حنون مجيد
تندرج رواية “فيلم خرافي” للقاص والروائي حسن عبد الرزاق ضمن روايات الحداثة التي وسمت الرواية العراقية في العقدين الأخيرين، بما احتشدت به صفحاتها من عناصر غلب عليها طابع الإدهاش والتغريب والاستباق، فضلاً عن إلغاء المواقع التي يفعّلها المنطق والحتمية والتسبيب،، وغير ذلك من تقنيات كثيرة أخرى.
يسود أجواء هذه الرواية الطابع الكابوسي بعد أن تسلط حاكم غاشم على مقادير أبناء”جمهورية الماس” بعد أن اغتصبها من أخيه غير الشقيق، فأحال هؤلاء بما يمتلك من طاقة السحر إلى شيوخ وعجائز بإضافة أعمار إلى أعمارهم، في محاولة منه لتفكيك العرى الشخصية الحميمية، وتدمير الروابط الوطنية والإنس انية التي تربطهم بعضاً مع بعض، وإضفاء علاقات جديدة هي علاقات مسح الملامح والتغريب ، وصولاً إلى الضعف الوطني والهزال الإنساني وطمس الهوية، في دائرة مغلقة عن العالم الخارجي، ناشراً عيونه وعسسه لمنع أي وافد غريب أو إلقاء القبض عليه.
ليس من شك في أن هذه الصورة المعتمة، وأي صورة شبيهة أخرى، تشكلّ تحدياً لعشاق الحقيقة والحرية وأصحاب الفكر، ما يستدعي التصدي لها حتى وإن بمغامرة ما سواء أكان من داخلها أم من خارجها، وهذا ما حصل حينما انبرى ساحر عظيم من “جزيرة الفردوس الإصطناعية” لدخول هذه الجمهورية، والوقوف على أحوال ناسها وإعادة أعمارهم الحقيقة وسمات وجوههم ليعرفوا بعضهم بعضاً كما كانوا بالأمس، أي قبل “أربع سنوات”.
” منذ أربع سنوات ونحن نعاني هذه الحالة، كل صغير وكبير منا تحوّل وجهه إلى وجه إنسان عجوز ممتلئ بالتجاعيد، فيما وهنت أجسادنا وصارت خاوية….” ص 7
يجري ذلك عبر شريط فيلمي قصير يعرض صور “ذكور وإناث من أعمار مختلفة ظهرت على وجوههم تجاعيد شيخوخة مبكرة تساوى فيها الطفل والشاب والهرم فضاعت النضارة منها وخفت البريق….”7
كما أن ذلك يتم عبر تقنية الفيلم داخل الفيلم، مثلما يجري الأمر في الرواية داخل الرواية، لنزداد شغفاً بالمتابعة المشبعة بالتحولات.
تعميق الرواية
ولكي تعمق الرواية طابعها الذي عهدت لنفسها القيام به من تحديث ومغايرة للمألوف، تهيئ للبطل الاستعانة برفاق له من “الجن والحجر السحري” للتمويه على “كلاب الصحراء” التي تحرس هذا الجانب الصحراوي غير المطروق لدخول هذا البلد الغريب.
ثم تهيئ له، ما دام ساحراً عظيماً، أن يغير ملامح وجهه إلى السمات العامة لملامح الناس هنا لئلا يكتشف هويته الغريبة أحد ما، فتفشل إذاك مهمته التي انبرى للقيام بها..
هنا سيصبح متيسراً له تجول حذر ومحسوب في ميناء المدينة لإعادة ملامح الناس هناك، الذين يبدؤون بالتقاطر عليه، بسريّة تامة وليتحدثوا إليه عن ” هذه الحالة البشرية الشاذة التي لم يسجل مثلها في ذاكرة التاريخ” 8
وزيادة في التغريب دخلت الرواية الأسماء العربية، من قبيل حرب وعبد حرب والأجنبية من قبيل أرنولد ماثيوس، وصديقته سليفانا، ومدير الأمن سيف، وستيفن الذي هو جد أرنولد والذي” حارب هنا كضابط فردوسي قبل تسعين سنة” 11
في حوار بين أرنولد وعبد حرب، وهو صاحب مقهى لجأ اليها أرنولد، بعد أن أعاد للرجل شبابه بسقيه قطرة من سائل خاص يدعى “ماء الشباب” ، يتم الكشف عن طبيعة المهمة التي جاء من أجلها أرنولد وهي:” جئت من أجلكم” 17
وفي واحدة من الرجّات النفسية التي ترجّ الواقع النفسي للمتلقي على الشريط، يتصل عبد حرب بشقيقه ويبوح له بالسر فيتصل هذا “بمديرية الأمن” مسرباً السرّ إلى هناك؛ “آلو، مديرية الأمن في بيتي رجل خائن”20 ” ثم يعود يغلق باب الغرفة على أخيه من الخارج ليتركه” يتقافز داخلها كسمكة وقعت في شبكة” 21 حتى يتم التحقيق معه وبين عينيه على منضدة المحقق صفان من الأسلحة؛ من سكاكين وسواطير من حجوم مختلفة، ومسدسات من أنواع متباينة، كانت أدوات بارعة للتخويف والترهيب وانتزاع الاعترافات. ” بماذا تفضل أن يقتلك السيد العام؟ بهذا أو هذا، أو هذا أو هذا…”34
ودليلاً على الضعف البشري الذي تلبس نفس عبد حرب تحت مرأى أسلحة لا مزاح فيها، اعترف عبد حرب بكل ما جرى له مع الوافد الغريب الساحر أرنولد منذ لحظة لقائه به. بل ولكي تُمسخ شخصيته وتُهدر كرامته يفرض عليه الضابط الأمني أن يصف ما حصل له على السرير مع زوجته ليلة عاد إليهما عمر الشباب!
لا تخلو الرواية من الإبهام وما يصب في عالم الفانتازيا، إن لم تكن اعتمدته كلياً منذ بدايتها، حينما داخلت الصور والأحداث بكيفيات مراوغة، فكأنها بذلك تدعو بعد القراءة الأولى، إلى أخرى أبعد غوراً ووعياً واستقراراً للوقوف بثبات على تطور آلياتها السردية، والاقتراب من إشكاليات عوالمها الغرائبية.
قوانين شخصية
تشير الرواية إلى أن هذه الجمهورية الآسيوية البعيدة، محكومة بقوانين شخصية ظالمة منذ أربعة عقود أفرغت شخصية مواطنيها، وولدت في نفوسهم حيفاً لا يمحى؛ ” ولأول مرة “….” تشرق من الوجوه كلها ابتسامة رضا مشتركة أوحت إلى أرنولد أنه أمام شعب من الملائكة وقع تحت سلطة شيطان لمدة أربعين عاماً”52
في واحدة من الانعطافات المتوالية وغير المتوقعة، وتلافياً للاسترسال الحدثي والزمني، يحصل لقاء بين الرجل المغلوب؛ رئيس جمهورية الماس “حرب” والرجل الغالب؛ ساحر جزيرة الفردوس ” ارنولد”، يشير إلى إصرار المهزوم على غطرسته وتنفّجه وقصر نظره الموكول إلى دائرة ضيقة يرى من خلالها الأحداث، هي الثلة التي تحيط به وتصور له بأن مساحة وعيه بنفسه وما يحيط به، هي المساحة التي حددتها لبصيرته أن تكون؛
“كان حرب الذي توالت بياناته التحذيرية مذ علم بالأمر عصراً، يقف خلف الكرسي باستقامة مكابرة، لابساً بدلة قتاله التي امتلأت بالنياشين وروائح أجساد حروبه القديمة، يده اليمنى ممسكة بمسدسه التاريخي ويده اليسرى تتشبث بحافة كرسيه العليا، والى جانبه شقراء هيفاء القامة…” 56 ـ57
وبرغم كل هذا الصلف وطغيان العمى على عينيه فإنه كان يعلم؛ ” أن طائراً شرساً سيحط على هامته في يوم ما ويثقبها بمنقاره ويسيل دمه….”57
ويبدو من خلال تأشير غير صريح، أن ثمة معرفة قديمة بين ” حرب” و” ارنولد” لذا كانت صيحة حرب عنيفة وهو يرى أرنولد يحتل أرضه؛ ” أنت”؟ 57 ” كان أرنولد يعرف قلب صاحبه القديم”58
بل إننا سنرى ذلك واضحاً في صفحات مقبلة، إشهاراً للهوية الوطنية المثيرة للشبهة حينما يؤاخي شيخ زنجي ذو مكانة ما بواسطة تمازج الدم عبر مشرط يفصد به الإبهام في “أخوة دموية”، بين مجموعة أشخاص من ضمنهم حرب وأرنولد هذين.
” كان أول المتقدمين للأخوة هذه هو حرب علوان حيث مرّ مشرط الخادم على اصبعه”………” أما الرابع الأكثر أناقة ووداعة والأصغر عمراً بينهم فلم يكن سوى أرنولد ماثيوس صاحب الوسامة “…” وبعد ذلك التمازج الدموي نهض الشيخ بجسده الهزيل “……” وأمر الكل بخلع قمصانهم ثم بدأ يشم بيده على صدورهم العارية كائناً له وجه إنسان وجسد حيوان يحمل على ظهره نحمة لم يتضح جيداً عدد رؤوسها بالضبط”!
في هذه الرواية قليلة الصفحات تتسع الرؤية كلما قطعنا شوطاً في قراءة متحولة وغير رتيبة، تفجؤنا كل لحظة بمدلولات متناسلة باستمرار لنقول في الأخير وفي إيجاز بأن هذه الرواية في عمومها وفي آخر ما يتوصل إليه قارؤها، تؤكد البعد الوطني الشاسع بين المواطن البسيط وغطرسة هذا الذي وصفته بالشيطان، وبأنه يعاني عقداً طفولية ورغبات فانتازية، ومغرم بالأبهة والفخامة والملابس والنياشين والنساء، وقصر بصر شديد، في إحالة إلى حاكم معاصر قريب، أو هكذا يبدو لقراءة ما.