بومدين جَلّالي: قراءة في "جرح وطن.. عينية الوجع العربي"

2021/04/11

أ. د. بومدين جَلّالي

تقديم: راسلني الدكتور الباحث الأديب صالح الطائي من العراق ملتمسا مني كتابة قراءة مختصرة لمشروعه الموسوم بـ "جرح وطن: عينية الوجع العربي" الذي بادر به وأشرف عليه شخصيا، فاستجبتُ للالتماس.

وهذا المشروع هو قصيدة عينية عمودية من الطوال، بحرها البسيط، جاءت في 425 بيت، موضوعها انفجار العاصمة العراقية بغداد في مطلع العام الجاري 2021 ، ساهم في نسجها عدد كبير من شعراء ينتمون إلى جنسيات عديدة ولا تواصل بينهم.. لذا برزت مشاكل كثيرة في النص الواحد حين تركيبه لكن الإشراف عمل ما بوسعه ليكون العمل نصا واحدا بلغ القصد في مبناه ومعناه.

وهذا ما حاولت مقاربته في قراءتي المختصرة ... وذلك في المقال التالي:

على هامش عينية الوجع العربي ...

شِعرُ التأزم في منظوري تعبيرٌ جمالي عن المشخص واللامشخص - في آن معاً - وفق إستراتيجيةٍ واجِهَتُها شعورية تتجلى في حيثيات الواقع بآليته الزمانية المكانية وخلفِيَتها لاشعورية متوارية في ارتكازات إبداعيتها الفنية ... وضمن ثنائية " التجلي / الخفاء " التي تجعل الواحد اثنين والاثنين واحدا ينبني المشخّص المقصود إشكالا قائما يخاله البصر قدرا مقدورا لا علاج له، وفي الوقت ذاته ينبني اللامشخّص في انعكاس البصيرة حلّاً ممكنا للإشكال القائم أو على الأقل بداية التفكير في حل منقذ مما أحدث الأزمة ونتج عنه شعر التأزم ...

هذا ما وقفت عليه وأنا أقرأ صامتا متأملا متألما وأعيد قراءة " جرح وطن " بعيدا عن نقد الخطأ والصواب وأطروحَتَي الاحتقار والانبهار بما فيهما من  قدح ومدح ضررُهما أكبر من نفعهما حتى لو لامسا بعض الصواب المسطح مثل الالتزام الصارم بالتقعيدات التي وضعها – تعليميا – العروضيون والنحاة والبلاغيون وغيرهم ممن نشطوا في حقول اللغة التي تبقى أكبر من التقعيد النهائي إذا انفلتت من سجن المعجمية ورحلت مبدعة منتجة للجمال الذي لم يخطر على بال منظر في ما تقدم من التقنين ...

المشخص المتجلي في واجهة النص

في المرحلة الأولى من القراءة وقفت على البعد المشخص الظاهر الانفعالي في عينية الوجع العربي التي تشكلت وجعا للعين العربية الدامعة بمرارة من جراء واقعها الذي تجاوز مفهوم المأساة مُنخرطاً في مجزرة الانتحار الذاتي الجماعي مُتّجهاً نحو مَضيق الخروج من حركة التاريخ بصفة تكاد أن تحيل على استحالة معالجة الوضع ... هكذا جاءت القصيدة الجماعية بكائية عامة نائحة نادبة حزينة حزنا قاتلا للصبر والأمل قابرا لروح الصمود والمقاومة منتظراً لِحتمية ماحقة للأخضر واليابس وكأن الشمس انفجرت والأرض اندثرت والقيامة قامت وفي الدنيا لم يبق معنى لمقدار ذرة من الأحلام والوئام والسلام ...

 كان العراق أول منتج لتاريخ الإنسان الفاعل السعيد وكانت بغداد أزهى حاضرة عربية إسلامية تربعت تاجا على رأس الحضارة الإنسانية الفاعلة السعيدة، وها هي العينية تنوح وتبوح قائلة:

- لقد انتهى ذلك كله في رمشة عين ...

وتبرير هذا المشخص شعرا لا نجده فقط في بعض ذاكرة الأقطار العربية ومدائنها المتعددة المختلفة وإنما نجده في الواقع العربي برمته خلال زمنه الأخير ... العراق يتلظى ويتشظى ويتآكل من الداخل كما يعمل – جهرا لا سرا - على أكله الآكلون من الخارج، وهذا ما حدث ويحدث حاليا وإن لم نجد المَخرج المنقذ سيحدث غدا بتمام التمام في الأقطار العربية كلها من دون استثناء يذكر ... وبغداد تنحدر وتنفجر وتحتضر في مشهدية بركانية زلزالية عاصفة بتخطيط خارجي عدواني وتنفيذ داخلي – رؤوسه خونة وأتباعهم لا يملكون أي وعي - تماما كما حدث ويحدث وسيحدث في المدائن العربية كلها، انطلاقا من بيروت في منتصف سبعينيات القرن الماضي ومرورا بالجزائر وعدن والقاهرة ودمشق وغيرها من مدائننا الكبرى وغير الكبرى - مشرقا ومغربا - ووصولا إلى الانفجار الأخير وليس الآخر في بغداد خلال مطلع العقد الثالث من الألفية الجديدة التي لا جديد فيها سوى الموت في الانفجارات المتتابعة وهيمنة جمع الأشلاء وثقافة النواح عليها في كل مكان يسمى عربيا.

وتأسيسا على هذا المشخص الظاهر في " جرح وطن " يمكن – بشيء من التسرع الانفعالي السطحي – إدراج هذه القصيدة المطولة الجماعية ضمن الرثاء العام مع زخات عابرة من التضامن الظرفي، ولكن بقليل من التأمل لا نجد في ثناياها رثاء ندبة ولا رثاء تعزية ولا رثاء تأبين ولا حتى رثاء مدن وحضارة كالذي حدث مع سقوط الأندلس ... وهذا ما دعاني إلى إعادة القراءة بشكل مغاير لما أشرت إليه باختصار أعلاه.

- اللامشخص المتواري في خلفية النص

في المرحلة الثانية من القراءة لخلفيات النص المركب ورمزياته وإحالاته وقفت بتمعن هادئ على اللامشخص، وهو أهم ما يوجد في نص يحتوي شيئا من الأدبية غير المألوفة غالبا حتي لو وجد له ألف ناقد وناقد من صيادي الهنات والزلات والعثرات أو من متخيليها ما ينفيه من دائرة أدبهم الوحيد الذي لا شريك معه ولا موازٍ له ولا بديل عنه.

وهذا اللامشخص يمكن تصنيفه كما يلي:

1 - إدراك أبعاد المأساة:

مأساة راهن هذا الزمن لها جذورها القديمة المتمثلة أساسا في التعصب القبلي العرقي والتطرف المذهبي الطائفي وما نجم عنهما لاحقا من طغيان سلطوي وجمود فكري أديا إلى انحطاط عام دام قرونا متتالية، كما لها جذورها الحديثة المتمثلة بدقة في الاستعمار الأجنبي المدمر والاستنهاض الوهمي المخدوع وما رافق ذلك من خيانة وتسلط وفساد ... والغريب حقا هو أن لا أحد من عرب الانحطاط أو الاستنهاض قد أدرك ذلك إدراكا شموليا واعيا ووجد السبيل إلى تفكيك عقد التأزم فيه والخروج منها بسلام معين.

وحين اكتمال المأساة بتزاوج القبلية والطائفية والاستعمار والاستنهاض المخدوع جاءت فكرة عينية الوجع العربي وما يضاهيها من مبادرات لتقترح على العرب كلهم إدراكا مغايرا لسابقه ... وهكذا كان النواح واحدا موحدا مشتركا لأن المصيبة واحدة موحدة مشتركة  ...ورغم كون النواح ليس حلا للإشكال إلا أن الإجماع عليه يعكس ما حدث من تغيير في الإدراك العربي العام للتهديد الوجودي الذي يحيط به من كل جانب.      

2 - البحث عن الجديد لعلاجها:

في المشارق والمغارب لم يكن العرب – كما يشاع عنهم زورا وبهتانا – من أهل اللهو واللغو والعبث والخلود إلى الراحة والنوم، بل كانوا وما يزالون من أهل الجد والجهد والكد والكمد خلال تاريخهم الطويل – والاستثناء الشاذ يحفظ ولا يقاس عليه – والدليل على ذلك أنهم حاولوا قديما فأفلحوا لتوفر أسباب الفلاح وحاولوا حديثا ولم يفلحوا لعدم توفر الأسباب ... وبعد الفشل والانسداد والتأزم وتجلي الخطر المحدق بالأمة جمعاء والوطن كله ها هم يحاولون من جديد وبشكل جديد، بتجنب بعض الأمراض الداخلية كالقبلية والطائفية والقطرية الضيقة والمصلحة الآنية وبالتخلي تدريجيا عن الفكر المستورد الذي لم يجلب إلا الدمار وراء الدمار ... ومشروع عينية الوجع العربي يندرج ضمن البحث عن الجديد المناسب لخطر المرحلة ...  

3 - بناء الجديد من الأصيل:

جدّد قدامى العرب في بناء حضارتهم العربية الإسلامية العظيمة انطلاقا من ذاتهم وتأسيسا على خصوصيتهم واستفادة من محيطهم دون الذوبان في غيرهم فكان النجاح الخالد في التاريخ، وجدد العرب المحدثون في بناء استنهاضهم انطلاقا من ذات غيرهم وتأسيسا على خصوصية ليست لهم من غير استفادة كبيرة ولا صغيرة لأنهم استوردوا القشور التي لا تجدي نفعا ولم يصلوا إلى لب ما عند غيرهم فكان الفشل الفظيع في راهن تاريخهم ... ولما وصل التأزم إلى ذروته ها هم يبحثون في كل قطر وفي جميع قطاعات الحياة عن سبيل لإنقاذ وجودهم من خطر المحو الوجودي ... هنا ظهرت فكرة تجديد المسار الذي تجاوز محاولات الإصلاح الترقيعي المتعثر هنا وهناك تأسيسا على الفعلين السياسي والاقتصادي أكثر من غيرهما من الأفعال.. وهكذا التفتت الأنظار إلى الفعل الثقافي من باب عسى ولعل، وبما أن هذا الفعل الثقافي مر بدوره حين الاستنهاض الوهمي بتجديد مستورد لا وعي فيه يتمثل في وضع السرد الغربي والتمسرح المماثل له والشعر الحر وما يجري هذا المجرى قاطرةً لعربات الحياة ثم انتهى إلى حال يشبه الهامش وليس القلب كما هو ساري العمل به في ثقافات الأمم المتحضرة القوية؛ لقد انتبهت الرؤوس المفكرة إلى أن الشعر العمودي بكل ثقله كان ديوان العرب الذي حرك روح الحياة خلال أزمان وأزمان وعندما ضَعُف؛ ضعف العرب معه وعندما هُمِّش همِّشوا وإذا عاد متجددا فاعلا سيعودون ... وكان ظهور عينية الوجع وما قبلها وما يحيط بها وما سيترتب عليها إعلاناً واضحا على أن التراث الأصيل لم يمت وأنه يمكن استثماره بشكل جديد ليقوم بدوره الحضاري ... والجديد المقترح هو خروج الشعر العمودي من حالة الإطراب إلى حالة الفكر ومن الفعل الثانوي الفردي إلى الفعل الأساسي المشترك ... ولعل النواح المسيطر على العينية هو مجرد استحضار لـ "" قفا نبك "" في المقدمات الطللية بينما الموضوع الرئيس بكل أطروحته الحضارية الكاملة سيأتي لاحقا في الشعر والنثر وما سيجسد المبتغى العربي المستقبلي في أرض واقع الأمة متحدةً متراصّةً ...

4 - التركيز على الثقافي المتخصص:

العينية وما شابهها فعل ثقافي جديد منطلقه ديوان العرب والمبادرون به المشاركون فيه هم جمهرة من شعراء العرب ... وهنا يُطرح السؤال : لِمَ هذا الفعل الثقافي المتخصص ولمَ الشعراء دون غيرهم؟

جاء التركيز على الشعر العمودي لأنه المشَكِّل الرئيس للروح العربية منذ جذور تاريخها، والمفسر الوحيد لماهية دينها كما أنْزِل لا كما تم تأويله لاحقا بغير سند، والحافظ الدائم للسانها الذي به تكون ومن دونه لا تكون، والمعبر بإعجاز عن وسوستها حين الوسوسة وعن طموحها حين الطموح ... وجاء الاعتماد على الشعراء دون غيرهم لأن الشاعر الفحل العظيم في مخزون الروح العربية ليس هو الذي ينظم الشعر ولا مروءة فيه – وبالتالي هو مجرد شعرور أو شويعر لا غير – وإنما الشاعر الفحل العظيم هو قبل أي اعتبار مفكر عظيم، وهو القائد الفارس الإعلامي حين البأس، وهو حين السلم المرادف الدائم للعالم الفقيه أو الفيلسوف المتأمل أو الأستاذ الباحث أو الطبيب الماهر أو المهندس المقتدر أو أي مختص في اختصاص آخر له أهمية قصوى في صناعة الحياة وتسييرها ... وهكذا ينجلي سر الاعتماد على الشعراء الفنانين المفكرين الذين يدخلون ضمن استثناء ""إلَّا"" في آخر آية من سورتهم القرآنية القاطعة لقول كل خطيب.

5 - تسرب فلسفة الحكم إلى الفعل الثقافي الحر:

في أول وهلة يبدو هذا العنصر الفرعي نشازاً غريبا، وربما يجعل القارئ يقول : لا علاقة لفلسفة الحكم بنص إبداعي يتموضع في حيز الأدب الباكي، بمشاركة أقلام من بلدان عديدة أنظمتها مختلفة ولا يربطها رابط بمصدر المبادرة ولا بالمشاركين فيها والمتفاعلين معها. وهذا اعتراض مشروع ما لم تتضح الحقيقة بأدلتها ... وقبل التوضيح؛ أريد أن أنبه إلى أن هذه الأسطر الأخيرة هي مقاربة استنتاجية ولا علاقة لها بالشروح ثم أن الغاية منها ليست إثبات السلب أو الإيجاب وإنما الوقوف على الخلفيات اللاشعورية للعمل حتى يمكن أن نستفيد منه بشكل ما، لا في المبادرات المقبلة وحدها وإنما في محاورة قضايا العصر برمتها، بما لها وما عليها.

عينية الوجع العربي عمل منفصل في واجهته عن فلسفة الحكم دونما شك ولا ريب ولكن ما يحيط به وما جاء في بنيته الفنية يقولان غير ذلك.

فمحيط النص يعلن بوضوح أنه حدد شروطا دقيقة للمساهمة في النص وأقصى جملة من المساهمات في الفرز الأولي ثم أقصى غيرها في الفرز النهائي ثم انتخب من المسهمات المقبولة فقط ما يتلاءم مع البناء العام للنص. والبنية الفنية الختامية يظهر فيها عمل مشرط الجراح إذ البحر واحد والقافية واحدة والروي واحد والكلمة المفتاحية واحدة والبكاء واحد، ولم ينج من الجراحة إلا ما سأتناوله في العنصر اللاحق من هذا المقال. وهذه الفلسفة التي تم بها تشكيل النص وتركيبه هي نفسها فلسفة الحكم عند كل الأنظمة السياسة المهيمنة على المجتمعات العربية في مشارقهم ومغاربهم، إذ يصنع هذا النظام أو ذاك المبادرة التي يريدها ويقنن لها القوانين ويفتح مجال المشاركة لكل من يبتغيها ثم يقصي من يراهم غير مناسبين وفق مراحل لها أسبابها التبريرية ويصل ختاما إلى ما يريده ويراه جديدا معقولا مقبولا من غير أن يفكر كثيرا أو قليلا في من أقصاهم، والنتيجة هي واقعنا المأساوي الذي فجّر بغداد وغير بغداد.

وهذا الاستنتاج لا يلغي عينية الوجع العربي ولا يقلل من قيمتها ولا يشكك في نوايا أحد ممن لهم يد فيها وإنما يرفعها إلى مقام المبادرة التي قدمت دروسا مقصودة لجميع العرب حول وجعهم وأخرى غير مقصودة بالدعوة إلى جعل الفعل الثقافي فعلا حرّا بطبعه ديمقراطيا بممارسته لكي تحرر الأمة من الضغوط الواقعة عليها وتبني حياتها وفق اختياراتها في تعايش سلمي يجد الناس فيه مصالحهم العامة وراحتهم النفسية من غير إقصاء لأي كان، مع التزام نظام مرن لا يلغي حق أحد.

ومن باب التمثيل على النظام والمرونة معاً في حقل الشعر العمودي أشير مجرد إشارة عابرة إلى تجربتين كبيرتين في تاريخنا الأدبي، أولاهما قديمة تراثية وهي تجربة الألفيات التعليمية كأرجوزة عبدالواحد بن عاشر التي تغير الروي مع كل بيت من غير أن يحدث أدني خلل في بنيتها الصوتية ولا أدائها المعرفي، وثانيتهما حديثة الظهور وهي تجربة الملاحم الشعرية مثل إلياذة الجزائر لمفدي زكرياء الواقعة في ألف بيت وبيت، مقسمة إلى مائة مقطع ببحر واحد وروي متغير مع المقاطع المفصولة بلازمة متكررة من غير إن يؤثر ذلك على البنية الفنية للنص في شيء يذكر بل كان التنوع عاملا مساعدا على وصف تجليات الجمال وتاريخ الجلال في الأحقاب المتتالية للجزائر الواسعة.  

6 - انتفاضة الثقافة تلقائيا:

الفعل الثقافي الإبداعي عموما يجد لنفسه بدائل تلقائية خاصة ينتفض بها على التضييق الفني الذي يُفرِض عليه، وهذا ما حدث في عينيه الوجع العربي. وقبل أن أقف على بعض ذلك أشير إلى أن ظاهرة البدائل تجلت أدبياً بصورة عامة على مستوى الآداب العالمية في الكتابات الرمزية التي يقول ظاهرها شيئا بينما يقول باطنها شيئا آخر مسكوتا عنه بسبب تضييق ما، وتجلت أدبيا بصورة خاصة على مستوى الأدب العربي في الكتابات الصوفية التي تقول الشيء بغير لفظه تجاوزا للتضييق وارتقاء بالأدبية في حد ذاتها، كما تجلت ضمن الثقافة العربية الإسلامية بصورة أجمل وأوسع في فن الخطوط أو الكاليغرافيا التي دخلت المساجد لتزخرفها بجمالية لا غبار عليها مستخدمة آيات الذكر الحكيم ونصوص الحديث النبوي الشريف وهذا تعويضا عن الرسم والنحت الممنوعين، ومن دور العبادة وملحقاتها خرجت هذا الجمالية العربية الإسلامية المنمازة لتعبر عن حضارتها بأدواتها في كل مكان دونما أدنى إشكال يذكر.

وبخصوص عينية الوجع نجد أنها حاولت مقاومة التضييق الفني الذي وقع عليها والواقع المأساوي الغريب الذي كان مصدر وجودها بمظاهر متعددة منها ما يلي :

1 - حين الانطلاق كان الموضوع هو فاجعة بغداد لكن مع التقدم قليلا تحولت بغداد إلى مفتاح لكل الفواجع والمواجع التي أنتجتها ظروف العصر العربي الأخير، وهذا من باب إدماج المتلقي العربي المقهور في حيثياتها، أينما كان تواجده.

2 - أسس مُركِّبو النص بنيته المنتقاة على قصيدتين جاهليتين أولاهما رسالة لقيط بن يعمر الإيادي وهي التي كانت وراء اختيار البحر والقافية ظاهريا وفي الخفاء هي إحالة على الصراع العربي الفارسي الممتد في الزمان والمكان، وثانيتهما معلقة عنترة بن شداد العبسي المحيلة على البطولة التي نحتاج إليها وهي غير متوفرة، ثم تأتي قائمة طويلة من قدامى المشارقة فقط ... وذلك من أجل إثبات أن عينية الوجع تندرج في امتدادهم التاريخي ولها شرعية وجودها في هذا الامتداد.

3 - كان غرض العينية هو الرثاء لكنه فقد خصائصه ليصبح تداخلا نائحا يجمع بين الأغراض كلها ويتجاوزها إلى شيء آخر يسعى ليجمع بين النقيضَين ويفرق بين المتحدَين تماما كما حدث ويحدث في راهن الواقع العربي، متجاوزا بذلك إرادة مركبي الأبيات الذين حاولوا بناء نص متناسق.

4 - أسلوبيات الشعراء المساهمين تقول بوضوح إن النص متعدد ... فهذا يقرر، والآخر يسرد، والثالث يصور، والرابع يتداعى، والخامس يمسرح، والسادس يتناص، والسابع يستبطن، وهكذا يسير التعبير بتمايز أسلوبي كبير وتفاوت لغوي يتأرجح بين المستهلك الشبيه بالدارج والنادر الملامس للغريب ...وهذا يعكس رفض الأبيات لعملية التطويع في نص يعلن عن نفسه بأنه واحد.

ومن جملة ما ورد في النص من تناقضات  وتفاوتات نصل إلى أن فكرة النص الواحد المتكامل المتناسق قد غابت ولا يمكنها إلا أن تغيب وحلت محلها فكرة النص المركب تركيبا فيه بعض الضيق الفني كما فيه بعض التوفيق ... ولعل هذا ما تتطلبه مرحلتنا التاريخية المصطخبة المضطربة المتناقضة التي لم يتمكن أحد من أهلها بعد من إيجاد مَخارِج سليمة من أزماتها كلها أو بعضها ... ويبقى التجريب متواصلا إلى أن يبلغ القصد ويحقق المنى ...

ختاما؛ أقدم تحياتي وتقديري إلى صاحب المبادرة والمشاركين فيها إبداعا وتقديما ونشرا وتوزيعا، وإلى القراء في كل مكان، وإلى كل الذين يحاولون أن يجدوا مَخرجا سديدا رشيدا حميدا مما نحن فيه ............ والله سبحانه وراء القصد وهو ولي التوفيق.

 

بقلم: أ. د. بومدين جَلّالي

أخترنا لك
جامعة فلسطينية تصنّع جهاز تنفس جديداً

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة