صبري يوسف
يستلهم
القاص فريد مراد حكاياته القصصيّة من الحياة وبما تجودُ به
مخيّلته من تدفُّقات في بناء عالمه القصصي، فتأتي القصص
مزيجاً من الواقع والخيال، مستخدماً لغةً سهلةً رشيقةً
وموائمةً لشخصيَّاتِ قصصه في بناءِ الحوارِ والسَّردِ
ووهجِ الشّوقِ والحنين.
يكتبُ قصصه كمَن يناجي نفسَه وقرّاءَه معاً، لأنَّ
قصصَهُ مستلهمة من فصولِ ومحطّاتِ عمرهِ وتجاربهِ في
الحياة. والكتابةُ بالنّسبةِ إليه بمثابة متنفّس له، يعبّر
عن أهدافِهِ وطموحِهِ ورغباته وأمانيه عبر حرفه، لهذا نرى
كتاباته تموجُ بالعاطفة الجيّاشة والمحبّة والجموح نحو مرافئ
السَّلام بين بني جلدته والعالم!
من خلال قراءتي لقصص فريد مراد، لمستُ أنّه يجنحُ نحوَ
فضاءِ السَّردِ الرِّوائي، فهو يمسكُ بخيوطِ قصصه
بطريقةٍ حصيفة ودقيقة ولديه إمكانيات طيّبة في الدُّخول في
الكثير من التّفاصيل الَّتي تتطلَّب الاشتغال عليها في البناء
الرّوائي، كما في قصّة: "مأساة أم معجونة بالسَّلام".
القاص فريد مراد مغترب سوري من أقصى الشّمال الشّرقي من سوريا،
من مدينة ديريك/ المالكيّة، حطَّ به الرّحال منذ عقود من
الزّمن في مملكة السُّويد، وهو شغوف في قراءة الأدب بأجناسه
المتعدِّدة. يقرأ القصص والرّوايات والشِّعر وله اهتمام في
قراءة الملاحم الشِّعريّة والرِّوائيّة، وله باع طيّب في كتابة
الشّعر باللّهجة المحكيّة بسلاسة وفكاهة وبإيقاع رصين، ولديه
مَلكة الارتجال الشّفوي في تقديم كلمات التأبين، يقفُ
رابطَ الجأشِ أمام الضَّريح ويناجي روحَه والحضور،
مستعرضاً مناقب الرّاحل إلى مثواه الأخير.
تتضمَّنُ قصصه مواضيع عديدة، استوحاها من تجاربِهِ في
الحياة، والتقطَ من عوالم الطُّفولة قصصاً طريفة، واقتطفَ
من عوالم صباه وشبابه قصصاً تترجم لنا شغفه وشوقه وحنينه إلى
مسقط الرّأس وإلى وطنِه الأم سوريا. تحملُ بعض قصصه عبقاً
شهيَّاً محفوفاً بعذوبةِ القهقهاتِ، ملتقطاً خيوطها
الفكاهيّة من وقائعِ الحياةِ ومُضْفياً من خيالِهِ وهجاً
طريفاً ومبهجاً في سردِهِ، فيشعرُ القارئ كأنّه أمام
مقاطع فكاهيّة من فيلمٍ طريف.
تتميّزُ لغة القاص بالسَّلاسة والوضوح والسَّرد الشَّيّق، يبني
جملته من دون أيّةِ تعقيدات، أو ترميزات مبهمة، فيعرضُ
قصصه بأسلوبٍ واضح، مركّزاً عبر سرده وحوار شخصيّات قصصه على
الفكرة الّتي يتناولها بطريقةٍ شيّقة وسلسة. التقيتُ معه
مراراً في ستوكهولم، واطلعتُ على تجربته القصصيّة بعمق،
وأحببتُ إجراء هذا الحوار معه، فوافقَ برحابةِ صدر،
وَوُلِدَ هذا الحوار:
مسقط رأس
{ ماذا تعني لك ديريك مسقط الرَّأس، ما رأيك
بالطُّفولة، كيف تنظرُ إليها الآن بعد عقودٍ من
الزّمن؟!
- لقد بدأتَ سؤالكَ الأوَّل من حيث بدأتُ حياتي في
ديريك، وبعد غيابِ ما يقاربُ نصف قرن من الزّمن، تبقى
المكان الّذي كلَّما أثقلت عليّ أفكاري، وأتعبني جسدي
المادِّي، خرجتُ منه بجسدي الأثيري، ورحلتُ إلى هناك،
لأستريح بعض الشَّيء بين تلكَ الكرومِ والبساتين الجميلة
الّتي لا وجود لها الآن. قد أبالغ إذا ما قلت أن بلدتي
ديريك، تضاهي ستوكهولم، المكان الّذي أقطنُ الآن،
جمالاً ورونقاً. أبداً، إنّما بالنسبة لي تضاهيها
حنينيّاً وإلفةً، وإلاَّ كيفَ تفسِّر رؤيتي
المستمرّة لها في المنام، وقد هجرتها منذ حوالي خمسة عقودٍ
من الزّمن.
{ ماذا يعني لك الحرف، كيفَ تنظرُ إلى اللُّغة، متى
تشكَّل لديك ميل للكتابة والتَّعبير عن مكنوناتِكَ؟
- الحرف باختصارٍ شديد، هو مفتاح القلب، ومهندس الكلمة.
أمّا بالنّسبة للشقِّ الثَّاني من السُّؤال، أجيب ببضعة
كلمات، أضعها بين هلالين: تشكّلَ لديَّ ميلٌ للكتابة
والتَّعبير عن مكنوناتي (عندما تركتُ الوطن، والأهل،
والأحباب، وتذوّقتُ طعم الغربة الحقيقي. كان ذلك في عام
1977 م).
{ ما رأيك بحنانِ الأمِّ، وحنانِ المكانِ، كيفَ
انبعثتْ لديك فكرة كتابة قصّة مأساة أم معجونة بالسَّلام؟
- أظن سيبقى الكلام تقليدي، لو تحدَّثتُ عن حنان الأمِّ،
وحنان المكان. لا يعرف قيمة حنان الأمِّ، إلاَّ من فقد
حنانها، كذلك حنان المكان، لا يعرف الإنسان قيمته، إلاَّ
عندما يتركه. الحنانان "الأم والمكان" لا يفوقهما حنانٌ
آخر. لقد كتبتُ تجربتي الشَّخصيّة بهذا الشّأن، في قصّة
"عندما كنتُ أرآها مُقبلة" وأقصد بها أمّي. أمّا بالنّسبة
لقصّة "مأساة أم معجونة بالسَّلام"، فهي مستوحاة من تاريخ
مرير، مُفعم بالويلات والفجائع، عاشته جدّتي لأبي، بصبرٍ
عجيب، لا يُصدّق. كلُّ الأحداث والمجريات في القصّة،
كانت من الواقع الحقيقي وليس من الخيال، "ما خلا بعض
التَّدفّقات الخياليّة من قبلي ككاتب القصّة". تألّمتُ
وتأثّرتُ جدّاً وأنا أكتبها لدرجة أنّي بكيتُ في بعض
الأحيان وأنا أصوّر المشهد بالكلمات.
{ كيفَ تولدُ فكرة قصّة ما، تحدَّث عن مراحل ولادتها
وتطوُّرها إلى أن تصلَ صياغتها صياغة نهائيّة؟! هل تستوحي
قصصكَ من الواقع أم تولد من جموح الخيال، أم من أحداث
الواقع؟
- نعم، الفكرة هي حجر الأساس، وعليها تُبنى القصّة. هكذا
في أغلب الأحيان أكتب القصّة الخياليّة، والقصّة المستوحاة من
واقع الحياة. أحياناً تخطر لي فكرة معيّنة وأنا في مشواري
الصَّباحي مثلاً أو من خلال مشهدٍ ما رأيته، يوحي إليَّ
بكتابةِ قصّةٍ معيّنة، لكن في بعض الأحيان، فجأةً أرى
أنَّ هذه القصّة قد قادتني إلى غير القصّة الَّتي كنتُ
أريدُ كتابتها. وهكذا أراني أتفاعل مع أحداث جديدة، ومشاهد
جديدة، وأشخاص جدد، وبالتَّالي ولادة قصّة جديدة، أقومُ
بصياغتها مرّات عديدة، حتّى تكتمل، وتأخذ شكلها
النّهائي.
{ ما هي المواضيع الَّتي تستهويك كي تنسج منها قصصاً،
كيفَ تختار الموضوع وتبني خيوط القصّة؟
- بالحقيقة أكثر ما يستهويني من مواضيع، المواضيع
الاجتماعيّة الَّتي تخصُّ واقعنا بأشكاله المتعدّدة. على سبيل
المثال لا الحصر، موضوع الاغتراب وما ينتج عنه من إيجابيّات
وسلبيّات. موضوع العادات والتَّقاليد، قصص عن ذكريات الماضي،
الطّفولة والشّباب، وهلمَّ جرَّاً.
قصص مستوحاة
{ هل تستوحي قصصكَ من الواقع أم تولد من جموح الخيال، أم من
أحداث الواقع وتجلّيات الخيال معاً؟
أنا لا أعترف بقصّة دون شيء من الخيال، وإلاَّ كانت "ناشفة"
دون الخيال، وتكون كمجرّد كلام يُحكى. الخيال
والواقع والأحداث والتَّجلّيات، كلّها مرتبطة ببعضها البعض. لا
نستطيع أن نقولَ هذه قصّة خياليّة خالصة، وهذه قصّة واقعيّة مئة
بالمئة. نحن نكتب في واقع خيالي نعيشه على هذا الكوكب.
{ لكل كاتب وقاص طريقته وطقوسه في الكتابة، ما هي طريقتكَ
وطقوسكَ وأسلوبكَ في فضاء الكتابة؟
- اللَّيلُ هو صديقي، وأنا صديق اللَّيل. في النَّهار
تأتي الفكرة، وفي اللَّيل تُنفّذ. من السَّاعة العاشرة
ليلاً حتّى السَّاعة الثَّانية، وأحياناً الثَّالثة صباحاً،
حيث الهدوء والسَّكينة، هو الوقت المفضّل عندي، للمطالعة
والكتابة. ما تبقّى من الوقت، هو للبيت، والأولاد،
والأحفاد، والواجبات الأخرى.
{ هل تتعمَّد كتابة قصصكَ بلغة سلسة واضحة، بعيداً عن
الألغاز المطلسمة لأنّها تولد بكلِّ عفويّتها؟
- بالضَّبط. كلُّ قصصي هي بأسلوب "السّهل الممتنع".
لماذا التَّعقيد والتَّشديد والبحث عن الكلمات التّعجيزيّة الَّتي
قد يسأم منها المتلقّي، لا بل في بعض الأحيان يضطرُّ إلى
الاستعانة بالقاموس لفكِّ طلاسمها. بالنّهاية نحن نقدّم له قصّة
وليس خطاب بلاغي.
{ تحدَّث عن تجربتِكَ في كتابة القصّة، المقال، والقصائد
الّتي تكتبها باللَّهجات المحكيّة؟!
- بالحقيقة لست أنا من بدأ في كتابة القصّة، إنّما القصّة
كتبتني. نعم عندما أقول القصّة كتبتني، أقولها بكلِّ
مصداقيّة. قصّتي مع الحياة بدأت مريرة، وأنا لاأزال ابن أشهر
معدودة. أنا مجبول من صغري بمأساة الحرمان، وقصص الحنين،
حيث مات والدي وأنا ابن بضعة أشهر، وتركتني والدتي، وأنا
ابن سبع سنوات.
لقد تكلّمت بوضوح عن هذا الحرمان في قصّة: عندما كنتُ أراها
مقبلة. وبالنّسبة للقصائد باللّهجات المحكيّة، كنت أرى فيها نوع
من الانبساط والانشراح النّفسي، لا أكثر ولا أقل، خصوصاً
عندما أرتجلها بصوتي، وأدائي المميّز "هكذا قالوا عنّي
المستمعين، جازاهم الله خيراً" ممّا شجَّعني على
الاستمراريّة.
{ أصدرتَ مجموعتكَ القصصيّة الأولى: "عندما كنتُ أراها
مقبلة" 2018 تحدَّث عن هذه التَّجربة القصصيّة؟
- مجموعتي القصصيّة الأولى، أعتزُّ بها كثيراً، لأنّها
كانت نقطة الانطلاقة بالنّسبة لي في هذا المجال، وأقصد عالم
"الكتاب". قبل ذلك كانت قصصي مبعثرة، هنا وهناك، وكانت
معرّضة للاندثار. كتبتُ في مواقع متعدّدة، وعلى صفحات
الفيسبوك، معظم قصصي، حتّى كان عام 2018? عام فرحتي الَّتي
تكلَّلت، بظهور أوّل أعمالي "عندما كنت أرآها مقبلة" إلى
النُّور.
{ تحتاجُ الكتابة لتعميق فضاءاتها إلى قراءة موازية للكتابة،
ما رأيك بقراءة حصيفة لتجارب المبدعين؟!
- المطالعة ثمَّ المطالعة. كلّما قرأت أكثر، كلّما اكتسبت
خبرة أكثر. الاستفادة من تجارب المبدعين، "وغير المبدعين"،
ضروريّة جدّاً. نعم على القاص، أو من يريد أن يكون
قاصّاً، أن يوازي بين الكتابة والمطالعة،
وإلَّا يكون مقلّداً لأحّد، وإلَّا كان الفشل حليفه.
{ لماذا تكتب، ماذا تعني لك الكتابة، القصّة، المقال،
الأدب، الفكر الخلّاق، الإبداع عموماً؟!
- أكتب لأنَّني أرى في الكتابة غبطتي وبهجتي، وامتدادي
على هذه الأرض. الكتابة هي بالنّسبة لي، أكسير
الحياة، هي الارتقاء بالذَّات الإنسانيّة. إذا مرَّ
يومٌ واحدٌ دون كتابة، أو مطالعة، فهذا اليوم غير
محسوب
من العمر، أشعر فيه بالاختناق.
{ ما دور الفكر التَّنويري في تطوير المجتمع، هل ترى
انحساراً في دور الأدب في تطوير المجتمع؟!
- بالتَّأكيد للفكرِ التَّنويري دورٌ هامٌّ في تطوير
المجتمع، فهو الّذي يدفع عجلة الزَّمن إلى الأمام، لكنّه
يختلف من مجتمع إلى آخر، بحسبِ الظَّرف والمعيشة والمكان إلخ.
أمّأ بالنّسبة للشقّ الثّاني من السُّؤال. الإجابة نعم.
والسَّبب اتّجاه الأغلبيّة السَّاحقة نحو الماديّات.
{ لماذا تراجع دور الكاتب والمثقّف والفنّان في المجتمع،
وأصبح دور السِّياسي والاقتصاد في الصَّدارة؟
- أعتقد هذا السُّؤال له علاقة بالسُّؤال الَّذي سبقه. الوضع
الاقتصادي المخلخل في العالم كلّه، والسِّياسات الفاسدة،
وعدم الطَّمأنينة والاستقرار. كلُّ هذه الأمور كانت سبباً
رئيسيّاً، في تراجع دور النّخبة المثقّفة، وأكثرهم تضرّراً
(الكتاب).
{ أصدرتَ مجموعتكَ القصصيّة الثَّانية: "الدُّنيا كما كنَّا
نراها" 2019 تحدَّث عن هذه التَّجربة القصصيّة؟
- الدُّنيا كما كنّا نراها. هذه المجموعة القصصيّة، هي
امتداد للمجموعة القصصيّة الأولى "عندما كنت أراها مقبلة"،
فيها الماضي، وفيها الحاضر. الفارق الوحيد بينهما هو إدخال
أسلوب الأدب السَّاخر في بعض القصص من المجموعة الثّانية.
{ ما هو مشروعك القادم، هل لديك مشروع إصدار مجموعة قصصيّة،
شعريّة أو روائيّة قادمة؟
- بالحقيقة أنا الآن على مشارف الانتهاء من مشروع رواية. على
الأغلب سيكون عنوانها "كنتُ على وشك الرَّحيل" محورها يدور
حول تجربتي المريرة، وكفاحي العنيد، ضدّ مرض السّرطان،
لمدّة ثلاث سنوات، خرجت منها بأُعجوبة.
{ ماالفرق بين كتابة قصّة قصيرة وعمل روائي من حيث فضاءات
السَّرد والزّمان والمكان والشَّخصيّات؟
في القصّة تبقى شبه مقيّد، لا تستطيع التَّكيّف. أمّا في
الرِّواية، فالمجال لديك مفتوح، لك حرّية التَّنوّع،
والتَّنقّل، والذِّهاب، والرُّجوع، والخروج عن النَّص ثمَّ
العودة ثانية إليه. ولك حرّية التَّشبيه والوصف، الشّيء
الّذي لا تستطيع فعله في القصّة القصيرة.
{ كيف تنظرُ إلى الزَّمن، العمر، الحياة، وماذا تعني
لكَ الكتابة والحرف والإبداع عبر رحلة العمر؟!
- (الزّمن، العمر، الحياة) مجرّد أُكذوبة نعيشها. أو
ربَّما حلم نستفيق عنه في عالمٍ آخر، لنــــــبدأ نتذكّر بعض
مقتطفاته.
(الكتابة والحرف والإبداع ) هم بالنّسبة لي عبر رحلة العمر،
كالماء المالح، كلَّما شربتَ منه اِزدتَ عطشاً.
وأنا أيضاً، كلّما اِزداد بيَّ العمر، اِزدتُ إليهم
شوقاً.
{ لو عادَ الزَّمن إلى الوراء، هل ستغيِّر بعض أو الكثير من
برامج حياتك، خاصَّة ما يتعلَّقُ بالكتابة؟!
- بالتَّأكيد كنتُ سأغيّر الكثير، مستفيداً من الأغلاط
الَّتي وقعت فيها، أدبيّاً واجتماعيّاً وعلميّاً
ولغويّاً إلخ. هذا لو عاد الزّمن إلى الوراء، ولكن
هيهات.
{ كلمة أخيرة تودُّ أنْ تقولُها!
- أتساءل: لماذا أتى الإنسان، وكما أتى رحل؟ أقصد، دون
نفعٍ، دون هدفٍ، دون أثر. إذا كانت الحياة مجرّد أكل وشرب
ونوم إلخ. أجيب على نفسي وأقول: تبّاً لهكذا رحلة، وتباً
لهكذا حياة!
ختاماً: حاول أن تترك لك يا أخي، على الأقل، بصمة أمل فوق
رصيف هذه الحياة، ثمَّ امضِ بسلام.