إعداد وتقديم/رجاء حسين
{إن من البيان لسحرا}
==========
رأينا في الحلقات السابقة كيف كانت معجزات الأنبياء من الأمورالتي برع فيها الناس في عصورهم، وانتهينا إلى بعض التساؤلات التي تساعدنا بعض الإجابات عنها في فهم كيف كان القرآن معجزة حقيقية بالنسبة للعرب، فهل كانت براعتهم في اللغة العربية ترتقى لمستوى هذا التحدي المعجز؟ والسؤال المهم: هل كانت براعتهم في اللغة وبلاغتهم لها تأثير على ردود أفعالهم تجاه آيات القرآن؟! وما ماهية هذا التأثير؟! لننظر أولا إلى أحوال العرب الثقافية، سنجد ميراثا لغويا من الشعر والنثر نقف أمامه مبهورين من دقة ألفاظه وروعة معانيه وكثرة أخيلته، وكانوا يتقنون فنون اللغة بالسليقة؛ فتجد الطفل يتحدث بطلاقة وفصاحة يعجز عنها الكثيرون في يومنا هذا، ولذلك كان العرب من أهل الحضر يبعثون بأطفالهم إلى البادية حتى يتقنوا أساليب اللغة إن أرادوا لهم تنشئة لغوية متميزة، ومن القصص الطريفة عن فصاحة الأطفال ما رواه الأصمعي بالبادية عندما رأى طفلة تسيرخلف والدها، وهي تحمل قربة ماء، وسقطت القربة منها، ولما أمسكت بها فتح فم القربة، ولم تتمكن من التحكم فيه، فقالت لأبيها: يا أبتي، لقد فك فوها، خذ فاها، فلا طاقة لي بفيها، وهنا تعجب الأصمعي من فصاحة الصغيرة، وطلاقة لسانها حتى ميزت ضبط الكلمة في حالاتها الثلاث: الرفع بالواو والنصب بالألف والجر بالياء،
وكان من العرب من يتمكن من حفظ قصيدة طويلة بسهولة ويسر، حيث تتميزاللغة العربية بالموسيقى في ألفاظها، وكان العرب من الفصاحة والبلاغة التي تجعلهم يتقنون فنون الشعروالنثر، ومن هنا كان التحدي الأكبر لهم؛ ممثلا في القرآن الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، وهم يعلمون أنه رجل أمي، فبالرغم من كل صفاته التي جعلته مميزا بينهم قبل بعثته، لم يعرف عنه قول الشعر، وإن كان يحب سماعه من بعض الشعراء، وكان صلى الله عليه وسلم يمدح البلغاء والفصحاء قائلا: إن من البيان لسحرا، ولهذا لم يكن من الغريب أن يمدح الكثيرون اللغة العربية، ويذكروا محاسنها وروعة بيانها، حيث تكون الشهادة أوقع أثرا إن جاءت من غير أهلها، حيث يقول المستشرق واللغوي إدوارد دينسون روس:
(إن حروف العربية مرنة سهلة، لها في النفوس ما للصور من الجمال الفني)
ويقول المستشرق الفرنسي وليم مرسيه:
(العبارة العربية كالعود، إذا نقرت على أحد أوتاره رنت لديك جميع الأوتاروخفقت، ثم تُحَرِّك اللغة في أعماق النفس من وراء حدود المعنى المباشرمَوْكباً من العواطف والصور)
بينما قالت المستشرقة الألمانية زيفرهونكه:
(كيف يستطيع الإنسان أن يُقاوم جمال هذه اللغة ومنطقها السليم، وسحرها الفريد؟
فجيران العرب أنفسهم في البلدان التي فتحوها سقطوا صَرْعَى سحرتلك اللغة وإن من أهم خصائص العربية قدرتها على التعبيرعن معان ٍ ثانوية لا تعرف الشعوب الغربية كيف تعبر عنها)
ويرى المستشرق الأمريكي كرنيليوس فانديك أن:
(اللغة العربية تفوق سائراللغات، رونقاً وغنى، ويعجزاللسان عن وصف محاسنها)
ويقول المؤرخ الفرنسي إرنست رينان:
(فهذه اللغة تبدو لنا فجأة بكل كمالها، ومرونتها، وثروتها التي لا تنتهي لقد كانت هذه اللغة منذ بدايتها على درجة من الكمال)
وفي الحقيقة إذا كان الآخرون على هذه الدرجة من الدراية بروعة لغتنا وفائق سحرها في حروفها ومعانيها وصورها وتراكيبها، فما بالنا بأهل هذه اللغة الذين ألموا بأطراف روعتها، وجالوا في واحات سحرها وبهائها، وأتقنوا حروفها نثرا وشعرا وقولا وسماعا، ثم يأتيهم التحدي في شكل كتاب حروفه من حروف لغتهم، ويتحداهم الله أن يأتوا بسورة من سوره أوآية واحدة، فيفشلون في التحدي وهم الذين يعلمون أن هذا الكتاب ليس بشعرولا بنثر، فكان الافتراء والتكذيب والاتهامات المتتالية للنيل من القرآن ومن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكلما زاد التكذيب زاد التحدي لهم أن يأتوا بمثل ما جاء في القرآن: (أم يقولون افتراه، قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) 38 سورة يونس، وولاشك أننا أيضًا عندما نقرأ مثل هذه الآراء التي تصف روعة لغتنا الجميلة يزداد تشوقنا لمعرفة مظاهرهذا الإعجاز
وإلى لقاء جديد
أرق تحياتي/رجاء حسين