تنابهذه الأبيات يستهلُّ الشاعر المسيحي اللبناني بولس سلامة ملحمته الخالدة (عيد الغدير) وهو يستلهم العزم من صاحب الغدير (عليه السلام) ويسأل الله أن يؤتيه القوة بعد أن أقضَّ مضجعه المرض وأضناه السقم وطال مقامه على السرير المزمن حتى صار ذلك السرير جزءاً منه!
يا مليـــــكَ الحيــــــاةِ أنزلْ عليّا *** عزمةً منكَ تبعــثُ الصخرَ حيّا
جودُ كفيّـــــــكَ إن تشأ يملأ العيــــــــــــــشَ نماءً ويفـــــرشُ الجدبَ فيّا
يوقظُ الوردَ فالربيــــــعُ على التــــــــــــــلِّ ضحوكُ الألوانِ طلقُ المُحيا
كلمّا افتــــــــرّ برعمٌ داعـبــــته *** كفُّ ريحٍ تقولُ للطيــــــــبِ هيّا
واهبَ النورِ والندى للــــروابي *** أولني من جمالِ وجهِــــــكَ شيّا
طالَ في مستنقعِ العذابِ مقامي *** واستراحَ الشقـــــــاءُ في مُــقلتيا
فنسيتُ النهـــارَ من طول ليلي *** أترى الليلَ شرعَكَ الأبديا ؟
إن حظي من الحيــــــاةِ سريرٌ *** صارَ منّـــي فلمْ يعد خشبيا
ويطفح إحساس الشاعر المستسلم للمرض بعد أن أوهى بدنه وشلّ حركته وانحل كيانه فألقى عليه ضلال الأسى والحزن...
ولكن في خضمّ هذا اللون القاتم والجو المتشائم الكثيف من الحزن كانت هناك بارقة تنتشله من هذا الواقع البائس وتحلق به عالياً:
يا إلــــــــهي سدّد خطايَ فإنّي *** قد تمرَّســــتُ بالضـلالةِ غيّا
بالعـــــذابِ الأمرِّ طهّرْ فؤادي *** فيعودُ الصلصالُ درّاً مضـيا
عن مهــاوي الآثامِ نزِّه جِناني *** وعن الميــــنِ والهوى شفتيا
في سبيــلِ الكمالِ أجرِ يراعي *** ملهمَ البثِّ فيصــــــلاً عربيا
كان هنالك إحساس يخالج نفسه..، إحساس رائع يهزّه من الأعماق، ويفيض على روحه بالطمأنينة ويلهمها حقاً ويقينا. ويشيع في نفسه الرجاء والأمل وهو يصارع الألم فتتحرك شفتاه:
هاتِ يـــا شعر من عيونِكَ واهتفْ *** باسمِ من أشبعَ السبــــــاسبَ ريّا
باســـمِ زينِ العصـــــــورِ بعدَ نبيٍّ *** نوّرَ الشرقَ كـــــــــوكباً هاشميا
باســـمِ ليثِ الحجازِ نســرِ البوادي *** خيرِ من هزَّ في الوغى سمهريا
خيرِ مـــن جللَّ الميــــــادينَ غاراً *** وانطوى زاهـداً وماتَ أبيـــــــــا
كـــان ربَّ الكلامِ من بعــــــدِ طه *** وأخاهُ وصهـرَهُ والـــــــــــوصيا
بطلُ السيفِ والتُّقى والسجـــــــايا *** ما رأت مثـــــــــــله الرماحُ كميا
يا سمـاءُ اشهدي, ويا أرضُ قرِّي *** واخشـــــــــــعي إنني أردتُ عليا
عنونَ الشاعر هذه المقدمة وهو يناجي بها علي بن أبي طالب بـ (صلاة) وهو يشعر أن الدخول عليه ليس بأقل من الصلاة، فهو يستلهم المعاني العظيمة والقيم المثلى لأقدس إنسان عرفه الوجود بعد النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله).
شُغف بولس بشخصية أمير المؤمنين حتى امتلأ كيانه ووجدانه وروحه وضميره بهذا الحب وهام بهذا الكمال الإنساني والذروة من الخلق البشري, فإذا بقلمه يسكب هذا الوله شعراً يفصح فيه ما أفاضت عليه جوارحه حتى ليحسب القارئ إنه يقرأ شعراً شيعياً لشاعر عاش في أجواء المجالس الشيعية وخالط علماءها وتغذى بفكرها. نعم، إنه مسيحي وهو نظير المسلم في الخلق، كما قال أمير المؤمنين: (الإنسان إما أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)، ونظرته وهدفه يتوحّد نحو القيم المثلى والأهداف العليا. إنها غايات الإنسان مثلما هي غايات الفئة والجماعة, ويؤكد الشاعر ذلك في مقدمة ملحمته فيقول:
(وربّ معترض قال: ما بال هذا المسيحي يتصدّى لملحمة إسلامية بحتة ؟ أجل إنني مسيحي.. ولكن التاريخ مشاع للعالمين.
أجل إنني مسيحي ينظر من أفق رحب لا من كوة ضيّقة، مسيحي يرى "الخلق كلهم عيال الله" ويرى أن: "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى"، مسيحي ينحني أمام عظمة رجل يهتف باسمه مئات الملايين من الناس في مشارق الأرض ومغاربها خمساً كل يوم، رجل ليس في مواليد حواء أعظم منه شأناً وأبعد أثراً وأخلد ذكراً، رجل أطلّ من غياهب الجاهلية فأطلت معه دنيا أظلها بلواء مجيد كتب عليه بأحرف من نور: "لا إله إلا الله، الله أكبر").
مزج الشاعر في هذه الملحمة بين التاريخ والأدب فكوّن فيها صورة كاملة لأهم الأحداث والمواقف في التاريخ الإسلامي, وقد أربت هذه الملحمة على الثلاثة آلاف بيت على بحر واحد واستغرق الوقت لكتابتها ستة أشهر, تناول فيها الشاعر حياة العرب قبل الإسلام والتقاليد الجاهلية وعبادة الأصنام ونسب قريش, ثم ذكر سيرة جدّي النبي صلى الله عليه وآله (هاشم) و(عبد المطلب) وبيان مآثرهما وشرفهما، كما تطرق إلى حسد أمية وحرب لهما وحقدهما عليهما، ثم يختم هذا الفصل بإحدى كرامات عبد المطلب يفرد لها قطعة كاملة بعنوان (صلاة الاستسقاء)...
ثم يدخل التاريخ الاسلامي مبتدأً بولادة الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وبداية صفحة مشرقة في التاريخ بـ (مولد محمد) وكفالة (أبي طالب) له وحمايته وهو يدعو الناس إلى الإسلام بعد البعثة الشريفة وبعدها يستعرض (مولد علي) في الكعبة المشرفة وبداية (فجر الإسلام) الذي شعّ على الجزيرة العربية.
بعدها تناول (هجرة الرسول), و(هجرة علي) فينتقل بالأحداث إلى (يثرب) ثم تتسلسل الأحداث: (بدر)، (زواج علي)، (اُحد)، (الخندق)، (خيبر) وغيرها من المشاهد حتى (حُنين) آخر معركة خاضها علي عليه السلام مع النبي صلى الله عليه وآله، وقد أفرد لكل هذه العناوين ــ بين القوسين ــ قصائد تضمّنت كثيراً من الأحداث والمواقف واستعرض كذلك الدور البطولي للإمام علي عليه السلام في نصرة الدين وجهاده في إرساء دعائم الإسلام.
ثم يستعرض سلامة أحاديث الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله في حق الإمام علي وأهل البيت عليهم السلام بإطار شعري في فصل كامل عنونه بـ (أهل البيت) ويخصّ (يوم الغدير) بفصل خاص تحدّث فيه عن كل الأحداث التي رافقت ذلك اليوم المشهود ثم يسترسل في ملحمته بعد يوم الغدير من (وفاة النبي) الأعظم صلى الله عليه وآله وحتى استشهاد الإمام الحسين في كربلاء بأسلوب السرد القصصي الشعري الملحمي معتمداً في ذكر أغلب الأحداث التاريخية على المصادر السنية، كما يقول:
(ولما عزمت على النظم انصرفت إلى درس المراجع التاريخية ولكنني - قطعاً للظنِّ والشبهات- قلّما اعتمدت على مؤرخي الشيعة بل الثقات من أهل السنة الذين عصمهم الله من فتنة الأمويين وتقيدت بالتاريخ جهد الاستطاعة).
وفضلاً عن التاريخ فقد تصدّى الشاعر في ملحمته بعض القضايا الفكرية أيضاً, وفي صدد حديثه عن الملحمة يقول: (قد يقول قائل، ولم آثرت علياً دون سواه بهذه الملحمة ؟ ولا أجيب على هذا السؤال إلاّ بكلمات... فالملحمة كلها جواب عليه وسترى في سياقها بعض عظمة الرجل الذي يذكره المسلمون فيقولون: (رضي الله عنه, وكرم وجهه, وعليه السلام) ويذكره النصارى في مجالسهم فيتمثلون بحكمته ويخشعون لتقواه، ويتمثل به الزهاد في الصوامع فيزدادون زهداً، وقنوتاً وينظر إليه المفكر فيستضيء بهذا القطب الوضّاء ويتطلع إليه الكاتب الألمعي فيأتمّ ببيانه، ويعتمده الفقيه والعالم المدره فيسترشد بأحكامه).
أما في ختام مقدمته فيقول: (حقاً إن البيان ليسفّ وإن شعري لحصاة في ساحلك يا أمير الكلام ولكنها حصاة مخضوبة بدم الحسين الغالي فتقبل هذه الملحمة وانظر من رفارف الخلد إلى عاجز شرّف قلمه بذكرك).
التزم الشاعر في ملحمته بحراً واحداً وهو الخفيف ولكنه تنّوع في الروي فاعتمد على عدة قوافٍ ووحّد قافيتيه في قصيدتي المقدمة والختام وهذا ما أعطاها أسلوباً فنياً ووحدة متماسكة شكلاً ومضموناً كما جعل للقصائد هامشاً في الرجوع إلى الحوادث التاريخية من مصادرها.
إن ما يبهر القارئ لهذه الملحمة هو القدرة على التسلسل في الحوادث بالسرد القصصي الشعري والتضمين البديع للآيات الكريمة والأحاديث الشريفة داخل الإطار الشعري وقد أجاد الشاعر في تسمية الملحمة بـ (عيد الغدير) فهو المحور الذي دارت عليه أحداث الملحمة وقد مهّد لهذا الفصل الذي سبقه فذكر فضائل الإمام علي ثم استعرض كثيراً من أحاديث الرسول في حقه عليه السلام حتى توّجها بحديثه يوم الغدير (من كنت مولاه فعلي مولاه) فيبدأ هذا الفصل برجوع النبي صلى الله عليه وآله مع أصحابه من حجة الوداع وبعد أن يصف ذلك اليوم يقول:
جاءَ جبريلُ قــــــــائلاً: يا نبــــيَّ اللهِ بلّغْ كلامَ ربٍّ مجيرِ
أنتَ في عصمةِ مـــــن النــــــاسِ بيِّناتِ السماءِ للجمهورِ
وأذاعَها رسالةَ اللهِ وحياً *** سرمدياً وحجةً للعصورِ
ثم يستعرض أهم الأمور التي جاءت في خطبة النبي في ذلك اليوم حتى يصل إلى قوله:
ثمّ إني وليّــكم منذ كان الــــدهــــرُ طفلاً حـتى زوالِ الدهورِ
يا إلهي من كنتُ مولاهُ حقاً *** فعــــليٌّ مولاهُ غيرُ نكيرِ
يا إلهي والِ الذينَ يوالونَ ابـــنَ عمّي وانــصرُ حليفَ نصيرِ
كُنْ عدوَّاً لمن يعاديهِ واخذلْ *** كلَّ نكسٍ وخاذلٍ شريرِ
قالها آخذاً بضبعـــِ عليٍّ *** رافعاً ساعدَ الهمامِ الهصورِ
ويسترسل في هذا الفصل بذكر مبايعة الصحابة للإمام علي بأمرة المؤمنين مركزاً على أسماء كان لها شأن آخر بعد هذا اليوم.
أما في الخاتمة فيستدرُّ الشاعر الشفقة والعطف من الله باسم الإمام علي عليه السلام:
يا إلهَ الأكوانِ أشفـــــــــقْ عَليّا *** لا تمُتني غبَّ العذابِ شقيا
أولني أجرَ عاملٍ في صــعيدِ الــــــــــــــخيرِ يبغي ثوابَكَ الأبـــديا
مصدرُ الحقِّ لمْ أقلْ غيـرَ حقٍّ *** أنتَ أجريـــــته علـى شفتيا
أنتَ ألهمتني مديــــــــــحَ عليٍّ *** فهمى غيــــدقُ البيـانِ عَليا
هكذا كانَ صهرُ أحــمدَ يَضفي *** نبلَه ملءَ سرحةِ الدهرِ فَـيَّا
هو فخرُ التاريخِ لا فخرُ شعبٍ *** يدَّعيهِ ويصطفيــــــــهِ وليّا
لا تقلْ شيـــــــــــعة هواة عليٍّ *** إنَّ في كلِّ منصــفٍ شيعيا
وتستبدّ الآلامُ بالشاعر ويتلوّى على فراشهِ فيتأسّى بالحسين:
أتأسّى بالأكرميـــنَ خِصالاً *** لم يسيغوا في العمر شرباً مريّاً
بالذي باكرَ الشهــــادةَ بدريــــــــــــــاً وأعلى إكليـــــــــــلها الكوفيا
بجراحِ الحسينِ في كلِّ جرحٍ *** يجد الصبـــــــرَ كهفَه الأزليا
ويجد سلامة في اسم علي البلسم الشافي لآلامه وأوجاعه فيعود إلى مناجاته ليقول:
يا أمير الســـــلامِ حسبيَ فـــــخراً *** إنني منكَ مالئٌ أصـــغريا
جلجلَ الحقُّ في المسيــــحيِّ حتى *** عُدّ من فرطِ حـــبِّهِ عـلويّا
فإذا لم يكنْ عــــــــــــــــــــليٌّ نبياً *** فلقدْ كـــــــــان خُلقه نبويِّا
يا سماءُ اشهدي.. ويا أرضُ قرِّي *** واخشعي أنني أردت عليا
محمد طاهر الصفار
....................................................................................
بولس سلامة: شاعر وأديب لبناني ولد سنة (1902) في جزين درس الحقوق في الجامعة اليسوعية، وعمل قاضياً سنة (1928) أصدر عدة كتب منها: مذكرات جريح, حكاية عمْر, الصراع في الوجود, في ذلك الزمان، حديث العشية، خبز وملح، تحت السنديانة، من شرفتي، مع المسيح، ليالي الفندق. أما في الشعر فقد أصدر إضافة إلى ملحمته: الغدير: علي والحسين، فلسطين وأخواتها، الأمير بشير، عيد الستين، ملحمة عيد الرياض.