أدب السخرية السياسية في تراثنا الثقافي -المصري

2021/01/03

د. محمود محمد علي

السخرية سلاح ذو حدين، فهي دائما تميل إلى استخدام الكلمة الغاضبة والرافضة للأوضاع والسلوكيات، وعلى هذا أصبح أسلوبا شائعا لدى العديد من الكتاب يتبعونه بطريقة غير مباشرة في النقد والتطوير والتغيير، إما في الجانب الشخصي أو في جوانب الحياة المختلفة، لأتها تهدف إلى تعرية الواقع وكشف الزيف الموجود فيه من خلال أساليب ّ مختلفة، تتبعها في بث رسائل مشفرة إلى المتلقي لكي يفك رموزها ويقوم بعملية التأويل وإعادة النظر في هذه الحياة وتصحيح ما يجب أن يصحح بلسان ساخر متهكم يترك أثرا قويا وعميقا في القارئ، والكاتب الساخر له نظرة عميقة للواقع وقدرة على نقده وكشف عيوبه، فهو إنسان ثائر على المجتمع لا يرضى بالواقع، فهو في سعي دائم لتغييره يستخدم السخرية سالحا لمواجهة التناقضات الموجودة في المجتمع.

والسخرية السياسية والتي تمثل محور حديثنا في هذ المقال مجال له خصوصيته في حقلي الرأي والتعبير، فحين تضيق مساحات الرأي ويعتمد النظام على الصوت الواحد فلا صوت يعلو فوق صوت السلطة؛ يلجأ الأفراد إلى مجال السخرية السياسية ليكونوا هم الفاعلين الرئيسيين فيه، يخلقون لأنفسهم أدوات شديدة البلاغة في الإشارة إلى مواطن قصور الممارسات السياسية للسلطة معتمدين في نقدهم على الهزل والرمزية، فالسخرية السياسية لها القدرة على اختصار خطابات النقد الطويلة من خلال نكتة موجزة تنتشر بين الناس، أو إثارة قضايا حيوية برسـمة ساخرة، كما يمكنها التأثير على الرأي العام عبر أغنية متداولة بين التجمعات غير الرسمية.

وقـد شهدت السخرية السياسية تجددا مستمرا عبر تاريخ المجتمع المصري، ففي كل أدوات وفنون جديدة للمعارضة السياسية والإشارة إلى الفساد السياسي والبطش الاجتماعي بشكل هزلي، يتضح هـذا التنـوع والتطور عبر التراث التاريخـي والموروثـات الثقافيـة علـى جـدران الأبنيـة التاريخيـة وبيـن أوراق الروايـات الخيالية، وعلـى خشـبات المسـارح وشاشـات السـينما وموجـات الراديـو، استطاعت تلك الفنـون أن تنقـل لنـا العلاقـة الصراعيـة بيـن السـخرية السياسـية والظواهـر الاسـتبدادية في كل عصر، حتـى وصلت السخرية السياسية إلى مرحلة متطـورة وأصبحت تستخدم الفضاء الخارجي والمواقع الافتراضيـة لتنال من تلك النظـم.

وإذا  ما رجعنا إلي الأثر التاريخي للسخرية السياسية لعصر الفراعنة وجدنا أن تلك السخرية  كانت إلـى تجسيد علاقـات السلطة والصراع السياسي بين الحاكم والمحكوم، فنجد على جدران أحـد المعابـد مشهداً للصراع بين القطط والفئران، يصور هـذا المشهد مجموعـة من الفئران القويـة - التي ترمز للقوة الشعبية قد كونت جيشاً وهاجمت حصناً للقطط - التي ترمز للحاكم وبلاطه - وقـد استطاعت دخوله فعـلا والقطـط في حالة شديدة الذعـر ، وفي مشهدٍ آخر نجد رسوماً كروكية علـى بعض صخور الفخار لصراعٍ بين القـط والفأر؛ حيث يقـوم ملك الفئـران بـإدارة عجلـة حربية يقودهـا كلبتان، ويهجم على حصن تحرسه القطط ، تلك الرسومات وغيرها هـي ترسيخ لفـن الكاريكاتير، والذي يعبر عن المعارضة السياسية وتأثيـر الأفراد علي النظام السياسي ومدى قوة الرأي العام والجماهير في مواجهة السلطة.

وخلال العصر المملوكي أظهر لنا التراث المصري صوراًَ وفنوناً ملحمية أخـرى تمتـاز بالطابـع الشعبي الساخر، كالعروض الشعبية في الساحات العامة والشوارع المتمثلة فـي "خيـال الظـل"  و" الأراجوز" ، والتي كانت بمنزلة المرحلة البدائيـة للفـن المسرحي فيمـا بعـد، نجـح فـن خيـال الظل في ترجمـة الظلم الاجتماعي والقهر السياسي خصوصا فـي العصـر المملوكـي، ولم يسلم حكام ذلك العصر من النقـد الـاذع الذي وجهه لهم هـذا الفـن، فقـد تمكـن مـن كشف علاقـة الحكام بالمحكومين، وتعرية الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الظالمـة، ولكـن َّ خيـال الظل تعـرض لهجوم عنيف من قبل السلطة السياسية؛ حيث أمر السلطان "سيف الدين جقمق" بحـرق شخصيات خيال الظـل وتعقـب من يعمل به.

وفي أواخر العصر المملوكي شهدنا حكايات وفنون خارج إطـار القانـون الوضعـي للسـلطة ، وقد كان لها أثر عظيم في حقل السخرية السياسية، ألا وهي "حكايـات الشـطار" أو مـا يسـمى "أدب اللصوص"،  تلك الحكايات التي نبتت من وسـط آلام العامة وهمومهـم للتمـرد علـى الحكومـات وأصحاب المال والسـلطة، رغـم وصف الحكام والسلاطين لهم بأنهم لصـوص صعاليـك وأسباب الفتنـة والاضطراب في البـلاد؛ إلا أنهم ارتقـوا إلـى مرتبة البطولات القومية بين الناس، فنجد في سيرة "علي الزيبق" و" أحمد الدنف" وغيرهم صور مجتمعية تعرض َ بطش الحكام وغياب العدالة الاجتماعية، وتكمن بطولة هـؤلاء في قدرتهـم علـى تحقيق العدالة الاجتماعية، فهـم يحتالون على أصحاب المال والسلطة الفاسدين ليردوا المال لمستحقيه، وعلى الرغـم من بساطة أسلوب هذه الحكايات إلا أنها حملت بيـن طياتها جزءً مـن الطابع البروليتاري الثوري، ينتقم فيهـا أبطال الحكايات من السلطة السياسية .

هذا وتعج الحكايات الشعبية بالقصص والنوادر، إلا أن أشـهرها (نـوادر جحا) التي تميـزت بفكـرة "الرمز والقضية"،  فنجد دوما أن بيت "جحا" الفقيـر عرضة للصوص، وأن "جحا" غالبا ما يلجـأ إلى ذكائه وألاعيبـه الطريفـة للتغلب على هؤلاء اللصوص السـذج ؛ فمثلاً : ُيروى في إحدى نوادر "جحا" أن لصا دخل داره فشعرت به امرأته، فأخبرته فـي لهفـة وهـي مذعـورة: ألا ترى ٍ اللص يدور في البيت؟ فأجابها بهـدوء شديد: لا تهتمي له! ليته يجـد شيئا يهـون علينـا أن نأخذه من يـده، وفي تلك الحكايات وغيرها إشارة إلى غياب القانون وعـدم ثقـة الناس في قضاء الدولة في ظل وطن ٍ منهوب ٍ يعاني من خلل سياسي.

وثمة نقطة أخري مهمة وجديرة بالإشارة ألا وهي أن الحديث عن السخرية والفكاهــة مرتبط في الأذهان بالمسرح باعتباره الساحة الأشهر لتناول القضايا والموضوعات بشكل كوميـدي، انتشرت فكرة العـرض المسرحي على يد "السامر" في النجوع والقـرى والأحياء الشعبية قبـل أن يتطـور إلى شكله الأوروبي المعروف، كان يتناول مشكلات الطبقات الدنيا، ويقـدم ًا نقـداً لاذعاً للجند التركي وغفلته، والعنصر الأجنبي الناهب لأموال الناس وخيرات بلادهم.

وقد حافظ المسرح على دوره النقدي وانحيازه البناء شعبه، وقد تبلـورت علاقته بالدب فظهــرت لنا مؤلفات "توفيق الحكيم" الساخرة مـن أوضاع البلاد، عالـج "توفيق الحكيـم" قضايا مختلفـة، مثـل: قضايا حرية المـرأة والعدالة الاجتماعية، بالإضافة إلى مناقشته للأوضاع السياسية وعلاقـات السلطة والحكم، وفي روايته المسرحية )الحمير) ناقش بأسلوب فكاهي ساخر الممارسات َ القمعيـة إبـان ثورة 23 يوليو 1952م وخيبـة الأمل التي أصابت النـاس إثر تطبيق الاشتراكية وانحرافاتها التي أدت إلى الحكم المطلق.

وفـي الفتـرة نفسـها كانت قصائد "صلاح جاهين" مفعمـة بالأمل والثقـة المطلقـة فـي قـوة البـاد وجيشـها، تبنـى" صلاح جاهين" نوعا آخر من الأدب يركز من خلاله علـى الـروح الوطنيـة والحـب غيـرالمشروط لبلاده؛ فقدم صلاح جاهين " احنا الشعب" التي غناها المطرب عبد الحليم حافظ، وقصيدة " راجعين بقوة السلاح".

ويعد عصر الرئيس" حسني مبارك" هـو الفترة الرئاسية الأطول في مصـر مقارنـة بالرؤسـاء السابقين (عبد الناصر والسادات) ؛ لذا شهدت فترة حكمه تطـورات سريعة ومختلفـة بما فـي ذلك تطور السخرية السياسية، فقد سمح "مبارك« بالأعمال الفنية الاجتماعية للمواطن من استكمال العمل الديمقراطي، فناقشت الأفلام في عهده الحياة الساخرة من نظامه كنوع البسـيط والصعوبات التي يواجهها لتحقيق سبل العيش الكريم، مثل: فيلم (كراكون في الشـارع)، وفيلم (الإرهاب والكباب)، ورغم جرأة تلك الأفلام في تناول بعض القضايا إلا أن سخريتها ونقدها اقتصر على المستوى الأدنى واكتفى بالتلميح إلى فساد بعض مسئولي الدولة دون المساس برأسها.

إلي جاءت ثورة 25 يناير والتي كانت تمثل القشة التي قصمت ظهر البعير؛ ففي أقل من 18 سقط نظام حسني مبارك نتيجة أسباب عديدة ؛ نذكر منها الأسباب الاقتصادية، وتـزاوج السـلطة بالثـروة، والأسباب السياسـية، وفكـرة التوريـث، وتزويـر انتخابـات 2010م ، وأخيراً الأسباب الاجتماعية، مثــل: المرض، والفقر، والبطالة، وغيرها من الأمراض المجتمعية التي تفشت بشكل ملحوظ في المجتمع المصري .

وبعد انهيار نظام "مبارك" ارتفع سقف السخرية السياسية وتنوعت موضوعات الكاريكاتير، بل إن نمط فن الكاريكاتير تنوع ولم تعد أوراق الصحافة هي الموضع الوحيد له. فقد استطاعت ثورة 25 يناير خلق جيل جديد من رسامي الكاريكاتير نجحوا في التعبير عن الأحداث السياسية المتجددة ومناقشة القضايا الشائكة بكل حرية مستخدمين سلاح القلم والريشة؛ هذا بالإضافة إلي تطور مواقـع التواصـل الاجتماعي التي تميزت بكونها منبراً للإعلام المستقل والمتنوع، وتجلى استخدام مواقـع التواصل عندما استطاعت فئة الشباب أن تُخضع قنوات الإعلام الافتراضي لنقـد نظام "مبارك" بشكل هزلي والمطالبة برحيله.

ثم ازدادت معدلات السخرية السياسية من رأس النظام بتولي "محمد مرسي" مقاليد الحكم ، خاصة وأن نتائج فـوزه بالرئاسة كانت متقاربة إلى حدٍ كبير مع منافسه "أحمد شفيق"، مما جعل المناخ السياسي العام يسمح بوجود معارضة ترفض بالأساس خلفيته الدينية ؛ الأمر الذي شكل تدخل الجيش بإذن من الشعب المصري لإسقاط " محمد مرسي" في الثلاثين من يونيو 2013، ممثلا لمرحلة انتقالية علاقة جديدة بين السخرية السياسية والسلطة بشكل عام وبيـن الكاريكاتيـر الصحفي والسلطة السياسية بشكل خاص .

لقد أحدثت مواقع التواصل الاجتماعي نقلة نوعية في مجال الاتصال الجماهيري والرأي العام؛ فقد فتحت ساحات جديدة للنقاش وإبداء الرأي على أسس الحرية بعيدا عن وسائل الإعلام التقليدية؛ كمـا أنها تتميز بسرعة الانتشار وسهولة الاستخدام، واستطاعت من خلال أدواتها المتنوعـة أن تخلق آليات جديدة للمشاركة السياسية والتفاعل المجتمعي حول القضايا السياسية وذلك بعد أن سهل اسـتخدام Facebook وTwitter  انتشار السخرية السياسية لنقـد الواقع السياسي وتنظيـم صفـوف المعارضين لعمليات الحشد والتعبئة السياسية بشكل سلمي، كما لعـب موقـع Youtube دور الإعلام البديـل في بثّ فيديوهات تسخر من كل  شئ ، ومن تلك  الفيديوهات نتحدث في المقالات المقبلة عن  فيديوهات باسم يوسف وجو شو لبث التنكيت المخارع للشعب المصري .. وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط.

..............

1-  مي عبد الجليل: السخرية السياسية كأداة للمعارضة: مصر نموذجًـا 2010 : 2013، أركان للدراسات والأبحاث والنشر ، 2019.

2-آلاء عثمـان: "الفراعنـة أول من عرفوا السخرية واعتقدوا أن العالم خُلق من الضحك، مقال منشور باليوم السابع المصرية.

3- أيمـن حمـاد: "المظاهـر الدراميـة لفنـون الفرجـة الشـعبية"، الثقافــة الشــعبية، البحريـن، أرشـيف الثقافـة الشـعبية للدراسـات والبحـوث والنشر، العدد 19 ،خريف 2012 .

 

أخترنا لك
في محراب الكلمة ….متى تصبح الاجتماعات مضيعة للوقت ؟

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة