مليحة عبدالكريم الشافعي
هل تبدو فكرةُ التوازن في الحياة بين إتقان العمل والحفاظ على العائلة مجرّد وهْم وخرافة؟ أم أنّ الأمر قابل للتطبيق؟
ربما يبدو الأمر مُستحيلًا لمن ينظر للحياة من جانب ماديّ بحْت، تقول الكاتبة جانيت لوبلانك: «لا تجرّب التوازن، لا تبحث عنه، جرّب الانحياز وبكل تأكيد لا تحتاج إلى التوازن»، أما مارثا ستيوراث وهي سيّدة أعمال وكاتبة أمريكية فترى أنّ «التوازن بين العمل والحياة حلمٌ بعيد المنال، واضطررت أن أضحي بالزواج بسبب إغراءات الوظيفة، ويستحيل على معظمنا تحقيق هذا التوازن».
والحقيقة أنّ التوازن مهما بدا للبعض مثل السراب إلا أنّه ليس بالأمر الصعب، خصوصًا إذا ما أجاد الإنسانُ ضبطَ مسارات أولوياته، وتعامل مع الحياة بمرونة عالية وَفق فنّ الممكن، وهو ما يصنع توازنًا سعيدًا يحقّق أكبر عددٍ ممكن من متطلبات العمل والأسرة معًا وبشكل مرْضيّ.
صحيح أنّه لا يمكن صياغة وصفة سحريّة يمكن من خلالها أن نحقّق حياة مثالية بين العمل والعائلة، بين الصحة والعطاء الوظيفي، بين واجبات العمل وواجبات الأسرة، لكن التواري بعيدًا بحجة أكذوبة التوازن لا يصنع حلًا، والتنازل عن جانب قد يؤدّي إلى التنازل عن الجانب الآخر.
في تصوّري الشخصي لا ينبغي أن ننظر إلى الأمور بمثالية عالية، فالحياة بأكملها ليست مثالية، والذي يريد أن يحقق حياة مثالية في عمله وأسرته سيصاب بالإحباط، ولذلك نقول: إن الأمر يحتاج إلى موازنة وترشيد، فليس بمقدور الإنسان السيطرة على كل شيء في الحياة، ولكن بمقدوره تقدير الأمور والتعامل معها بواقعيّة ومرونة.
والتوازن الذي نقصده هنا لا يعني فصلَ الحياة العملية عن الحياة الخاصّة والأسريّة، فهناك ترابط وانسجام بينهما لا يمكن فصله، وكلتاهما تؤثّر في الأخرى، لكنّنا بحاجة إلى تحقيق جانب من التكامل بينهما، وهو ما يذهب إليه جيف بيزوس مؤسس عملاق التجارة الإلكترونية «أمازون» إذ يرى أن «التكامل أعم وأفضل من التوازن، لأن التوازن يقتضي إدخالنا في مقايضة صارمة رغم أنّ الأمر لا يسير بهذه الطريقة. في الواقع إذا كنت سعيدًا في العمل، ستكون أفضل في المنزل، وإذا كنت سعيدًا في المنزل، ستذهب إلى العمل أكثر نشاطًا».
الأمر لا يقتضي أن ننظر إلى الأمور بصرامة شديدة، وبحسابات الوقت وكم تقضي وقتًا في العمل وكم تقضي وقتًا مع أهلك، المرونة والواقعية والقبول بالمتغيرات الطارئة تساعد كثيرًا في إحداث هذا التوازن والتكامل بشكل مريح ومذهل.
بالطبع تختلف تصورات كل فرد عن الآخر، ولكلٍ طريقته وأسلوبه، لكن الأمر لا يتعدّى مسألة تحديد الأولويات، والتوافق الخاص بين رب الأسرة، وربة الأسرة، وفريق العائلة في تحقيق هذا التكامل، في تحسين مستوى الرضا، وتقدير الظروف الاستثنائية للعمل، وقبل هذا التعاون في قبول الوضع على ما فيه من تقصير إن حدث.
مهم أن أشير هنا إلى أن النظرة العربية والإسلامية للأسرة تختلف تمامًا عن الواقع في الغرب وأوروبا، فالأسرة بالنسبة لنا أساس المجتمع وبالتالي تزداد أهمية التكامل بين الأسرة والعمل لتحقيق حياة متوازنة.
ربما هذا الموضوع يعني المرأة العاملة في الوظيفة العامّة أو الخاصّة أكثر من الرجل، فمسؤوليات المرأة أكثر من الرجل في المنزل، ولكن مع ذلك ومن واقع تجربة خاصّة وملاحظة مستمرّة وجدت نساء رائدات في مجال أعمالهن ومع ذلك حافظن على كثير من التوازن والدفء العائلي ويسرن بخطى ثابتة إلى الأمام، وعائلاتهنّ عامل من عوامل التشجيع والنجاح.
لنتذكر جميعًا: أن المثالية مضرّة، ولكن التنظيم أساس كل شيء في الحياة، والمرونة وتحديد الأولويات عوامل مساعدة في تحديد مسار آمن لحياة متوازنة بين العمل والأسرة، ويتحقّق النجاح الأكبر عند تطبيق ثقافة تشجّع على العمل وتدفع له وتحافظ على الدفء العائلي وروح التعاون وتقدير المصالح والظروف بين أفراد العائلة.
خبيرة ومدرّبة في مجال التنمية البشرية والتطوير المؤسسي