شيمة محمد
الشمري
" إنني أرفض قبول نهاية الإنسان"، هكذا قال الكاتب الأمريكي
وليام فولكنر، وهو يتسلّم جائزة نوبل للآداب سنة 1949م، إنّ
هذا الموقف يحاول تقديم محاكاة للموقف الإنساني غير المضمر في
كراهية الموت، على الرغم من التصدعات الكثيرة التي أصابت النفس
البشرية من جراء الخلل البنيوي الذي يصيب الحياة يومياً،
ويؤكد تجرّد كثير من البشر من سماتهم البشرية، لاسيما تلك التي
تفرضها الحروب ومشاهد الإرهاب التي تقض سكينة العين والأذن
والقلب، من هذه الرؤية التي تنحاز للبشري في الطبيعة
الإنسانية، ولتكريس منظومة أخلاقية تحترمها، وتواجه منطق الحرب
الذي يفرض مشاهد الموت بتواتر، توقف أدباء كثر عند هذه الحالة
البشرية المستعصية على الفهم، ليقدموا لنا نصوصاً أدبية تحاول
مقاربة هذه الحالة، وتتوقف عند الجانب الموجع فيها، وفي هذا
السياق تندرج مجموعة (نزيف الجبل) للقاص العراقي نواف خلف
السنجاري، الكاتب الذي ذاق مرارات الحرب وأوجاعها باحتلال مدينته
من قبل إرهابي داعش، فعاش تفاصيل الموت، وحاول التقاط بعض صوره
التي تحاول أن تقدّم جزءاً من المأساة التي تجاوزت في شساعتها
مساحة القلب، فسفكت حبراً أحمر قانئاً، وإذا كانت الكتابة هنا
ترتكز على قوة الفكرة أكثر من اعتمادها قوة الصورة وانزياحات اللغة،
فذلك يعود إلى أن الفكرة المطروحة في كل قصة تراهن على مخزونها
العاطفي، وقوة محتواها التي يقف المتلقي أمام بعضها فاغر الفم
مصدوماً من شراستها التي توازي شراسة الحرب بكل ما تحمله من موت
وأسى ودمار للبشر والحجر.
العنوان " نزيف الجبل" ليس جديداً على المتن السردي
العربي، فاقتران النزف بالعنوان نجده عند الليبي إبراهيم الكوني
في " نزيف الحجر" وعند العراقي كامل الجبوري في " أناشيد
النزيف" وعند السوري أكرم منذر في " نزيف السنديان"، وربما
الكتابة تحت ظلال الموت في المشهد العربي باتت محرّضة على
الانحياز إلى عناوين نازفة بالدم، وهذا ما ولد التعالق بين
العناوين، وعنوان " نزيف الجبل" على ما يُظهِر من إيحائية
دموية تُشخّص الجبل ليصبح نازفاً، إلا أن دلالته المرجعية ستظهر من
عتبة الإهداء، إنه الفضاء المكاني المسيطر على السرد عند القاص
نواف السنجاري، وبالتالي فالعنوان مرتبط بمرجعيته الواقعية (
جبل سنجار) ليسجل لنا الكاتب فيه يوميات الموت، لا سيما في
الجزء الثاني من المجموعة( بعد النزيف) ليصبح هذا العنوان بنية
دالة، فالتاريخ المرجعي والكتابي، بات يُؤرّخ إلى ما قبل
النزيف/ قبل وقوع المأساة، وما بعد النزيف/ أي بعد وقوع
المأساة المتمثلة بتدمير مدن جبل سنجار على أيدي (داعش)، وما
ارتكبوه من جرائم وانتهاكات لم يعرفها التاريخ البشري. يقسم
الكاتب مجموعته القصصية إلى قسمين عامين دالّين، الأول قبل النزيف،
والثاني بعد النزيف، وهذه الاستراتيجية تفرض على المتلقي أن
يتعامل مع نصوص القسم الأول على أنها مكتوبة قبل المأساة، من هنا
يبدو انحياز الكاتب لتسجيل اللحظات الإنسانية الطافحة بالنبل
والتمجيد للحظات البشرية الفياضة بالمشاعر وبالحب، ولكن ظلال الحروب
تلقي ظلالها بين الفينة والأخرى لتسجل مآس فردية كثيرة، كما في
قصة ( عناق) التي تجسد وحشية الحرب، عندما لا يترك الدمار
سوى يد واحدة لطفلة تحت الأنقاض، يد لم تعد قادرة على التلويح،
وكما في قصة ( ملجأ) التي تفعل صدمة النهاية فعلها في
بطلها وفي المتلقي، إذ يكتشف البطل بعد حديث لثلاث
ساعات في الملجأ أن كلماته لم تلق أذنا صاغية، لأنها موجهة لثلاث
جثث. ولن تخفى ظلال الموت في قصص أخرى مثل ( مصالحة، تشبث،
معركة)، ولكن ما يخفف من بشاعة الموت في هذا القسم من
المجموعة، أن الكاتب ينتقل إلى موضوعات أخرى، لتتوقف عند هموم
الكتابة، وتناقضات الفعل البشري، ومفارقات السجن والحرية، ولعل
في قصة ( أقفاص) ما يقدم دلالة واضحة على ذلك التلطّف،
يقول:
قضبان الزنزانة
" حينما كان مرمياً خلف قضبان الزنزانة، داهمت ذاكرته أفواج
العصافير التي باعها محبوسة في أقفاصها .. حاصرت روحه بأجنحتها
المقيدة.. أقسم أنه سيحررها حال إطلاق سراحه... بعد أن أُفرج عنه
بيومين، أسرع إلى أقفاصه.. حملها، ليمارس مهنته من جديد!!"
إنها المفارقة الساخرة التي يحياها كثير من البشر في
أبرز تصدعاتها الأخلاقية، عبر ازدواجية المعايير في داخلها،
التي نطرح سؤال الحرية والموقف منها في أجلى صوره عبر امتحان
أخلاقي ( السجن) وواقعي ( التخلص من السجن)، لتنحاز إلى
طبيعتها البدائية القائمة على أنانية الذات في مواجهة امتحان
القيم.
وعلى الرغم من انحياز الكاتب نواف السنجاري إلى القصة القصيرة جداً
لتكون الشكل الفني الحامل لرؤاه ومقولاته، إلا أن النفس
الطروادي الذي يؤرخ للمأساة بكل ما تحيل إليه من تفاصيل درامية
موجعة ومؤرقة، هو النفس المسيطر والمُحتكِر لأساليب التعبير. في
هذا القسم يُمزَج الحبر بالدم، إذ تُجبر المخيلة على مسايرة
الواقع وتسجيله، فيضيق المجاز، ويسودّ أفق التعبير، فتدور قصص
هذا القسم في إطار دلالي لا يخرج عن فضاءات ثلاثة، هي الموت
والجوع والنزوح، فتزدحم لغة التعبير بمفردات هذا الحقل الدلالي،
ولعل قصة ( عقد منفرط) تلخص مقولة المجموعة القصصة كاملة،
وتعبّر عن هذا الفضاء، يقول:
" البحر الهائج، الطفل الغريق، الساحل الحزين، الموج العالي،
البرد القارص، الأم، الليل، الأب، المطر، الجزيرة،
النجّادة، الموت، الزورق المطاطي، الخوف، الجثث، الصراخ،
المُهرّب، العاصفة، البكاء، النجوم، النجدة، الوصول،
اللجوء، خفر السواحل، الضجيج، الدموع، الوداع، الحلم،
البداية، النهاية، الفكرة، الخيال، حروف الجر، الأفعال،
علامات الاستفهام والتعجب، الفوارز، النقاط، العنوان،
القلق، الدهشة، الذاكرة المعطوبة، المفاجأة، والضياع... كل
هذه المفردات تتصارع في رأسي المشوش، وتأبى أن تصير قصة".
فهذه المفردات تشكّل معجم المأساة غير القابل للتشكل في ذهن
الكاتب والمتلقي، إنه وجع متسع، في كل مفردة منه إشارة إيحائية
إلى حالة بشرية عاشها الهاربون من الموت، ذاك الهرب المحفوف بمفردات
النزوح، وبمفردات معاناة الطريق المحفوف بالغرق، وبزوارق النجاة
المطاطية التي لم ترحم، فزادت الجراح اتساعاً، وبالأحلام
وبالدموع وبالانتقال من سكينة المكان إلى وجع الأماكن الأخرى، إنها
لغة جديدة تصوّر بواقعية متوحشة حالات يعيشها بشر من لحم ودم،
وتصبح الكتابة تصويراً فوتوغرافياً عاجزاً تماماً على أن
يضم في إطاره إلا جزاءاً يسراً من تلك التراجيديا المعاصرة
لموت الإنسان، من هنا لا غرابة أن يختار الكاتب أشد اللحظات
مأسوية في تصويره، لتكون النماذج الذي يريد من خلالها إيقاظ
ضمير العالم، وتوجيه صفعة له، في محاولة لم تخلُ من يأس في
كثير من جوانبها، وكانت صور الطفولة هي من أكثر الصور الصادمة
التي سلط الكاتب الضوء عليها، فتظهر صورة الأطفال في مواجهة
الجوع والعطش، ليتبدد ذاك الأمل تحت ظل الموت القاسي،( قصة
المنقذ)، كما تظهر في مواجهة صدمة النزوح وضياع المكان ( قصة
نازح صغير)، وتبرز أبشع صورها في وحشية قتل الأطفال، فتتحول
الأجساد إلى حمامات تحلق إلى السماء ( قصة طفلة)، وفي مأساة
قتل الأحلام ( قصة حلم)، وربما كانت قصة ( احتضار) من أقسى
تلك المشاهد الدرامية، التي ترصد أوجاع البشر، وتحاول تلخيصها
بلحظة صادمة:
"الطفلان الضريران يتشبثان بوالدتهم كمن يمسك بطوق نجاة، وهي
تقودهم في طريق الجبل، العطش، الجوع، الخوف، والتعب أطبقوا
بمخالبهم على الأجساد الطرية وأنهكوها، سمعت الأم أزيز طائرة
بعيدة، قالت للصغيرين: ابقيا هنا حتى آتيكم بالماء والطعام،
جمعت ما تبقى من قوة واتجهت نحو مصدر الصوت. حين وصلت كان هناك
مئات من الناس الهاربين يتدافعون أمام الطائرة، رفعت يدها وصاحت
بصوت مبحوح: ماء.. أرجوكم لدي طفلان يحتضران، وفي زحمة
الصراخ وتشابك الأصوات والأجساد انتبه الضابط العسكري، أمسك
يدها، وانتشلها بقوة إلى داخل الطائرة.. استمرت بالصياح ماء..
ماء.. علا صوت المحركات، وحلّقت الطائرة بعيداً عن جبل
الموت".
إنها قسوة الحرب، وما تفرضه من كسر لكل أفق التوقع الممكنة،
واللامنطق المتمثل في عبثيتها، وتلاعبها بأرواح البشر بطريقة
تجعل من صراخ الشيخ العجوز في قصة ( وحيد) صراخاً منطقياً
أمام هذه العبثية، يقول: ( أعيدوا لي فرداً من أفراد عائلتي
... واحد فقط حتى أقدر أن أعيش)، إنها التراجيديا في أعلى
صورها، والعبثية في تحول حلم تجزيء الموت وتقنين خسائره أمراً
مُرتجى في ظل ظلام دامس لا يُرجى النور من ورائه، إنه الضعف
البشري في أبشع صوره عندما يمسي الخيار بين وفاة أسرة كاملة
أمراً واقعاً، وبين الحلم المشتهى في أن تبقي الحرب على فرد
واحد منهم، لتغدو الحياة كابوساً قابلا للعيش. بقي أن نشير
إلى انحياز الكاتب، ربما نتيجة المأساة، إلى لغة تصويرية واقعية،
وحتى في انزياحاتها تميل إلى لغة الموت، كما في قصة (
تحليق) التي يقول فيها: ( ابتسمت نرجس مثل محكوم بالإعدام أطلق
سراحه)، فازدحام مشاهد الموت في مخيلة الكاتب جعلها مخزوناً
بلاغياً حاضراً في مجمل صوره، لتصبح أقرب صورة للابتسامة هي
تشبيهها بالفرج الذي يحلّ على من تخلص من حكم الموت، إنها لغة
لم تجد مفرّاً من الواقع الصادم فعاشته بكل تفاصيله. وأخيراً
لعل من أهم ما يثر المفارقة الساخرة عند المتلقي للمجموعة، أن
الكاتب لا يترك لمتلقيه خيارات متعددة، بل يتركه أمام نمطين من
التلقي: الموت باعتباره فضاء مجازياً لفناء القيم البشرية
والأخلاقية، والموت الحقيقي الذي يروض لغة المجاز ويفتح آفاق
الصدمة أمام المتلقي، إنها حالة حصار للروح ونزيف للكلمة
ممزوج بالدم والحبر، لا تترك للمتلقي سوى أن يردد مع أبي
الطيب المتنبي:
وسوى الرومِ خلفَ ظهرِكَ رومٌ
فعلى أيِّ جانبيكَ تميلُ