القاضي العشائري

2020/12/04

بقلم : أ. هاتف فيصل الحولاوي الخاقاني

الفريضه كما يعرف عند أهل الجنوب والفتوه كما يعرف في مناطق الفرات الأوسط والعارفة   كما يعرف في العشائرالغربية والكاضي بلسان أهل البادية . جميع تلك المسميات تطلق على القاضي العشائري. وهو ذلك الشيخ الذي تطرح عليه خصومات الأفراد أو العشائر أو القبائل  ويقضي أو يفرض أو يفتي بالخصومة ويحق الحق ويدحض الباطل ، فرض الأمر عليه أوجبه وألزمه ،أمر به بالقوّة. لذا يرى الشارع المقدس وبعض أهل العلم والمعرفة في طبيعة المجتمع العراقي . أن تكون شخصية الفريضه تحمل مؤهلات شرعية واجتماعية مهمه وبدونها لا يمكن لذلك الرجل أن يسمى فريضة .  وان من أهم تلك المؤهلات هي مخافة الله سبحانه وتعالى إتباعا لقوله (وإذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل). وان ينهج منهج النبي (ص) وسنته وسيرة أهل بيته (ع) في قول الحق وإصلاح الناس وجاء في الحديث الشريف عن النبي(ص) (رأس الحكمة مخافة الله ). وان يكون حافظاً لبعض الآيات القرآنية ليتنزع منها بعض الأحكام وان تكون له خبرة واسعة في الأخبار والتواريخ والسير وعادات وتقاليد العرب ،  وان يكون متواضع النفس ، مستكملاً فضائلها . كما قال الشاعر( أقبل على النفس واستكمل فضائلها. فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ) وان يتجلى الصدق في فمه ويده وقلمه ، متحللاً من قيود العاطفة ، يرى الحق ضالته .ينتظر آخرته في حُسن خاتمته. وقد ورد في الأثر عن النبي (ص) قال : ((ان القضاة ثلاثة: قاض ٍ في الجنة وقاضيان في النار ، قاض ٍ عرف الحق فقضى به فهو في الجنة ، وقاض ٍ عرف الحق فجارا معتمداً فهو في النار، وقاض ٍ قضى بغير علم ٍ فهو في النار)). فقالوا فما ذنب الذي يجهل؟ : قال ذنبه ان لا يكون قاضياً حتى يتعلم . إذن فالقاضي ربما يذبح بغير سكين .، وعليه أن يكون يوماً في القضاء ، ويوماً في البكاء عل نفسه .. لأنهُ مسؤول أمام الله في حكمهِ . وغالباً ما يكون الفريضه العشائري لا يقرأ ولا يكتب أو يعرف القراءة والكتابة، أولم يدرس الأحكام الشرعية .. فتجده يفرض ويقرر وتحترم الناس فراضته وقراره ؟ !.

وهذا السبب يعود للنشاة في دواوين الفراضه ومجالسة أهل الخبرة  . وهنا ينقل لنا رواة الأخبار أن المرحوم الشيخ حمد آل حمود وعلي آل صويح حضروا ذات يوم في مجلس آل كاشف الغطاء العلماء المعرفين في النجف ، ووجدا متخاصمين يشكو أحدهما الأخر حول عائدية مهرة ولدتها أمها ليلاً ، وادعى المتخاصمان أن لديهما فرسين متشابهين (معشرات) حوامل ولدتا بنفس الليلة . وقد ماتت احدى  المولودتين ، ولا يعرفان أيهما ولدت المهرة الحيَة .؟

وكلاهما يديع المهرة له ؟!

احتار الحكم الدارس في حل النزاع . فقال حمد ال حمود ( أخذوا المهرة وأمهاتها للشط وشوفوا ياهو التورد وره المهره هي أمها)!!

وهنا يروي الرواة عشرات الفتاوى والفرائض والأحكام اعتماداً على النباهة الفطرية وعمق التفكير ، والمنطق لحل قضايا شائكة لا يقع حلّها بين دفتي قانون مدوًن ..

وفي قصة أخرى هي قصة الضرتين  أسماهما الباحث كريم برهان الجنابي (حلوه ومُره) حيث قامت حلوه بخنق ولدها الرضيع في أثناء نومه ونوم شقيقه (حسن) الأكبر منه سناً . وما كان بنائم ولكن لاحظ الجريمة وسكت .. وظنته نائماً . وأسرعت شاكية لزوجها بأن ضرتها مرّه قتلت ولدها الصغير. اجتمعت عشيرتا المدعوتين في ديوان الفريضه وشرحوا أصل الشكوى للفريضه وانه لا يوجد شاهد إثبات. قضى الفريضه استدعاء الضرتين ليسألهما كلاً على انفراد.

قال لوالده المجني عليه(حلْوه) ????أريد منك أن ترفعي ثيابك إلى ما فوق الحجل وتدخلين الديوان ، وتمرين على أمام الرجال من بداية الديوان إلى نهايته هل تستطيعين .

فأجابت نعم ما أسهل طلبك ؟)

ثم استدعى (مرّه) وطلب منها ذات الطلب فأجابته : ( لا لم استطع ولن افعل ، وأنا القاتله ، والعشيرة هي من تجمع الفصل ولن أفعل ذلك ماحييت .

قال الفريضه : (حلوه هي التي قتلت أبنها ) فصاح ولدها حسن : (وآني أشهد).

أما في  مناطق الاهوار فقد اختلف اثنان من رعاة الجاموس وقصدوا الفريضه في مسألة خلافهم

إدعى الأول ان خصمه قام بقتل جاموسته قبل أحتراق البردي في الهور.

ونفى المدعى عليه قيامه بقتل الجاموسة ، أنما احترقت عندما ألتهمت النار بردي الهور.

أشار الفريضه لسحب الجاموسة من مكانها ومشاهدة البردي الذي تحتها.

فإذا كان أخضر فهذا يعني ان الجاموسة قُتلت قبل الحرق...!

واذا كان محترقاً فهذا يعني ان الجاموسة ماتت بعد الحرق..!!

وعلى هذا الأساس سطعت الحقيقة.

اما في حضور الشهود فقد ادعى رجل ان له بذمة رجل آخر ثلاثين ديناراً..

فقال القاضي : ومعك شهود ؟

فقال : معي شاهد واحد

فقال القاضي للمدعي عليه : أدفع له خمسة عشر ديناراً إلى ان يقدم الشاهد الآخر.! . ؟

ومما أدركته وسمعته ففي منتصف التسعينات كنت مواظبا على خدمة ديوان شيخ عشيرتي وكان ممن عرفوا بالتحكم العشائري (فريضه) إذا وفد إلى ديوانه يزيد عددهم على العشرة نفرات من عشيرتان متخاصمتان على مساحة من الأرض الزراعية  وبعد أن استمع لقضية الخصام أطلق الحكم وسمعه الطرفان ثم كتبه بيده ووقعه ودفعه إلى ما يعرف بالمسمعاني أو المُنصت وبعد خروجهما تبين أن احد الأطراف لم يقتنع في الحكم فطلب من خصمه أن يذهبان إلى فريضة أخر فوافقه الرأي لأجل حل النزاع فذهبا في اليوم الأخر إلى فريضة أخر وشرحوا له مسألتهم فحكم لهم واسمعهم الحكم ثم كتبه ووقعه وخرجوا فلم يقتنع أيضا الطرف نفسه فاتفقوا على الذهاب إلى  فريضه ثالث  وشرحوا للفريضة الثالث مسألتهم وكأنهم لم يزوروا قبله احد فاستمع إلى الطرفان ثم نطق بالحكم وكتبه ووقعه ودفعه إلى المُصنت وعادوا إلى ديارهم وجمعوا وجهائهم ومشايخهم وساداتهم وحدثوهم عن المسألة وكيف ذهبوا إلى العوارف الثلاث وتبين لهم الحكم نفسه .بعدها جاءوا معتذرين متسائلين عن الحكمة والفطنة التي يتمتع بها هؤلاء الحكماء الثلاث وكان بوقتها لا يجود هاتفا أو معرفة سابقة بين هؤلاء الحكماء وهنا يثبت لنا فراسة هؤلاء الأخيار وسعة إطلاعهم ونصرتهم للحق والحق هو الله سبحانه وتعالى حيث ذكر لفظ (الحق) في القران الكريم ف(283) موضعاً وجاء بمعنى العدل قوله تعالى : ( ويعلمون ان الله هو الحق المبين) وفي أية أخرى (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم).

أما إذااستطاع الفريضة الإصلاح بين المتخاصمين فالصلح سيد الأحكام بشرط ان لايظلم أحد في الصلح وان يكون الصلح بطيبة الخواطروالنفوس.

 ومن الذين كتبوا في القضاء العشائري في العراق كثيرون منهم المرحوم الشيخ فريق مزهر آل فرعون من كبار مشايخ آل فتله كتاب اسماه (القضاء العشائري) دون فيه السنن العشائرية والعادات والتقاليد في الفرات الأوسط كما كتب الشيخ محمد اليربوعي التميمي كتابا اسماه (الأعراف العشائرية) بحث في السلب والإيجاب ورأي المرجعية فيها وكتاب الشيخ كريم برهان الجنابي (السنن العشائرية في المجتمع العراقي) وكتب عن القضاء العشائري في لبنان وفلسطين والأردن مما لهذا العنوان من أهميه بالغة في طبيعة المجتمعات العربية.

 

أخترنا لك
الحشد الشعبي ينفذ عملية مسح وتفتيش شمال سامراء

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة