بقلم:مليحة عبدالكريم الشافعي
هل تعلمون أن أقسى أنواع العقوبة لدى الموظف الياباني أن يتم إيقافه عن العمل لأيام أو ساعات؟ وهل تعلمون أيضًا أن أغلب الموظفين في اليابان يعملون في منظماتهم طوال حياتهم مع شعورهم بالرضا والانتماء كأفراد إلى أسرة المنظمة التي ينتمون إليها؟ فما السر في تحوّل الشعب الياباني إلى شعب يُقدّس العمل والإنتاج، ويشعر بسعادة وجوده في المنظمة من اليوم الأول حتى وفاته؟
الحقيقة أن السر يكمن في اعتماد النموذج الياباني على احترام الإنسان (الموظف) كمنهج راسخ، فالموظف أولًا، والعمل ثانيًا، انطلاقًا من مبدأ أن الاهتمام بالإنسان يُساعد في خلق بيئة عمل مناسبة ومُحفّزة تضمن تحقيق أهداف المنظمة.
في منظماتنا يكثر الحديث عن أهمية العنصر البشري، وتزخر الأدبيات بكم وافر من التأكيد على سعادة الموظف وكيفية تحقيق الولاء والرضا الوظيفي، ولكن في واقع الحال لا نجد إلا الشعور بالنفور، وسرعة الملل والبحث عن وظائف أخرى، أما الولاء للمنظمة فحدّث ولا حرج.
والسؤال هنا: كيف يمكن الاستلهام من التجربة اليابانية للوصول إلى مستوى متقدّم من تطبيق الإدارة اليابانية ونهجها الفريد في التعامل مع العنصر البشري على أساس الاحترام التام والعدل والمساواة وعدم التفرقة والعمل بروح الفريق الواحد؟.
هذا الأمر يقودني للحديث عن أفضل وأحدث النظريات الإدارية اليابانية التي حققت نجاحًا لافتًا بعد تطبيقها في كبرى الشركات العالمية، ابتكرها العالم الياباني وليم أوشي وأُطلق عليها «نظرية Z».
جوهر النظرية ينطلق من بناء العلاقة بين الإدارة والعاملين في المنظمة على أساس الألفة والمودّة والثقة الكاملة، وخلق بيئة اندماجية مُتكاملة تقوم على بناء فريق عمل يركّز على نجاح المجموعة لا الفرد.
أهم عنصر ركّزت عليه هذه النظرية هو عنصر الأمان الوظيفي، فالمنظمة تضمن للموظف العمل مدى الحياة، ولا تلجأ للاستغناء عنه حتى في أصعب ظروفها الاقتصاديّة، ولو كان هذا العنصر متوفرًا في منظماتنا لكان كافيًا في زيادة إنتاج الفرد وجودة عمله وولائه لمنظمته.
ومن ضمن العناصر التي ركّزت عليها النظرية اليابانية هو الاهتمام الشامل بالفرد في المنظمة، فالجميع متساوون من حيث الفرص والتكريم والسكن والرفاهية ومتطلبات العيش الكريم سواء كنت مُديرًا أو موظفًا عاديًا، وقد يكون مدير الفريق أقل من حيث المرتبة والمنصب من شخص آخر يعمل في نفس الفريق، فمهمته قيادة الفريق لا إدارته، والأهم تحقيق الهدف فالنجاح للفريق لا للقائد، وهذا الأمر يحقّق أجواء العمل الجماعي والشعور بالمسؤولية، والتركيز على نجاح الهدف، والمكافأة تكون جماعية لا فردية.
ولأن العمل يقوم على الفريق لا الفرد، كان لا بد من استخدام أسلوب المشاركة في اتخاذ القرار بين أفراد الفريق، الأمر الذي يولّد الانسجام والتوافق وصناعة حلول تشاركيّة، ويحفّز على الرقابة الذاتية، وهذا الأمر تطوّر حتى وصل إلى ما يُعرف بحلقات الجودة.
قد يسأل القارئ ماذا عن التقويم والترقيات المُحفّزة؟
الحقيقة أن الموظف الياباني وفقًا لهذه النظرية لا يحصل على الترقية بشكل سريع، بل يتم التركيز على تطوير مهاراته من خلال نقله في مواقع عدّة على المستوى الإداري الواحد نفسه حتى يضمن خبرة شاملة في كافة مهام المستوى الإداري، وبعد ذلك يتم تنقل الموظف بين عدّة أقسام للحصول على الخبرة والتشكيل الأساسي للتنويع المعرفي لديه، وقد تجد موظفًا صاحب خلفية في القانون يعمل في التسويق، وآخر مُتخصصًا بالتقنية يعمل في التخطيط، وهذه الفلسفة تنمّي قدرات الموظف من ناحية، وتضمن مشاركة وتنوّع المعرفة للحدّ من الاعتماد على الفرد حتى لا يؤثر غيابه على مُخرجات المنظمة.
خبيرة ومدرّبة في مجال التنمية البشرية والتطوير المؤسسي