نجاح هادي
كبة
الوجه الآخر للضباب رواية صدرت في بغداد العام 2020م / ط1 , عن
دار سطور للنشر والتوزيع للقاص كريم صبح , الفضاء الزمكاني
الكروبوتوني للرواية بلغة باختين هو روسيا " بعد انهيار الاتحاد
السوفيتي " ثم سوريا , تعالج الرواية بناء الهوية على لسان
روزالين التي ولدت في سانت بطرسبرج في روسيا من أب سوري مهاجر
اسمه ثروت وأم روسية اسما كرستينا , وأب لواء في الجيش السوفيتي
اسمه " بركاندي جنرال " كان يشغل رئيس " قسم التخطيط
الاستراتيجي " في هيئة الأركان السوفيتية الذي أحيل على التقاعد
بعد حلّها , و روزالين عاشت في بيئتين : الأولى البيئة الروسية
حيث النشأة والتكوين والأخرى البيئة السورية ما ترتب على ذلك أنها
تحمل هويتين مع ما فيهما من اختلاف واتفاق في العادات والتقاليد ,
وقد هيّأ الروائي بطلته روزالين لأن تحمل هاتين الهويتين فمعروف لدى
علماء النفس السلوكيين ان البيئة تخلق سلوك الانسان واتجاهاته وميوله
ولا سيما في مرحلة الطفولة كما يرى اصحاب مدرسة التحليل النفسي
فرويد ومؤيدوه لذلك اعتنقت الديانة المسيحية الارثذوكسية التي هي
ديانة اغلب الشعب الروسي ولا سيما عائلة جدها " بركاندي جنرال
" مع أن ديانة والدها " ثروت " هي الديانة الاسلامية , وقد
تماهت في حبها للمكان ومعلوم ان التعلق بالمكان يصبح جزء من هوية
الفرد ويؤثر في سلوك الفرد المعرفي والوجداني وهذا ما يفسّر
حبّها للرئيس بوتين ( سبب آخر غير متوقع شدّها الى " نبيِّها "
الرئيس , يكمن في اشارة وردت في الكتاب عن ولادته في مدينة
سانت بطرسبرج وجدت في الأمر مصادفة غريبة ) ص : 18 .
فروزالين – كما سبق – مولودة في بطرسبرج التي وصفتها بورد
النرجس ( أعشق مدينة سانت بطرسبرج والأب و ورد النرجس ) ص: 18 ,
كما تماهت في حبها مع جدها " بركاندي
جنرال " ذي الميول الشيوعية ما جعلها تعطف على الفقراء وما جعلها
تتذكر تاريخ المدينة المؤلم قبل تحولها الى مدينة سياحية في منتصف
القرن العشرين وتستشهد بمقولة دوستويفسكي المولود في موسكو (
مات في سانت بطرسبرج , روايته الاولى التي أنجزها فيها جاءت
تحت عنوان لافت , هو " الفقراء " تحدث عنها على لسان بطل روايته
الأخرى " في سردابي " بلهجة الشاكي المتذمر " ) ص : 9 – 8
.وهي تمقت الحرب وتؤمن بالسلام مستشهدة بقول باولو كويلر :
" هل تركت لي الحرب سبيلا للقراءة ومعرفة اسم كهذا ؟ ) ص : 13
. لكنها ترى في تدخل القوات الروسية في الحرب في سوريا هو
الحفاظ على وحدة سوريا وعدم تفتتيها ومما عمق الهوية لدى روزالين
معاملة اسرة جدها المدللة لها ( الباقون تعاملوا معها بصفتها أول
مولود أنثى لابنة أسرة كل مواليدها من الذكور جدها اللواء جعل منها
مدللته وهو الوحيد من الأسرة لا يناديها الا باسمها المحبب الى
نفسه , جدتها أغدقت عليها حنانها وغمرتها بالحب , أخوالها الثلاثة
لا سيما أصغرهم آندريه صارت إجازاتهم لا تخلو الا بوجودهم معها ) ص
: 61 . زد على ذلك تربيتها على التقاليد والآداب الروسية فجدّها
علّمها الى ما يرويه لها من التراث الروسي من حكايات شعبية (
وجعله يلوذ بما يحفظ من حكايا وأساطير روسية , صارا يجلسان
على الكرسيين الهزازين متقابلين ؛ لأنه أراد لها أن ترى عينيه وملامح
وجهه وهو يرويها باسلوب ينسجم مع عمرها ولغة بسيطة مصحوبة باشارات
مضحــــــكة ايضا ) ص : 66 .
تعصب ديني
لقد نشأت روزالين في بيئة لا تعرف التعصب الديني ( أنا وثروت
وأمي وابي إذا صادف وجودهما معنا أحياناً . نعلم أنا و روزالين
وحدنا نؤدي الصلاة , لأن ثروت يتمتم بشيء آخر غيرها , احترم
هو خياري ولم يصر على اعتناقي ديانته , انتسابي الى الكنيسة
الارثذوكسية لم يغير من نظرة احترامي للديانتين الأخريين ) ص :
80 – 79 . لذلك تماهت مع الهوية الروسية حتى في مراسيم الموت (
– لكنك تعلم انه في بلادنا يبقى التابوت مفتوحا أثناء القداس ,
فاذا انتهى القداس جاء الاهل والمعارف يقبّلون الميت قبلة أخيرة ,
يغلق التابوت بعدها , عندما أكملت روزالين قبلتها الدافئة الطويلة
, وقد فهمت الآن مغزى الموت ونزل شيء من دمعها الساخن على خد
المرحومة ) ص :82 . لكن الهوية معقدة في فكر من
يعتنقها وهل تنسى روزالين هويتها السورية ؟ يقول أمين معلوف : (
ان كل من يجاهر بهوية اكثر تعقيداً يجد نفسه مهمشاً ؛ فالشاب
الذي ولد في فرنسا لأبويين جزائريين , يحمل في داخله انتمائين
بديهيين ويفترض به ان يكون قادراً على الاضطلاع بهما على السواء
) الهويات القاتلة , دار الفارابي , لبنان , ط : 1 , 2004م
, ص : 13 . لقد كانت هناك عوامل عديدة لتماهي روزالين مع
هويتها السورية منها : ان والدها سوري وكان السبب المباشر على
تهيئتها للهوية السورية من خلال خطة وضعها لها ( اساس خطته الاكثار
من السفر الى مدينة " سانت بطرسبرج " و " بلاشفيا " ليكون
قريباً منها وليعوِّضها من حنان أمها ... المهمة ليست سهلة ,
جداها تعلقا بها اكثر من قبل لأنها باتت يتيمة الأم ) ص : 85
. ومن خلال جولاته لسانت بطرسبرج وشوارعها التاريخية
بدأوالدها يطوِّعها على الأجواء العربية ( في الواقع , تحدث
لها بأسباب مقصودة عن العرب دون القوميات الأخرى , قال انهم
يتألفون من السوريين , وهم أغلبية , ويملكون جوازات سفر روسية
بسبب زواجهم من روسيات هناك أيضا يمانيون , عراقيون مصريون
وفلسطينيون ) ص : 87 ( حاول ان يتجنب زيارة الكنائس القريبة من
المكان حتى وهو يتذكر وعد لكرستينا في انه لم يتدخل في عقيدة
ابنتها , ولن يفرض عليها عقيدته لكن روزالين أصرت على رؤية
الكنائس من الداخل ومعرفة اسمائها ) ص : 88 و ( وقفت تتأمل معه
" مسجد سانت بطرسبرج " عرفا انه يعود الى أكثر من قرن ) ص :
88 وحاول ان يطبِّعها على بلاده – سوريا –
( قال لها أنها ستجد في بلاده ما هو أجمل من كل ما رأته أسهب
وهو يعدِّد جوانب من حضارتها الزاهية وماضيها المجيد ) ص : 89
و ( راح يكثر من زيارة معارفه ومواطني بلده المستقرين مؤقتا أو
دائميّا في المدينة وهي بصحبته , عرّفها بالجميع وجعل نساءهم
وبناتهم ممن هنّ في عمرها يحدثنها عن وطنه الذي لا يقل
جمالا عن وطنها ستكون محظوظة لو رافقته الى وطن كهذا , كل الناس فيه
لطفاء مثلهن ... انتابها فضول كبير لمعرفة ان كان وطن أبيها هو
بالصورة التي رسمنها لها ) ص : 89, (استقبلت ما قاله بترحاب في
البداية ... عند هذا الحد انتهى الحديث بينهما لم يحاول ان
يضغط عليها ) ص : 90 ولكي يخفف من ثقل الكلام
عليها ( صحبها الى مطعم يقدم أكلات شرقية تناولا الغداء وضحكا
كثيرا , لأنها لفظت بصعوبة أسماء بعض الأكلات المشهورة في بلاده)
ص : 90 . لكن روزالين في صراع ان تمتثل بسرعة الى الهوية
السورية : ( وجعي بسؤال لا طائل منه بعد ثمان سنوات من اقتلاع وطن
حنون عشت فيه أروع أعوام طفولتي وجزء من مراهقتي , ونقلي كشجرة
دون جذورها الى " الوطن البديل " ... اكتشفت كم كانت درجة الحرارة
مرتفعة في العاصمة حينها , تعب جهازي التنفسي ) ص : 107 –
106 ولم يكن الجو أول عامل أثر فيها بل زوجة والدها ميساء واخوتها
الثلاثة وقفوا موقفا مؤلما منها بالاضافة الى مسيحيتها ( ومسيحيتي
؟ ! يا الهي ! كم أخجل العروج على موضوع الدين ... لا أنكر ان
الدين صار سلعة رائجة بين الساسة العرب , صار أداتهم الغالبة في
الحكم واسكات صوت معارضة محكوميهم مثلما لا أنكر ان التاريخ العربي
صار حاضرا بقوة عند تصنيف الناس الى مسلمين شيعة ومسلمين سنة ,
مفضيا الى حروب شعواء بين أبناء البلد الواحد) ص : 110 . وتضاف
الى تلك المشاكل التي واجهتها ( مشكلتي كلها تكمن بالعربية حاول
أبي شخصبا حلّها بنوع من القوة , وجد نفسه مرغما على التدخل
المباشر في تعليمي لغته الأم راح يدرسني القرآن , فعانيتُ
وعانيتُ وبكيت بحرقة , خط القرآن صعب والعربية صعبة ... أهرع
الى حجرتي وألوذ برفيقي الوحيد : البكاء بصمت ) ص : 111 .
ثم تأتي دور التقاليد والعادات لتقف بوجهها ( زوجة ابي واخوتي
الثلاثة انضم اليهم أبي هذه المرة , فرضوا عليّ قيدا لعينا من
التشدد, أفهموني ان كل شيء في الأنثى عار ومجلبة له حتى بت اخاف
ان أرفع عيني عن الارض وانا في طريقي الى مدرستي أو قادمة
منها الى البيت ) ص : 112 . وتتصاعد
الضغوط على روزالين وهي تتمثل الهوية السورية ( قررت ادارة
مدرستي تتويجي " ملكة جمال " المرحلة , جنّ جنون أبي
وأخوتي , فقدت زوجة أبي اعصابها , لكن الادارة مضت في قرارها
دون الرجوع اليهم , وتوّجتني " ملكة جمال " بالفعل , يومها
اشترك أخواي الأوسط والأكبر في ضربي بعد عودتي الى البيت )
ص : 112 ( لم أحظ بصديقات في المدرسة ولا اصدقاء , عانيت
الوحدة الشديدة أقطع المسافة وحدي مطرقة رأسي الى الأرض خشية
العار ) ص : 114 ولم تجد روزالين متنفسا لها سوى اقامة ضريح وهمي
لأمها بعد أن غادر الجميع البيت الا والدها ( رافقته الى موعد مع
حفار القبور في المقبرة , هناك, في مكان اتفقنا عليه سلفا ,
أقمت ضريحاً لماما بالفعل , لم يسأل الحفار عن سبب اقامة
الضريح ... ) ص : 115 وعلى الرغم من معارضة اسرة جدها للبقاء في
سوريا بعد ان رأى خالها آندريه مسحة الحزن على وجهها ( لذلك
يقترح عليّ عدم العودة ثانية الى " الوطن البديل " لكنه انقاد
– وان على مضض – لرفضي مقترحه , بعد أن أخبرته ان مددت لنفسي
جذورا فيه , مع أنها جذور وهمية لا أصل لها تحت أرضه , وان
مستقبلي هناك على المحك , أقصد دراستي الجامعية الوشيكة ) ص
: .118
اقامة قبر
ولم يكن القبر الذي أقامته لامها كافيا لتعويض الالم الذي تشعر
به وهي تمتثل الهوية السورية ( فاقتنعت بفكرة كتابة
المذكرات لسبب منطقي ؛ قلت لنفسي : يا إيفا , ما تذكرينه اليوم
قد تنسينه بعد يوم او اسبوع أو شهر , وان كان بعضه عصيّ على
النسيان ... ) ص : 118 ولكنها تتوجس من كتابة المذكرات بالعربية
خوف اطلاع اسرة أبيها عليها التي نصبت لها العداء فكتبته بالروسية
( هكذا , حفرت في الجدار مكانا ليس سريّا لكنه لا يقربونه تحت
اي ظرف , هكذا , حفرت في الجدار مكانا مستطيلا بحجم الدفتر
الذي قررت ان اكتب فيه مذكراتي , خلف صورة ماما رحمها الله ,
المعلقة على الجدار فوق رأسي ) ص : 119 . ووجدت سلوى اخرى
لنفسها لتنسى همومها وهي تسترجع هويتها الروسية ( ما زلت أحب
الاصغاء الى حكايا العجائز شبيهات مجسمات جدي , مع أنهنّ ينكأن
وجعي , عندما يتهامسن مع جدتي بشأن الشبه بيني وبين
المرحومة... ) ص : 122 , ووجدت سلوى اخرى تخفف من همومها وهي
التعلق بتميمة أهدتها لها أمها ( بركاتها بدت نوعا من اطمئنان شاع
سريعا في روحي ... ) ص : 123 . وشرعت تعيد واقعها وهي تتمثل
الهوية السورية ووقفت تقرر مصيرها ( خيّرني أحبتي بين العودة
الى " وطني البديل " وبين البقاء هنا...) ص : 123 لأنها
شعرت أنها تنسب الى وطن آخر غير وطنها الام , ص : 124 , لكنها
صارت امام الامر الواقع لتتمثل الهوية السورية على الرغم من الحرب
الاهلية الطاحنة فرأت أنها ( أصبحت سورية بجنسيتين ووجب عليّ أن
اعيش ما يعيشون واواجه ما يواجهون , مع ذلك , بدا حتميّا ان
أثبت نفسي أمام أبي قبل أي أحد آخر , تفوقت في دراستي
الثانوية يحدوني أمل كبير بدخول الجامعة لدراسة اللغة
الانكليزية ... ) ص : 125 , لكن آلامها المكبوتة وهي في الوطن
البديل – سوريا – جعلها تنطوي على نفسها ( أن معظم
الشبان اتهموني بالغرور والتكبر , مع أنهم أو بعضهم في الأقل
سيعذرونني لو عرفوا أسباب تجنبي مخالطتهم أو التقرب من أحدهم )
ص : 127 . لكنها وجدت الحل امام واقع فرض نفسه عليها فالقانون مع
والدها ببقائها في كنفه فما عليها الا ان تتمثل الهوية السورية : (
ألم تغدُ سوريا وطني الأصيل بعد ان ظلت لسنوات وطني البديل ؟
ربما ذكرت شيئاً من هذا من مكان آخر من المذكرات , ارتديت ثوب
الوطن الأصيل صارت جنسيتي السورية هي جنسيتي الاولى وجنسيتي
الروسية هي الثانية , صارت سوريا وطني الأصيل , هويتي
الاولى , وجذوري الحقيقة الممتدة عميقاً في أرضها , وليس
أبا طاعنا في السن وضريحا وهمياً للمرحومة فقط ) ص : 131 .
لقد كان للحرب الاهلية الطاحنة في سورياسبب هذا التحول في
الانتماء للهوية السورية بالاضافة الى الأسباب الاخرى ( لا أعزو
ذلك التحول الى الحرب ومآسيها وحدهما , ولا الى الظلم الذي رأيت
في سوريا عرضة له من أقربين قبل أبعدين , الاقربون الذين لم
يعملوا بحكم الآية القرآنية التي تقول " وإن طائفتان من المؤمنين
اقتتلوا فاصلحوا بينهما ... " وأظنني قد حققت مع والدي ما
يقرب من المعجزة بعد ان وطأت قدماي هذه الأرض أول مرة في عام
2002م , بقرائتي القرآن وختمه وحفظه ليس مهما هنا , مَنْ من
الحكومة أو المعارضة على صواب ومَنْ منها على خطأ , المبدأ هو
الاصل وتحقيق المصالحة بين الطرفين , بكثير من التضحية من الاثنين
... ) ص : 131 ونتيجة مآسي الحرب لمعت في ذهنها فكرة العمل
التطوعي ولا سيما تبني الايتام وتربيتهم بعدما أشاعت الحرب عن
وجهها فكرة الحب والزواج وكانت هذه الختمة ضربة مدهشة .