بقلم / مجاهد منعثر منشد
........................
هذا ما قاله الكلبي عن نسبه: هو زهير بن القين بن الحارث بن عامر بن سعد بن مالك بن ذهل بن عمرو بن يشكر من بني عمرو بن يشكر من بني قسر بن عبقر بن انمار، من قبيلة بجلية (1).
وقبيلة بجلية من قحطان، واشتقت كلمة بجلية من كلمة بجل أي التبجيل(2).
اما المعنى الاصلاحي لبجلية في مؤلفات الأنساب العربية كابن الكلبي، فيقول أن بجلية أسم امرأة عربية تنحدر بأصولها إلى الفرع القحطاني العائد إلى يعرب بن قحطان وهي بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة هكذا عرفها أقدم النسابة العرب الواصلة إلينا نتاجاتهم العلمية.
وقد اجتمعت أغلب كتابات النسابة والمؤرخين العرب على زواج بجيلة من انمار بن أراش بن عمرو بن الغوث(3)، وراي بن حزم ضعيف في أنتساب بجلية إلى عدنان.
الجد الأعلى لزهير (قسر بن عبقر بن انمار)
قسر(4) بن عبقر بن انمار: يعد من السادة الأشراف وهو السيد المطاع في قومه. وأنه كان يمتلك مؤهلات منها رجاحة العقل والنزاهة وبعد النظر في الأمور السياسية التي تحدث داخل أفراد عشيرته، واشتهر بفصاحة لسانه وحكمته في الأقوال حيث أوصى أبنائه بوصيه تحثهم على التمسك بالعادات والمبادئ الأخلاقية لدى القبائل العربية خاصة فيما يتعلق بالحفاظ على الثروة والتمسك بخصال الكرم وحسن الضيافة حيث قال يا بني إذا غدوتم فبكروا وإذا رحتم فهجروا وإذا أكلتم فأوتروا وإذا شربتم فأنبروا وابيحوا ما يؤكل فانه منعة آلام اللوم (5).
موقف القبيلة في واقعة الطف
يبرز لدينا في المصادر التاريخية من البجليين في مناصرة ثورة الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام من رجال وفرسان قبيلة بَجِيلة إلى جانب الإمام الحسين في معركة الطف سنة 61هـ، الشهيد زهير بن القين بن الحارث البجلي، والشهيد سلمان بن مضارب بن قيس الانماري البجلي وهو ابن عم زهير بن القين وحمل ثقله إليه مال معه في مضربة وقتل سلمان بعد صلاة الظهر في يوم الطف(6).
أما موضوع البحث زهير بن القين، فكان من شجعان المسلمين، شريفاً في قومه، له في إحدى الغزوات موقف مشهوراً، وموطن مشهوداً.
وكان على درجة عالية من الأهمية والشهرة في محيطه الاجتماعي القبلي والسياسي، علاوة على ذلك فأنّه من الأشخاص المبرّزين والأعيان ورؤساء القبائل وأصحاب المآثر والبطولات.
والواضح في المصادر التاريخية أن زهير اشترك في إحدى الفتوحات الإسلامية التي هي فتح مدينة (بَلَنْجَر)، وهي مدينة ببلاد الخزر بأرمينية (7)، فتحها المسلمون في خلافة عثمان بقيادة سلمان بن ربيعة الباهلي سنة ثمان وعشرين، أو تسع وعشرين(8).
وكان في مقدّمة الفاتحين زهير بن القين، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها ـ وأسفرت الأُمور عن انتصار المسلمين ـ ينقل زهير خبراً عن هذه المعركة ظل عالقاً في ذهنه حتى سنة إحدى وستين للهجرة، وذلك حين التقى بالحسين عليه السلام ودعاه إلى نصرته وقرّر الالتحاق به، فلمّا عاد إلى أهله وأصحابه ليخبرهم بقراره المصيري حدَّثهم بهذا الخبر، فقال: «إنا غزونا البحر، ففتح الله علينا وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان المحمدي (9) رضي الله عنه: أفرحتم بما فتح الله عليكم، وأصبتم من الغنائم؟ فقلنا: نعم. فقال: إذا أدركتم شباب آل محمد، فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معهم ممّا أصبتم اليوم من الغنائم» (10).
إنْ ما يستشف من هذه الحادثة التي نقلها زهير في شبابه بانه كان من المقبلين في المشاركة على الجهاد في سبيل الله ونشر الإسلام.
وأن فحوى ونص المعلومة الغيبية كانت على لسان الصحابي الجليل سلمان المحمدي (رضوان الله عليه)، المسألة التي جلبت انتباه زهير بن القين حيث تذكرها وحدث بها قومه في سنة 61هـ، فهذا الأمر يدل على أن زهير صاحب الهوية والهوى الحسيني رجلا يتوسم بالإيمان والتقوى والتضحية والولاء المطلق لأهل البيت عليهم السلام.
و الشخصية التي تعي هذا الحديث وتدرك مغزاه وتتحفظ عليه طيلة تلك الفترة من فتح (بَلَنْجَر) عام 28هـ وتتحدث به عام 61هـ، حريا بها تغير تصرفاتها كغطاء عن معرفة حقيقة ولائها، كعلي بن يقطين صاحب الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، بمعنى لو أعلن زهير بن القين ولاؤه لأهل البيت عليهم السلام في ظل وجود بنو أمية من خلافة عثمان إلى يزيد، ماذا سيجري بحقه؟
ولذلك نراه في التاسع من محرم بعد العصر عندما أقترب العدو من معسكر الإمام الحسين عليه السلام، فوصل الخبر إلى سيد الشهداء أبي عبد الله حيث نبهته العقيلة زينب فجاءه العباس حاملا للخبر، فأمره عليه السلام بالذهاب لهم في عشرين فارسا، فكان بينهم حبيب بن مظاهر وزهير بن القين، فبعد أن سألهم العباس عما جاء بهم، أخبروه بما يريدون، عاد قمر العشيرة إلى أخيه الإمام الحسين سلام الله عليه ليخبره خبرهم.
وقف أصحاب العباس مقابل العدو فقال حبيب لزهير: كلم القوم إن شئت وإن شئت كلمتهم أنا، فقال زهير أنت بدأت فكلمهم، فكلمهم بما تقدم في ترجمته، فرد عليه عزرة بن قيس بقوله: إنه لتزكي نفسك ما استطعت، فقال له زهير: إن الله قد زكاها وهداها فاتق الله يا عزرة، فإني لك من الناصحين، أنشدك الله يا عزرة أن تكون ممن يعين الضلال على قتل النفوس الزكية.
فقال عزرة: يا زهير ما كنت عندنا من شيعة هذا البيت إنما كنت عثمانيا.
قال: أفلا تستدل بموقفي هذا على أني منهم ! أما والله ما كتبت إليه كتابا قط، ولا أرسلت إليه رسولا قط، ولا وعدته نصرتي قط، ولكن الطريق جمع بيني وبينه، فلما رأيته ذكرت به رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومكانه منه، وعرفت ما يقدم عليه من عدوه وحزبكم: فرأيت أن أنصره، وأن أكون في حزبه، وأن أجعل نفسي دون نفسه، حفظا لما ضيعتم من حق الله وحق رسوله(11).
المتأمل في هذا النص يجد زهير يعلن ولاءه بدون أي مخاوف أو تحرج، فالوهم الذي وقع فيه جيش العدو ومنهم عزرة بان زهير كان عثمانياً قد انتهى دوره ورفع الستار عن الغطاء بإجابة زهير لعزرة في قوله: أفلا تستدل بموقفي هذا على أني منهم!
وبعد هذا كان حوار زهير مع عزرة حواراً منطقياً يصور فيه خوفه على سلامة الحسين عليه السلام من العدو وهذا أيضا من باب الولاء، وما فعله اللعين عزرة حيث كان ممن كتب إلى الإمام، لكن زهير لم يفعل ذلك، فكل هذه الأمور تشير إلى أن زهير رجلا حسينياً من أتباع أهل البيت عليهم السلام، فكان علوي الهوى والانتماء والعقيدة.
ومظاهر ولاء زهير إلى الإمام الحسين سلام الله عليه كثيرة منها قوله لزوجته «وقد عزمت على صحبة الحسين عليه السلام لأفديه بنفسي وأقيه بروحي» (12)، وقولها له: «كان الله عوناً ومعيناً، خار الله لك، أسالك أن تذكرني في القيامة عند جدِّ الحسين عليه السلام»، وقوله لها: «فإنّي قد وطّنت نفسي على الموت مع الحسين عليه السلام»، وقول زهير لأصحابه: «مَن أحبّ منكم الشهادة فليقم» (13)، وإخباره إياهم بحديث سلمان الفارسي: «إذا أدركتم شباب آل محمد فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معهم ممّا أصبتم اليوم من الغنائم» (14).
وهذه الاقوال تكشف لنا عن علوية زهير وزوجه وموالاتهما لأهل البيت عليهم السلام من أول الأمر.
وأن الإمام الحسين عليه السلام كان يكني له مكانه وخصوصية سوء في تأييده (سلام اله عليه) في رأي زهير أو أخباره بالأخبار الغيبية، فمثل حين أشار على الإمام الحسين عليه السلام بمناجزة جيش الحرّ حين حاصرهم ومنعهم من النزول في الغاضرية أو نينوى، فقال زهير: يا بن رسول الله، ذرنا حتى نقاتل هؤلاء القوم، فإنّ قتالنا الساعة نحن وإياهم أيسر علينا وأهون من قتال مَن يأتينا من بعدهم. وقد أيّده الإمام وصوّب رأيه، فقال له: صدقت يا زهير. ولكن الإمام كره أن يبدأهم بقتال حتى يبدؤوا(15).
أما خصوصية الأخبار فمثلا عندما صحب زهيرٌ الإمامَ الحسين عليه السلام ووصلوا إلى كربلاء، قال له الإمام: «يا زهير، اعلم أنّ ها هنا مشهدي، ويحمل هذا من جسدي ـ يعني رأسه ـ زحر بن قيس، فيدخل به على يزيد يرجو نواله، فلا يُعطيه شيئاً(16).
ونرى سيد الشهداء (سلام الله عليه) قد جعل زهير قائدا من قادته في المعركة إذ جعله (عليه السلام) على ميمنة الجيش.
وفي صبيحة العاشر من محرم بعد أن خطب زهير بجيش العدو وانهى كلامه ناداه رجل من أصحاب الحسين عليه السّلام: إنّ أبا عبدالله يقول لك: أقْبِلْ؛ فلَعَمري لئن كان مؤمنُ آلِ فرعون نَصَح لقومه وأبلَغَ في الدعاء (أي الدعوة إلى الحق)، فلقد نَصَحتَ لهؤلاء وأبلَغْتَ لو نَفع النُّصحُ والإبلاغ!(17).
وقد خرج الحرّ بن يزيد الرياحيّ للحرب، فكان زهير بن القين يحمي ظهره، فكان إذا شدّ أحدهما واستَلحَم شَدّ الآخرُ فاستَنقَذه.. حتّى استُشهد الحرّ رضوان الله عليه، فعاد زهير إلى موقعه يستعدّ لجولةٍ أخرى.
وبعد الزوال.. خرج سلمانُ بن مُضارب البَجَليّ ـ وهو ابن عمّ زهير ـ فقاتل حتّى استُشهِد. بعده خرج زهير، فوضع يده على منكب الإمام الحسين عليه السّلام وخاطبه مُستئذناً:
أقدِمْ هُدِيتَ هاديـاً مَهديّا......فاليومَ ألقى جدَّك النبيّـا
وحَسَناً والمرتضى عليّـا......وذا الجَناحَينِ الفتَى الكميّا
فقال له الحسين عليه السّلام: وأنا ألقاهما على أثرك.
وتقدّم زهير بن القين فقاتل قتالاً لم يُرَ مِثلُه ولم يُسمع بشبهه، وأخذ يحمل على القوم وهو يرتجز ويقول:
أنا زهيـرٌ وأنا ابـنُ القَينِ......أذودُكم بالسيفِ عن حُسَينِ
إنّ حُسَينـاً أحدُ السِّـبطَينِ......مِن عِترةِ البَرِّ التقيِّ الزَّينِ
فقتلَ منهم مائةً وعشرين رجلاً، ثمّ عَطَف عليه كُثَيرُ بن عبدالله الصَّعبيّ، والمهاجِر بن أوس.. فقتلاه، فوقف الإمام الحسين عليه السّلام وقال له: لا يُبعدَنَّك الله يا زهير، ولَعَنَ قاتِليك لَعْنَ الذين مُسِخوا قِرَدةً وخنازير(18).
ولهذا جاء في زيارته المقدسة عن الإمام المهديّ صلوات الله عليه وعلى آبائه:
السلام على زُهيرِ بنِ القَينِ البَجَليّ، القائلِ للحسين عليه السّلام ـ وقد أذِن له في الانصراف: لا واللهِ لا يكون ذلك أبداً، أتْرُكُ ابنَ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله أسيراً في يدِ الأعداءِ وأنجو أنا؟! لا أراني اللهُ ذلك اليوم!(19).
وبهذا أستشهد زهير بن القين سنة 61هـ في واقعة الطف(20).
...............................
المصادر والهوامش
(1) ينظر: ابن الكلبي، نسب معد اليمن الكبير، ج1، ص378؛ ابن حزم، جمهرة انساب العرب، ص388.
(2) الرازي، محمد بن ابو بكر بن عبد القادر، الصحاح، ص36؛ ابن منظور ابو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم، لسان العرب، ج1، ص226؛ الزبيدي مجد الدين أبو الفيض، تاج العروس من جواهر القاموس، ج28، ص56.
(3) ابن الكلبي، نسب معد واليمن الكبير، ج1، ص375؛ أبن سلام، كتاب النسب، ص301؛ أبن ماكولا المؤتلف والمختلف في النسب، ج1، ص386؛ علي، جواد، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج4، ص442ـ 443.
(4) ابن الكلبي، نسب معد واليمن الكبير، ج1، ص375؛ ابن حزم، جمهرة أنساب العرب، ص387.
(5) السجستاني، ابو حاتم، محمد بن سهل، كتاب المعمرون والوصايا، ص126.
(6) الخوارزمي، مقتل الحسين (ع)، ص347؛ السماوي، محمد طاهر، كتاب العين في أنصار الحسين، ص118.
(7) الحموي، معجم البلدان: ج1، ص489. ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق: ج21، ص475.
(8) ابن سعد، الطبقات الكبرى: ج6، ص131. ابن الأثير، أُسد الغابة: ج2، ص327.
(9) ابن الاثير، الكامل: ج4، ص42. والمفيد في الإرشاد: ج2، ص72 ـ 73. والحميري في الروض المعطار: ص94،
(10) المفيد، الإرشاد: ج2، ص73..
(11) تاريخ الطبري، ج 3 ص 314.
(12) ابن طاووس، اللهوف على قتلى الطفوف: ص44.
(13) الدينوري، الأخبار الطوال: ج1، ص365.
(14) المفيد، الإرشاد: ج2، ص73، اُنظر: الطبسي، مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة (وقائع الطريق من مكّة إلى كربلاء): ج3، ص213.
(15) ابن أعثم، الفتوح: ج5، ص80 ـ81. المفيد، الإرشاد: ج2، ص84. الدينوري، الأخبار الطوال: ص252..
(16) الطبري، دلائل الإمامة: ص182.
(17) تاريخ الطبريّ ج 6، ص 244.
(18) الخوارزمي، مقتل الحسين عليه السّلام، ج 2ص20.
(19) ابن طاووس، إقبال الأعمال، ص 576.
(20) الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج5، ص422؛، ج12، ص 3859؛ الهمداني، أحمد صابري، ادب الحسين وحماسته، ص208ـ 209.