ناهض الخياط
ناهظ الخياطإن المصطلح النقدي الحديث (مستويات التأويل) في النصوص المبدعة، والذي تتردد أصداؤه كثيرا في أجواء نقدنا، أراه في حقيقته قراءة تشكلها مستويات فهم متباين لمدارك الناقد وثقافته، وتداعيات لا وعيه، ورغبته. فهؤلاء المرتكزون لآلية المستويات التأويلية المطلقة يتعارضون، بل يتناقضون، أحيانا، مع الكاتب في ما أراده بنصه في طروحاته ودلالاتها، وإشاراتها البليغة الهادفة، فيسمون الألوان بغير أسمائها .. كما أن (لا) عندهم، تعني نعم .. وهكذا !
والمؤسف حقا أن التمسك العائم بهذا النهج في قراءة النصوص، دفع الكثير من المتشاعرين، وضعاف التجربة في مدرجها الإبداعي إلى الاحتماء بدهاليزه المظلمة، فاجترحوا كلاما طائشا في انزياحاته المنفلتة لحد بعيد، ودبجوا له عناوين تُجهد القارئ كثيرا لفهم ما وظّبته لدلالتها حروفهم !
وهنا تبرز تلويحة لابد منها .. تؤكد أن التشكل الجمالي لبنى النص الشعري في إيقاعه وموسيقاه عبر اتساقه الأنيق، بصياغاتها المجازية المتنوعة مع خبرة الشاعر ومقدرته في إظهارها بما يحقق للقصيدة أقصى طاقة لها في التأثير الفكري والجمالي في نفوس قارئيه،
وليس إلى ما يواجهه من صعوبة فهم والتباس ! حيث ينبري المتمسكون بالنهج التأويلي بمستوياته المطلقة، لينهوا المواجهة الحادة بين النص وقارئيه ! ولا يتورعون في إعطاء القارئ الحق في توجيه النص إلى ما يناقض به تأويل آخرين إلى حد مسخه دون أن يقدموا مثالا معقولا لمثل هذا الاختلاف، بدعوى أن للقارئ الحق في فهم النص وتأويله كما يشاء.
وهنا يحق لنا أن نقول أن الكاتب، أيضا، يتحمل المسؤولية في بعث قارئين يجدون في التأويلات المنفلتة متنفسا لكرههم ورفضهم أمرا ما، تصدى له الكاتب برمزية مغلقة، وتهويمات مشتتة تعتيما لأهدافه، ودفعا لأذاه ! ويتمثل هذا الانغلاق المحكَم في السريالية بغرائبيتها في صورها وإشاراتها المضللة ! والنصوص الغارقة برموزها .
لقد انخرط في نهج التأويل المطلق بمستوياته المختلفة العديد من محترفي وهواة التنظير الأدبي، كما احتمى بخيمتهم الكثير من الكتّاب العائمون في أوهامهم وادعاءاتهم المنتفخة، ليحاكوا في ظلها القصيدة في اتساق بنيتها بشعريتها المترنمة بصدقها، وعفويتها، وايحاءاتها المدهشة، فلم يفلحوا، وتلاشت أسرابهم في رياح الإبداع الحقيقي لروح الجمال الطبيعي، وبهاء إحساسه الصادق العميق .
وها أنتم ترون الوردة، ودموع أحزاننا، وأجراس ضحكتنا الصافية ! فلن نحتاج لأي تأويل لها، كما في قول الشاعر (أراغون) في حبيبته (إلزا): (بعد اسمك .. أي اسم أنادي)
لأنها الظاهر والباطن في ما قاله ونفهمه ! ولدى القراء الكثير من النصوص المبدعة التي تتجلى بجمال بساطتها وعمقها وتمثلها دون التباس وعناء، كما نراه في نصوص السهل الممتنع !
ولابد من القول : أن أصالة الشاعر تتمثل بابتكار نص عميق مدهش في وحدة وجمال بنيته، ذلك النص الذي لا يختلف القراء في تقييمه الثمين، لأنه من يملي على القراء معاييره بمستوى معطياته المبدعة في الفكر والروح .
سر الخلود الأدبي-2
السياسة المحدودة بنفعيتها لا تصنع شاعراً، حتى وإن زوّقت أحداً، وجهدت بتسويق كتابته، لإنه بعد حين يركَن في ذاكرة الزمن كشبح كان يوما هنا .
ولو التفتَ المؤرخ الأدبي له، ونفضه من غباره، فلا يجد إلا كلاماً منمقاً باحتراف، ومشحوناً بانفعالات ظرفية ساذجة، أو صائتة بتلفيقاتها المنافقة . وبعكسها النصوص الأدبية التي اجترحت هموم شعبها، وهموم ذاتها في دفاعها عن مبادئها , ومناصرتها الصادقة لعزيمة المناضلين والمقاتلين من أجل حرية شعبهم وقضاياه العادلة .
قد مرت مئات السنين، بل آلافها على المجتمعات البشرية المنظَمَة في جوانب حياتهم، حيث أدرك مبدعوها أهميه العمل في مضاميره المنتجة، وفي آفاق الخيال . فنجم المبدع النبيل الأصيل في سمائنا، وتلاشى المدعون من الذاكرة .
مع هذه الحقيقة الناصعة التي رسختها الحياة بنواميسها الثابتة، ينتفخ إزاءها المتعامون عنها، والذين وضعوا في أفواههم لجام سيدهم طائعين، لتحقيق أهدافه المعيّنة، وحين ينالهم الضعف، ويعجزون، يطلق عليهم رصاصة الرحمة، أو يسرّحهم تائهين .
وتظل النجوم التي تألقت في سماوات إبداعها تنير ليلنا، وتبهج أرواحنا أبد الآبدين، وهم يطلقون حسراتهم عن الحلم الذي يرونه بعيدا عنهم، ويصبون لتحقيقه في القصيدة التي يتمنون كتابتها بعد حين . ومع كل عطائهم، يشعرون بانهم لم يصلوا للقصيدة التي تبرر حب الناس لهم واعجابهم بما أبدعوا، وضديدهم من المتشاعرين يمنحون لأنفسهم الألقاب الذهبية علنا وبلا حياء ! كما يفرش النقاد مناهجهم، ويفتح المنظرون أوراقهم، ليعلنوا عن قدراتهم على اكتشاف ما تخبئه في بواطنها النصوص وفقا لمنهجهم الذي اجترحوه.
فهل ندعو، هنا، المنظّر النابه والناقد اللبيب أن ينأيا عن التمسك المتزمت بالمناهج القارة، والمتجددة التي سرعان ما تقف في حيرة السؤال عن كنه الجمال العظيم في النصوص الحديثة التي تباغتهم بقاماتها الفارعة، أو حين نسألهم عن السر الذي خلد لنا ما احتفظنا به من روائع النصوص قبل آلاف السنين .
لقد درجت مناهج النقد الأدبي في سوحها بأسماء مختلفة كالشكلانية والبنيوية والتحليلية، والانطباعية وغيرها، وهي تتولى قراءة النصوص الإبداعية لتقويمها، ثم تقييمها على مستوى المضمون والشكل متضافرَين معا، أو منفردين، وأحدهما هو محور النص الأساس، أوهو ذاته. وكل منهج منها يمنح لرؤيته السيادة عليها لمعرفته المفترضة بسر العملية الإبداعية في ما يقرأه من النصوص دون مراء !
وقبل أن نبدي انحيازنا للمنهج الذي نراه، هو، الفاتح الكاشف لسر إبداعها، نسأل المريدين والسائرين معهم، هل باستطاعتهم أن يقدموا وصفة جاهزة للمبدع في كتابته، يبقيه حيا مع الخالدين ؟ فإذا ما انبرى أحدهم بقوله : نعم .. أنا ! فسوف تنهض بوجههه النصوص الخالدة التي قدِمت لنا قبل مئات السنين مشعة بإبداعها، فيرتدّون عنها حائرين، ويعيدون النظر في وصفاتهم ليضيفوا لها ما يؤكد صحة رأيهم في مناهجهم السالفة واللاحقة، لعلهم يدعمون بها زعمهم في تمكنهم من الإحاطة بسر إبداعها، ليأخذوا بيد القارئ منتفخين بزعمهم إلى المكمن الأوحد الخفي للحقيقة الخالدة . هذه الحقيقة التي تتجلى لنا بين حقبة وأخرى بإيقاع حراك جديد .
وهنا يمتد عليهم ظل ملحمتنا الخالدة (كلكامش) بدلالات مضامينها التي رسمت تشكلات المجتمعات البسيطة الأولى، وصراعاتها الحادة مع بعضها،في تعارض أحوالها المعاشية، وانعكاساتها عليهم في عاداتهم الملازمة، ونظام سلطتهم، وما يتجلى به وعيهم إزاء حاجاتهم الطبيعية، وغرائهم، وتساؤلاتهم الحائرة عن ظواهر الكون، وخوفهم منها، ومن نهاية وجودهم المحتمة . فوضعوا دستورهم الذي يجب أعتماده في سيرورة حياتهم، وقد اطلعنا على بعض فقراته في حوار صاحبة الحانة (سيدوري) مع (كلكامش) وهوفي طريقه للبحث عن الخلود الذي ما زال يشغلنا .
فمما قالت له: (كل الخبز يا كلكامش، فهو مادة الحياة، واغسل رأسك واستحم، واشرب الجعة، وافرح الزوجة بين أحضانك، ودلل الطفل بين يديك، فهذا نصيب البشر في الحياة) . وطلبت منه العودة إلى حيث كان . فوضعت في حوارها معه بعضا من فقرات الدستورالذي تخللت فقراته سطورَ الملحمة بلغة موحية، بصور شعرية متوثبة بالفن والجمال، لتلهم منظري المناهج النقدية في مراحلها المتعاقبة، ما يزكّون به المنهج النظري والنقدي الأوحد الذي اجترحوه للنص الذي انتقوه بين النصوص . وهم يظنون بأنهم المالكون سر الحقيقة بمناهجهم الضيقة التي لا تتسع إلاّ بأسمائها !
إن ما طرحته، هذه، الخاطرة من رصد وتساؤلات تثير في رحابها سؤالاً أخيراً لها فتقول:
هل أضافت المناهج السابقة واللاحقة شروطاً واضحة لإبداع نص كوني آخر للنصوص العظيمة السابقة، يستلهم حراك الحياة في شرايينها، وملامحها الظاهرة، ويضيف لرؤى الفكر والروح ملامح نابضة أخرى لخلقة نص عظيم، وليس احتراق عود ثقاب، وشمعة ضوء خجول، يداعب الليل قليلاً وينطفي !
وفي حيرتنا هنا، هل لنا أن نقول : إن إبداع الشاعر يكمن في موقفه الفكري إزاء ما يواجهه في وجوده، وفي زاوية نظره إلى ما يراه فيه؟ ولكل إنسان جيناته وبصمته منذ وعْينا في هذا الوجود.
ناهض الخيّاط