مقاربة في الوهج قراءة في قصيدة: يا من سكنت بحوري للشاعرة منى الحاج

2020/02/06

بقلم // باسين بلعباس
النص:
يَا مَنْ سَكَنْتَ بُحُورِي وَ مَا نَسِيتُكَ مرَّةْ !
شعر: منى حسن محمد الحاج
*********
يا من سكنتَ بُحوري
ومانَسِيتكُ مرَّةْ..
وَ جِئْتَ ذَاتَ قصيدٍ
تُعِيْدُ لِلحبِ ذِكْرَهْ
إنِّي سَطَرْتُ حَنِينًا
يُعانِقُ اليَوْمَ سَطْرَهْ
وكِدْتُ يَا رُوحَ رُوحِي
أَمُوتُ شَوْقًا وَ حَسْرَةْ
وَ أَنْهَكَ العِشْقُ حَرْفِي
فَأَشْعَلَ الشَوْقُ حِبْرَه
وغَالَبَ الدَمْعُ شِعْرِي
وَ جَاءَ يَطْلُبُ عُذْرَهْ
يَقُولُ يَا بَعْدَ عَيْنِي
"مَالِي بِحُبْكَ قُدْرَةْ"
أَهْوَاكَ يا فَجْرَ عُمْرِي
وَ القَلْبُ يَعْشَقُ أَسْرَهْ
وَ َلَسْتُ أُنْكِرُ حُبي!
فَأَلْزِمِ القلبَ صَبْرَهْ
وَخَلِّ عَنْكَ التَجَنَّي
فَفِي فُؤَادِيَ جَمْرَهْ
وَ مَا بِصَدْرِيَ حُزنٌ
قد فَاقَ حَجْمَ المِجَرَة
وَ لَيْسَ لِي غَيْر دمعٍ
يَشْكُو لِطَيْفِكَ هَجْرَهْ
يَقُولُ: زاد اشتياقي
فَجُدْ عَلَيَّ بِنَظْرَة
وَ اقْبَل حُروفي خجلى
تأتيك في كُلِّ زَوْرَةْ
مِنْ رَوْضِ سِحْرِ القَوافِي
تُهْدِيكَ أَجْمَلَ زَهْرَةْ
*********


*********

الشاعر ليس خطيبا عليه تعليل الحالة ،لأن التعليل يخرج من الحالة،وبين الحالتين تكمن الحالة التي نتكلم عنها في هذه القصيدة..
إن الأولى :حالة الولادة،والإنتاج،والدافع الذي فرض،وأوجد..قد تكون حالة عاطفية،حالة وجدانية،حالة إيمانية،حالة تشاركية،لا يشعرها إلا من وجد في نفسه الوجد،والانصراف إلى القول،فكانت القصيدة ..وليس لأحد أن يسأله :كيف،ولماذا؟بل هو قد لا يجد الجواب المقنع،ولهذا ليس مطالبا بالتعليل،والإقناع..كما يرى حازم القرطاجني،في منهاج البلغاء:كلام الإقناع لا يكون شعرا،بل الأجدر به الخطابة"..أما الثانية:وهي حالة التشكل والبناء الهندسي للنص،وساعة الفعل،لا ينصرف العقل إلى التعليل،وتبرير ما يفعل،لأنه سيوجد لفعله عوامل الزوال،والفشل..ويتحول إلى كونه:"أصيلا في الخطابة دخيلا في الشعر"يضيف حازم القرطاجني..
والقراءة العابرة للنص تشدك موسيقاه،لكنك لا تُلِمُّ إلا بسطحه الأملس،لأنك لا تلبث أن تتزحزح كما لم تكن قادرا على التجديف بين أموجه العاتية.
أما الثالثة:
فالنص ندخله بالتعيين،لم تشأ الشاعرة أن تضع العبارة لغير المتلقي المقصود،الساكن بحور الشعر..
النداء خاصية الطلب بالحرف،ينوب الحرف،يا،جملة فعلية تامة الأركان..ولأن الشعر فيه خاصية الإيجاز والدقة،ولا ينبغي العثور على ما هو خارج النص،كان الحرف كافيا،وبليغا..المنادى لا يقبله العقل ساكنا خارج المكان..والحيز المجازي هو الشعر..أين يسكن هذا؟
البحور هنا يقصد بها الشعر لا غير..وقيل للوزن بحر،ولجمعه بحور،وليس بحارا..لأن الشاعر يمكنه أن يكتب على منوالها مالا يعد من القصائد،ولكن الشاعرة هنا،لم تقر بأنه سكن البحور فقط،بل وتقر أنه لم يبرح ذاكرتها،ولو مرة واحدة..
يا من سكنتَ بُحوري
ومانَسِيتكُ مرَّةْ..هذه كتلة أولى عينت،وحددت،وقالت من المقصود..والدخول يتطلب المتابعة،وفتح المغلقات..ولا نكتفي بعتبة العنوان..الذي أخذ شكل الكتلة الأولى..لكننا نسأل:من هو هذا الذي سكن البحور،ولم تنسه الذاكرة؟
إنه في الكتلة التالية:
وكِدْتُ يَا رُوحَ رُوحِي
أَمُوتُ شَوْقًا وَ حَسْرَةْسقوط سريع لعدم القدرة على المواجهة،والإخفاء،لأن صورة المحبوب على وجه المحب ظاهرة..تعلن عنه بأنه روح الروح..وحين تكون الروح في تساميها ترتقي مراتب العارفين فتذوب في المحبوب ،ولا تبقي لها شيئا..
وَ جِئْتَ ذَاتَ قصيدٍ
تُعِيْدُ لِلحبِ ذِكْرَهْ
إنِّي سَطَرْتُ حَنِينًا
يُعانِقُ اليَوْمَ سَطْرَهْ..
المجيء ليس إلا حالة بعث وإحياء لجذوة مازالت مشتعلة تحتاح نفَسًا لهيجانها..وتوهجها..
وكأن القصيد أصبح الملهم لحالة الوجد..والعشق الروحي
وقد أكدت الشاعرة على ذلك بتكرار لفظة القلب :
أَهْوَاكَ يا فَجْرَ عُمْرِي
وَ القَلْبُ يَعْشَقُ أَسْرَهْ..إنه الجواب عن السؤال الأول:من المنادى؟
تقول هو فجر العمر،هو بدايات النشوء،والخلق،والتكوين..
هو حالة الجسد الأولى،الحالة المادية لتشكله الآسر،للقلب..وعشق هذا الأسر،هو نور القلب الذي يضفي على المعرفة حقيقتها ،لأن نور المعرفة:"لا يذهب ذهابا كليا ولكن يذهب منه ما تعلق بالخلق ،ويبقى ما تعلق بالحق"*
..وهذا القلب:
وَ َلَسْتُ أُنْكِرُ حُبي!
فَأَلْزِمِ القلبَ صَبْرَهْ..
الممتليء بالحب،والرحمة والتمكين والقرب، وهي كلها واردات القلب وهي:"أنوار قدسية متذوقة من حضرة الحق ترد على من وردت عليه فتكسبه صفاء،وتمكينا وقربا.."
ولم تتوقف الشاعرة عند لفظ القلب ،وهي درجة متقدمة في المعرفة كما يراها صاحب كتاب :حالة أهل الحقيقة مع الله ص:217:"
1/القلب:لقوله تعالى:"فإنها من تقوى القلوب"
2/الفؤاد:"لقوله تعالى:"ما كذب الفؤاد ما رأى "
3/الصدر،لقوله تعالى:"أفمن شرح الله صدره للإسلام ...."
بل إنها استعملت مباشرة بعد القلب،الفؤاد..فالصدر
لاحظ قولها:هنا:
وَ َلَسْتُ أُنْكِرُ حُبي!
فَأَلْزِمِ 1/القلبَ صَبْرَهْ
وَخَلِّ عَنْكَ التَجَنَّي
فَفِي2/ فُؤَادِيَ جَمْرَهْ
وَ مَا3/ بِصَدْرِيَ حُزنٌ
قد فَاقَ حَجْمَ المِجَرَة..
فالقلب هي المضغة التي أخبر الحبيب المكصطفى أن الجسد لا يصلح إلا بصلاحها،ولا يفسد إلا بفسادها..ولأنه صالح هنا،تغسل الأحزانَ بالدمع..وبه تشكو،
وَ لَيْسَ لِي غَيْر دمعٍ
يَشْكُو لِطَيْفِكَ هَجْرَهْ
يَقُولُ: زاد اشتياقي..
فَجُدْ عَلَيَّ بِنَظْرَة
النظر إلى وجه المحبوب هو التجلي الذي عرفه الصوفية بأنه:"ما يظهر على القلوب من أنوار الغيوب"**
وكذا الشوق إلى لقاء المحبوب.
وَاقْبَل حُروفي خجلى
تأتيك في كُلِّ زوره
مِنْ رَوْضِ سِحْرِ القَوافِي
تُهْدِيكَ أَجْمَلَ زَهْرَةْ.هكذا تختم هذه السياحة الروحية،وهذا الترقي في الملكوت،بحثا عن :روح الروح،وفجر العمر..فما الروح هذه:"إنها اللطيفة الربانية المودعة في الجسد الإنساني ،ولها فيه نوع تصرف باعتباره سر الحياة.." ***
والهدية زهرة من حديقة الشعر،إنها ربط بين البداية،والنهاية،بين البحورفي المطلع،والعنوان،وبين القوافي في الخاتمة..وهي ميزة تجعل للنص وحدة عضوية متماسكة غير قابلة للتجزئة..
بعض اللغويات:
استعملت الشاعرة العامية المهذبة في مقطع،لا تثير الانتباه،ولا تشعر المتلقي العادي بأنه من خارج المستوى الفصيح..وهي من العامية الراقية..إذا جازت التسمية.. يَقُولُ يَا بَعْدَ عَيْنِي
"مَالِي بِحُبْكَ قُدْرَةْ"..وقد نبهت الشاعرة إليها في النص ،ولا ضير في ذلك،بل إنها ليست خارج النص،ولا تفيض عن معناه،ولا تحتاجها كعصا تكمل بها المعنى،بل هي في صلبه،وزادته قوةعندما تسلل هذا التعبير إلى التسامي والتكامل بين النص والناص لتخرج العبارة مكملة المعنى،وحالة الإيجاد،والولادة التي أشرت إليها في البداية،نجدها في تصنيف الروح عند الإمام الغزالي،التي منها:"الروح الخيالي،وهو يكتب ويحفظ ما تورده الحواس"****
وفي المقطع الأخير استعملت الشاعرة مفردة (زورة)..وكان يمكنها استعمال ( مرّة)،وتصلح صوتيا ومعنى،ولكنها لا تناسب بلاغيا مفردة ،(زهرة،)في الأخير..لذلك كان التبرير الذي لا يقال،ولكنه يستنتج،لأنها إن قالته،أمكنها أن تحول نصها إلى الخطابة ،كما قلنا في التقديم..وتزيل عنه صفة القصيدة ..
إنها قصيدة بكل المقاييس،والمعايير الشعرية..تشعر بقربها منك،وبتلونها بوهج الروح،ونبض القلب..تخبر عن حالات سامية،ويمكن لكل متلق أن يسقطها على نفسه..
متى كان رديفا ـ الإسقاط ـ للفضيلة..ففي المصطلح المتقابل:التحلي والتخلي:
"يكون التحلي بجملة الفضائل بعد التخلي عن جملة الرذائل"*****
.......................
إحالات:
* / ابن عربي (عنقاء مغرب/ ص:59
**/التصوف الإسلامي د.محمد بن بريكة.. ص:221
***م.س.ص:223
****/ابن عربي مشكاة الأنوار ص:34
*****/التصوف الإسلامي .محمد بن بريكة....ص:230
أخترنا لك
البابا فرنسيس ينتقد التمييز بين اللاجئين من أوكرانيا والبلدان الأخرى

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة