انتحار.. خاتمة سيلفيا بلاث ترجمة صالح الرزوق

2020/01/25

انتحار.. خاتمة سيلفيا بلاث

ترجمة صالح الرزوق

يقول كامو في “أسطورة سيزيف” إن أهم مشكلة يواجهها الكائن الإنساني هي مشكلة اختيار الانتهاء منها. ويكرر شكسبير أيضا هذا الموقف في هامليت حين يقول:”أن نكون أو لا نكون”. وربما كانت بلاث، التي أنهت حياتها بيدها، هي نتيجة لحقبة اختارت الجزء الثاني من سؤال هاملت: أن لا نكون.

بطريقة ما، نحن، القراء، علينا أن نحكم ليس على اختيار بلاث لأفعالها، ولكن على كل التقاليد الأدبية والثقافية التي تطورت منها. أولا، لدينا “أرض الخراب”، ثم تبعها عدة عقود خيم عليها بأفضل الأحوال الكآبة المتناهية في الحياة والوضع الإنساني. وذلك منذ بروفروك إلى نورمان ميلر وشخصيات روايته “حلم أمريكي” وهي حكاية رجل لا يتورع عن طعن زوجته. ولا شك أن طلبة الأدب الأمريكي الحديث يتساءلون غالبا:”متى سنقرأ شيئا أكثر بهجة؟”. واقترنت مع هذه الفكرة الفلسفية ظاهرة تيار الوعي في السرد، وهي تقنية ابتدعها جيمس جويس وفرجينيا وولف وأفرط باستعمالها وليام فوكنر. وهؤلاء ثلاثة من أهم الكتاب في عصرهم. وليس صدفة أن بلاث كانت تدرس “القرين” في أعمال جويس، وهو جزء من برنامج الدراسة في كلية سميث. فقد ذكرت جويس عدة مرات في مفكرتها وفي كتاباتها.

 

 لفهم كل التقاليد الأدبية - منذ إليوت وما بعد - ولإجراء مناقشة جادة حول مشكلة الانتحار، من المهم أن نسأل أنفسنا السؤال التالي: لماذا كان العديد من الشخصيات الذكية والشابة أتباع المدرسة الكلاسيكية بالتفكير هم أكثر اهتماما بجويس وإليوت وليس وولف وفوكنر. وهذا هو مكان بلاث الحقيقي، لأنها بكل تأكيد، حتى لو أنها لم تذكر إليوت، كانت صورة جرسها الزجاجي نتاجا مباشرا لأرضه الخراب. إنه لو وضعنا بالذهن عالمنا المعاصر الملوث، لن نشاهد هواء طاهرا ونظيفا إلا داخل قبة هذا الجرس.

في أعمال وولف وفوكنر، يمكن للقارئ الحساس، أن يجد أسباب الحياة مع الأسباب الموجبة للموت. ولنتذكر (انتحار) سيبتيموس سميث في “السيدة دالواي” وانتحار كوينتين كومبسون في “الصخب والعنف”، ولكن أيضا لنتذكر (عشاق الحياة) سالي سيتون والسيدة رامزي عند وولف، و(عشاق الحياة) ديلسي وديوي ديل، وأدي بوندرين ولينا غروف وإسحاق عند فوكنر. وبالنتيجة يمكننا أن نقول: إما أن بلاث لم ترغب أن تسمع، ولسبب ما، الأصوات التي تقول:”عش حياتك، عش حياتك!”. أو أنها لم تسمع فعل.

ولكن هناك عبارة وردت في مفكرة بلاث عن أيام بوسطن (1958-1959) وهي:”خذوا درسا من تيد. إنه يعمل بلا انقطاع. ينقح ويكافح ويفقد نفسه. علي أن أجتهد أيضا لأحقق الاستقلال. وأجعله يفتخر بي. وأن احتفظ بيأسي وأسفي لنفسي. أن أعمل باستمرار لتحقيق احترام الذات. أن أدرس للغة، وأقرأ باهتمام. أن أنغمس بالعمل”. مع أنها كانت ترغب بالتعلم من كاتب آخر، وأن تقتدي بأديب ناجح، فقد أعاق جهودها عقدة بلا حل، أنها اقترنت بتيد هيوز، وهو شاعر مختلف.  لقد رغبت بالاستقلال واحترام الذات، وهذا شيء تستحقه. ولكن هذه الرغبة رافقتها رغبة أكبر وهي أن يكون زوجها فخورا بها. وعليه كانت لديها إملاءات أو فروض فاعلة - البحث عن موافقة شخص آخر. ففي هذه العبارة الوحيدة، يمكننا أن نرى كائنا بشريا مدفوعا وضائعا في مشكلته المعقدة. كانت بلاث تبحث عن نظام لحياتها ولكن في الكتب والعمل فقط. فهل فكرت أنه بوسعها أن تعيش، وأن توجد، وأن تتجول على طول طريق الحياة مثل لينا غروف في رواية فوكنر “ضوء في آب”؟.

ولا غرابة أن طريق العديد من الكتاب الموهوبين في تلك الفترة قاد إلى مصحة عقلية. ويجب أن نلاحظ هنا أن كلا من رواية كيسي “أحدهم طار فوق عش الوقواق” ورواية هانا غرين (وهو اسم مستعار لجوان غرينبيرغ) “لم أعدك بوردة الحديقة”، نشرتا عام 1963، وهو عام صدور “الجرس الزجاجي” - ولكن من بين الثلاثة، لم تنتحر غير بلاث.  ويبدو لنا أن أولى حركات تحرير المرأة في الولايات المتحدة انطلقت من رواية بلاث ونهايتها الدرامية. لقد قاد ذلك إلى زيادة ملحوظة في عدد النساء الكاتبات، وهذه حقيقة تقودنا بالضرورة إلى التفكير بطبيعة تلك الحقبة وإلى النشاط الذهني الذي سبق “الحريات” الجديدة الممنوحة للنساء. ولو تعلمنا من تاريخ تلك الفترة يمكننا أن نتجنب حقبة أخرى من  التراجيديات التي قد تكرر في المستقبل مصير سيلفيا بلاث.  بما يخص هذا الموضوع، من المناسب أن ننظر إلى أخلاقيات الانتحار. ربما هذا هو الوقت لقراءة ثانية لما كتبه الأكويني عن “خطيئة الانتحار”. هنا علينا أن نسأل أنفسنا: هل بلاث “أخطأت” أم لا حينما وضعت حدا لحياتها وتركت طفلين صغيرين وراءها في العالم دون أم. ألم تكن مفارقة ساخرة أن تضر بلاث ولديها من خلال ما فعلته بحياتها الشخصية - فقدان أحد الأبوين بعمر بالغ الحساسية؟. وفي النهاية، كيف يمكننا أن نحكم على امرأة كانت قد انتقدت بحنق أمها وألّهت والدها، ثم اختارت طريق أبيها في تدمير الذات (مع أن أوتو بلاث لم ينتحر، فقد تسبب بالتأكيد بموته المبكر كما يتضح من كل التفاصيل، حيث أنه امتنع عن علاج مرضه، و هو السكر، حين كان في مراحله الأولى). ويبدو أن ذلك شجعها على أن تفعل بزوجها، ما فعله الأب بأمها. ولا شك أنها مفارقة تدعو للسخرية أن قصيدة بلاث “والدي” قد خيمت بجوها على الطريقة التي ستنهي بها حياتها. في هذه القصيدة تعريف بوالدها، فهي ترسمه بشكل شخصية نازية لكنها تعرّف بنفسها كيهودية. تقول بالإشارة لوالدها:”حسبت أن كل ألماني هو أنت”. ثم تتابع لتصف قطارا “يجأر” وينقلها مثل يهودية إلى داشو، وأوشفيتز، ثم بيلسين. ثم بحدة تعلن في العبارة التالية “ربما أنا يهودية قليلا”. وهنا يحين الوقت لنتذكر كيف ماتت بلاث: لقد خنقت نفسها بالغاز.  وكأنه لم يكن بوسعها أن تهرب من الاستسلام للقبة. وهذا في الواقع نوع من الانحراف العكوس، والعدالة “الشعرية” العدائية. ويمكننا أن نصل بالنتيجة، حتى رغم تعاطفنا مع بلاث، لنقرر أنها كانت مخطئة، وهذا يعني أنه لا يكفي أن نقول إننا غير مرتاحين لانتحارها، أو أننا نشعر بالحزن فقط. إنه يمكننا أن نثني على كتاباتها. ويمكن أن نقول نعم، إنها كاتبة متفوقة، ولكن علينا أن نتألم وتصيبنا اللوعة من شخصياتها المعقدة والمثيرة للتساؤل. (لقد كان لديها صوتها الخاص، كما نوه تيد هيوز في مقدمته لمفكرتها). ولنا أن نواصل قراءة كتاباتها ونفكر بها أيضا. إنما لا بد أن ننتقد تصرفها الأخير، حتى لو كانت لديها “الأسباب الموجبة”.

إن انتقاد أخلاقيات بلاث، يسهل علينا أن نتذكر “فن الانتحار” لجويس كارول أوتس. تتكلم أوتس عن “الانتحار الذي يحمله المجاز”. وهذه الفكرة تنطبق على بلاث، التي يبدو غالبا أنها تجعل رؤاها وأفكارها الشعرية متداخلة مع مشكلات حياتها الحقيقية. هل كان جانب من مشكلة بلاث هو في مشاعرها عن مدى جودة شعريتها؟. من الملاحظ، أنها تعاني من القليل من الدونية. لقد اعتقدت أنه عليها أن لا تكون مضطرة، مثل بقية الكائنات الإنسانية ، لتنظيف الأطفال. ولكن هل ضاعت تماما في شعرية تيار الشعور لدرجة أنها لم تكن قادرة على العودة للواقع كي تتعامل مع الهموم الأرضية؟.  إن تصوفية الإبداع مجال يعاني به الإنسان، بطريقة ما، من التشتت، مثل أستاذ مشغول الذهن. ولكن في نفس الوقت، إن إبداعية شخص تكون واضحة ومركزة. وهذا العالم غير - الإبداعي لا يمكن لبلاث أن تتعامل معه، ولا سيما بعد فترة مكثفة من الكتابة، وهي الفترات التي شغلتها في نهايات عمرها، كما حصل معها بعد فترة من النجاح وقبيل محاولة الانتحار. ويبدو لنا كأن بلاث تعاني من كآبة “بعد الإنجاب” حالما تنتهي من كتابة أي عمل، أو كما لو أنها لا تستطيع التعامل مع خمول الحياة بعد فورة الإبداع.

 

تقول أوتس:”الانتحار الذي يفرض نفسه... يرفض ظرف النهاية البشرية.. والإضرار بالذات عبارة عن إنكار، بمعنى من المعاني،  لما يمكن أن يعنيه أن تكون إنسانا”.  الانتحار نفي للغز الحياة، ورفض للمستقبل، مهما كانت وعوده. بغض النظر عما هو أمامنا تحمل الكئنات البشرية واجبا هو المحافظة على الحياة، وأن تؤكد على قيمة الإنسانية جمعاء. وعلينا، كما هو سيزيف كامو، أن نهبط من سفح الجبل بسرور ونتابع واجبنا وكفاحنا. ويبدو أن الانتحار مثل التحرر من المصير المكتوب، مع أن هذا غير ممكن. وكما تضيف أوتس: الانتحار ينتهي بـ “الموت”، وهو ليس نوعا من أنواع الخلق أبدا. وقصيدة بلاث الأخيرة ليست قصيدة شعرية على الإطلاق. وواحدة من إنجازات بلاث التي بقيت متاحة لنا هو عبارتها “السلبية” الأخيرة.

 

ومثل بطل كامو العبثي، على بلاث أن تستوعب أن الحياة هي توازن بين الأمل واليأس، بين الحرية والقدر. وكل من دافع عن انتحار بلاث بقوله إنها لم تتعمد أن تقتل نفسها لأنه كان المفروض أن تصل ممرضة في الوقت الحاسم وتنقذها، هو أيضا يدافع عن عجز بلاث عن امتلاك فلسفة واضحة ومتماسكة. كان جانب من حياتها مندفعا للسيطرة التامة على الذات كما يقتضي أصلها الألماني. وجانب آخر من حياتها كان استسلاما تاما للقدر. هل كانت بلاث في مخاض يظلله وهم كانتي، حيث أن الأخلاق واحد من اثنين: إما أبيض أو أسود؟. وما هو القانون المطلق الذي يؤكد أنه على الروح المبدعة لتعيش، أن تضمن لها الأقدار ذلك؟. لم تفهم بلاث ما هي حدود مسؤولياتها في السيطرة والتحكم، ولكن على كل إنسان أن يعلم أنه يوجد شيء هو خلف قدرته على السيطرة. علينا أن نأسف لبلاث، ولكن ليس علينا أن نقبل وجهة نظرها. إن الحياة، كما يقول “الرجل الخفي” في رواية رالف إليسون، هي ما يجب أن نعيشه، وليس ما نسيطر عليه. وطبعا الحياة تعني بعض التحكم في معظم الأحيان. ورغم انتظام بلاث في حياتها الأكاديمية وكتاباتها، إنها لم تكن منتظمة في حياتها. أو ربما كانت غير راغبة، أو غير ناضجة، بما يتعلق بفن الحياة.

 

لو أن آخر كلمة وجهتها بلاث لنا كانت سوداء جدا، فقد تبدلت الظروف. وبعد ذلك بدأت النساء بالتعبير عن أشياء إيجابية تماما. وعلينا أن نتمنى نحن أنفسنا أن بلاث نفسها موجودة هنا لتعلق على أعمال روائية ممتازة وراقية كتبها أدباء مثل أوتس، ماري غوردون، غايل غودوين، جوان غرينبيرغ، أليس ووكير، وجيل آخر كامل من النساء لا زلن تنتجن حتى الآن. إن “الجرس الزجاجي”، من الأعمال البسيطة، بعد مرور كل تلك الفترة عليها، وبعد ظهور كتابات خرجت من معطفها ولكن اختارت لنفسها طريقا آخر. إنها الآن هي قطرات الماء المتبقية. أما انتحار بلاث التراجيدي فربما هو الأرض الخراب الذي حررت المرأة المعاصرة نفسها منه.

 

بالنتيجة، علينا أن نتابع إلى الأمام. ودون فرصة العودة - إلى “والدي” أو للطرق الصبيانية، ما يشبه حالة “هاملت” أو الحلم الأمريكي - وكل أشكال التدخل النخبوي الذي لا يمكننا استيعابه في العالم الذري المعاصر. نتيجة هذه الحركة نحو الأمام، باتجاه أهداف شخصية موجبة واجتماعية، على النساء أن تلعبن دورا هاما. ويبقى علينا أن نرى إن كان عمل النساء الإبداعي أكثر ضرورة للتطور وأكثر التصاقا بالحياة. فهو يناسب دورهن البيولوجي.  كذلك علينا أن نرى أيضا إن كانت بلاث ستبقى في الذاكرة كامرأة مزقتها فلسفة المذكر النيتشوية المتشائمة، أو كامرأة لم تتطور شخصيتها المؤنثة بالكامل. والسؤال الآن: من وجهة نظر التقاليد العريقة منذ أيام سافو وحتى سيمون دو بوفوار والفنانات المعاصرات المتحررات هل إن صفة التدمير عند بلاث دون دافع، قد ارتد عليها بواسطة المرض، هل هو فعل إنكار؟..

 

وأخيرا. حول أخلاق الانتحار، يمكن أن نقول: إنه عمل، عمل محدد له عواقب جازمة.  وعلينا أن ننظر لهذا الفعل بشكل مختلف عن الموضوعات الأخرى المتعلقة بالمفهوم الحديث للحريات.  أو بالأفكار المحددة لحق الموت بكرامة.  وبالمثل إن توقيت الموت هو تأكيد على سيرورة الحياة.  وهذه هي المحددات التي يجب على كل المخلوقات البشرية والقابلة للنمو أن تقدمها. وإذا لم تكن الحياة صحيحة أو خاطئة، سوداء أو بيضاء، يمكنها أن تكون سيرورة من الاختيارات الفكرية التي تؤكد على الكرامة وحق التعاطف الممكن عند البشر. ونأمل أن القارئ قد تعلم من فن وحياة بلاث، وبالاستطراد، من مأساتها، أن أحزان أي شخص هي البوابة لخلاص غيره.

 

 

 

..........................

 

المصدر:

 

Jeanne Inness. CliffsNotes on The Bell Jar. 22 jan 2020

أخترنا لك
سنوات التحدي‮ ‬والإصرار في‮ ‬حياة إعلامي

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة