوران الكواكب حول الشمس.
ومن سير محكي الرواية حيث الشاب " محمد " البريء المراهقة و إستئناسه بمشاهدة جمال المرأة والتقرب منها، كما في واقعة لقاءه ببنت الجيران المندفعه له وما كان منه إلا ان يلتصق مقبلا لها بحرارة قوية، و كما يذكر ايضاً انه يعيش مفتون بجميلات الفنانات مثل (بوسي وميرفت امين وو) وهذا ما يكشفه عن روحه الطبيعية التواقة لعشق الجمال المتجسد لدى المرأة .لكن ما حصل في تحوله لشخصية " جلال التبريزي " وهو الاسم المعروف بدلالته العرفانية القريبة لروح جمال الانثى لا لجسدها . ليفاجئنا بغرابة اندفاعه الشديد حين مضاجعته لزوجته الحبيبة " شيرين " وهو في اول دخول عليها بنهم واندفاع شهواني متسرع حد مزقَ ملابسها الداخلية . وهذا طيش مراهق يتناقض ويتعارض مع سيروة ثيمة الرواية المصيرة للورع والهدوء ومن عرفانية وروح الرمزين الرومي والتبريزي، ليضعنا ازاء تساؤلات غرائبية مختلفة لتوقع المتلقي وقبوله، لفهمنا المتكون ببعد شخصية ورؤى وعرفانية شخصية "المولا الرومي " في الرواية ببعده النسبي المتزن عن جسد المرأة مع عدم انتفائه لجمال المرأة كانثى . وهو فهم لشهوة جنسية متروية بعيدة عن الحمُقَ . ولا بد ان يضعنا الكاتب امام سلوك جنسي اخر مشبوب بالاثارة والمداعبة الايروتيكية .
و من ميزة كتابات الفكرَ الصوفي لغتها الروحية المنفتحه والمنطلقة بصدق طبيعة الذات الصوفية ومن التصورات لعمق واغوار غرائيبة الرؤى و عجيبها، ما يجعل كتابة الروايةَ أكثر إثارةً ومتعة.وهذا غريب وعجيب الكتبة، يتقارب احيانا مفهوم المختلف والمتناقض الذي يكشفه و يوضحه " المولا جلال الدين "، وكما ذكرناه سابقاً بقوله له (... والحقيقة ان هذا التناقض كان واقعيا في كتاباتي دون ان يظهر له اثر في حياتي الفعلية سوى الجانب العبثي والنزقي او الجانب العرفاني . فانا وان كنت ملتزما دينياً لكني لست من المتبتلين او الذين يجاهدون انفسهم بكثرة العبادة والتفرغ)ص76 . وهنا مايؤكده وصف شدة شبقه ورغبته الجنسية لاول دخول مع زوجته "شيرين" (...وصلنا الى الفندق في منتصف النهار منهمكين وبعد اداء صلاتنا تناولنا وجبة الغداء وصعدنا الى غرفتنا وسط اجواء متشابكة بين الحياء والشوق والرغبة العارمة تبادلنا اول القبلات، كان الشبق قد بلغ بي مبلغه فلم اتماسك نفسي ريثما تنهي خلع ملابسها فاعتصرتها بكل مابي من شوق ومزقت ملابسها الداخلية وسط دهشتها وضحكتها المغلفة بالحياء، بيد انها مالبثت ان بادلتني ....بعد ان اثارت يدي مكامن الشهوة المختبئة وهي تتحسس مفاتن جسدها الغض...) ص80، وهو بوصف كأنه في مغامرة جنسية عابرة يريد ملؤوها قبل فوات اوانها ووقتها الا يكرر بعد . ويمكن لهذا يذكرنا في رؤية ابن الفارض للنشوة واللذة كجزءًا من الذات الإلهية الكلية، وجدت قبل خلق جسده كما في قوله الشعري (وهمت بها في عالم الأمر حيث لا ظهور وكانت نشوتي قبل نشأتي)...لكن هناك من التيارات الصوفية ترى في العلاقة الجنسية عائقًا عن القُرب من الله، ومن أشهر أقطاب هذا التيار " رابعة العدوية " التي رفضت الزواج من المعلم " الحسن البصري" عكس ما ذهب ابن عربي و والمتصوفة الاخرين . وهنا نجد المبررات الصوفيا تاريخية لذهاب الكاتب " احمد الشطري " في توصيف بعض من اندفاعات السلوك الجنسي الشديد والحوار الشهواني في الروي وبمداخلات نفهمها تناقض في رؤاى الكاتب الصوفي وهذا للذات الصوفية المتناقضة عند كبار مفكريها، الصوفية الفكر الذي محور به روايته. ونذكره هنا لعاقته بالمختلف والمتناقض في محي الرواية والذي يتضح انها تناقضات عند السطح وعلى المتلقي الغور في جوانيتها.
ومن تسلسل احداث الرواية و من انقطاع " محمد" الذي صار بعد الصدمة بشخص " جلال الدين التبريزي" راح للبحث عن العمل ليعتاش به، وبعدها لقاءه في محل عمله من " شيرين " وهي امرأة ارملة ايرانية تبريزية ذات حسن فاتن وشخصية مؤثرة، وقد امتلأ حسه وعاطفته بحبها وباعلى درجات الهيام بها، والتي قابلته هي بنفس الاحساس والحب ليوصفها باعلى حالات جمال الانثى والتي اثارت فيه الكثير من الرغبة بالقبل والعناق اثناء الزواج منها.
" شيرين " التي بقت حاضرة بطيفها في احلامه بعد وفاتها اثناء الولادة لتزوره بحنين متبادل في نومه، ففي دفنها رفض زوجها "المولا" مغادرة قبرها رغم اصرار الحاضرين من اهل الزوجة " شيرين" والاخرين من مقربيه، ليبقى ايام وليالي ينام ويفيق وبما يبرز مدى حبه لزوجته التي كانت بمثل حلم جميل تحقق له ومن الصعب فراقه، ليمضي بعدها في تياه وهو سائرا في البراري والرياض.
وفي الختم الإشاري المختصر، أن صناعات الكاتب الحكائية وترتيبها وتحميلها للسرد مثيرة باحداثها و وقائعها وشخوصها وافتراضاتها الزمكانية، ومن صدمة وفقدان ذاكرة " محمد " و صناعة شخص " جلال الدين التبريزي" او بتسميته الاخرى "المولا جلال الدين" وما عانه وعاشه، وكذلك ظهور المرأة " شيرين" وزواجه منها و هيامه بها، كما في وصف معاناته في وقت حملها الصعب و وفاتها المريع المفجع له اثناء الولادة، واصطدامه الاخير في مدينة قم وعود ذاكرته ليفكر في ولده من زوجته المتوفيه " شيرين " وكذلك تفكره للعودة لبلده وعائلته العراقية وما يفاجئه من لقاءات غريبة مع عائلته العراقية من طبيعة الاحداث التي حصلت له.
لقد حرص الكاتب " احمد الشطري " في تجربته الروائية الخاصة هذهِ، على الكثير من حالات التنوع الصوفي والتصانيف المشخصنة والمختلفة تاريخياً، كإنضاج لمحاولات يتماهى عندها الخطابان السردي والصوفي لتحقيق ما يمكن من صعب الاقتراب التقديري للخطابين وبطريقة مرضية للتلقي. لكونية الصوفية حالة فكرية تثير الكثير من الاضطراب والتوتر في اخضاعها للقبولين السردي و الفكري وبلوغ النجاح السردي في (صوفنة) الطقس الروائي لإخراج السرد من اللبس وبعض الارتياب الذي يصدم به المتلقي بميولات التصوف الغريبة والبعيدة عن المألوف. ولما لخطاب موضوع الصوفية من غموض واغراق في الرمزية ومن لغته الإشارية والروحية البعيدة الايحاء..