معدان الأهوار من الإسكندر المقدوني حتى مدافع الحرب
2020/08/12
نعيم عبد
مهلهل
(( المعدان جمع (معَيدي ) والمعيدي غير المُعيدي
وهو طائر جميل الصوت قبيح الصورة ومن هنا جاء في أمثال
العرب قولهم (أن تسمع بالمعُيدي خير ٌ من أن
تراه)..هذا يعني أن هذا المثل المتداول بين الناس
والهدف منه الانتقاص من قيمة المعيدي هو لا يعنى فيه
المعيدي كإنسان وأصل ونسب بل يقصد فيها هذا الطائر
المسمى المعيدي ))..على هدي هذه الحكاية وهذا المعنى
، حاولت أن أعيد تكوين صيرورة هؤلاء الناس من خلال إحساس
خاص اعتمد ليس فقط على ذاكرة التاريخ ،بل إن المعايشة
والتجربة والمراقبة والبحث صنعت لدي كل تلك التصورات
التي خلفتها برؤيا هي في تقديري عمل أدبي قبل أن
تكون دراسة لتاريخ شعب ظل على مدى عقود يمسك أحلامه من
خلال إحساسه بان الله خلقه لهذا المكان فقط.
فقد قدر لي أن أعيش معهم ردحا من الزمن في فترة عصيبة
من حياتهم ، وما أكثر قسوة التاريخ على شعب يدرك فقط
أنه شعب آت من حضارته البعيدة التي منحت العالم رسم الحرف
ومعنى الكلمة ، وهم الشعب الوحيد في الكون من جعل
الجواميس خيول معاركه وليس جياد الحرب التي ركبها قتيبة
بن مسلم الباهلي وذهب بها الى سمر قند.وكنت دائما أضع
قضاء الجبايش وهو واحد من أهم مدن الأهوار في مشابهة
جمالية وروحية مع سمرقند المدينة الأوزبكية التي
سحرت القائد المغولي جنكيزخان ، وظنها مفتاح الولوج
الى العالم الجديد وامتلاكه ، عندما همس لقادته : إذا
كنتم تحلمون ببغداد ، فعليكم أولاً بسمرقند. وتأمل
الى وصف المؤرخ المغولي وحاكم بغداد بعد هولاكو عطا الملك
الجويني في وصف المدينة يغنينا عن أي وصف آخر لها
قولــه :
((سمرقند أعظم بقاع مملكة السلطان مساحة وأطيبها ربوعاً
، وقديماً قالوا : أنزه جنان الله أربع ،
وسمرقند أطيبها)).
صناعة المدن والأمكنة المتشابهة أمر ليس بسهل . إيتاليو
كالفينو صاحب اشهر كتاب عن المدن المتخيلة يقول : عن
صناعة مدينة مفترضة لواحدة كموجة في الواقع لابد أن
ينال الكثير من الاسطرة .
وعليه فان جلب سمرقـند الى الجبايش يعني مفارقة
غريبة ،فمن جاء بالأوزبك الى مدينة بني أسد وقرى
المعدان الذين يطوفون بأخيلة الماء والنجوم كما تطوف
الغيوم في كبد السماء ،فيما سمرقند لا تطوف فيها سوى
زرقة الكاشان الذي يزين مآذنها وذاكرة تاريخ الأوزبك وهم
يحلمون بالشرق الذي يرقد فيه أمام مذهبهم أبو حنيفة
النعمان وبيت الله في نجد.
لهذا أتخيل أن سمرقند ثانية تطوف في أرجاء مكان تصبغهُ
من كل جهاته اضويه اللازورد الأخضر وكتابات تتحدث عن سحر
غامض لكنوز وامكنة كانت في يوم ما احدى اجمل أحلام
الاسكندر الكبير. الذي غفت على كتفه الكثير من الأساطير
ومنها ما كان يظنها هو أن جنوب بابل التي وصل إليها
بخيول الرومان والإغريق والمقدونيين لعصية عليه بسبب أقوام
البطائح والمياه المحصورة بين ضفتي دجلة والفرات ،وحتما
كان يقصد المعدان.
ويبدو أن تصوير الشاعر الفارسي نظامي الكنجوي
للأسكندر في قصيدته الشعرية النثرية والموسومة )
إسكندر نامه ( الطويلة التي تحدث فيها عن مراحل حياة
الإسكندر في صورتيه المفترضين ،تلك التي دونها
التاريخ عنه بأسم الإسكندر المقدوني ،وتلك التي جاء
ذكرها في القرآن الكريم بأسم الإسكندر ذي القرنين بعد
أن سئل عنه الرسول من قبل قريش وبإيعاز من أحبار اليهود .
وفي نهاية فصولها الحكاية التالية عن الإسكندر وفيها ما
اعتقده ربطا بالمكان واهله وخصوصيته قول الشاعر الفارسي
الكنجوي :
(( ثم علم الإسكندر إنه وصل الى الأرض الظلام حيث يوجد
ماء الحياة ، فأقترب من المنطقة ،وقابل الخضر ،
فسار معه في الظلام وأخذا يفتشان عن ماء الحياة ،
فعثر الخضر على عين ماء وشرب منها ، أما الإسكندر فقد
تاه عنها وظل الطريق ، وظل يبحث عنها أربعين يوما
فلم يعثر عليها ،فقفل راجعا الى بلاد اليونان))
في تناص بنيوي تظهر هذه الحكاية ملائمة مع خصوصية
المكان الذي عاش فيه عرب الأهوار ، حيث المكان ذاته
الذي انطلق منه جلجامش للبحث عن خلود مفترض وصف بعدة
أشكال ( تفاحة الحياة ،ماء الحياة ،عشب الحياة ،
شجرة الحياة )، وربما يأتي شيئ من الربط في
حكاية الشاعر الفارسي إن ثمة مكانا مقدسا يقع في
الطريق الواصل بين مدينة الإصلاح ومدينة الفهود ضمن محافظة
ذي قار .وناحية الفهود من أشهر مدن الأهوار
التي يسكنها المعدان منذ البعيد تحوي مقاما يقدسه
الناس ويزورونه في مواسم معينة يسمى مقام (الخضر حي
الدارين ).
وربما هذا التناص في رؤاه البنيوية يقودنا الى تفكير
آخر في علاقة الإسكندر في المكان الذي سكنه أهل سومر
وهم سكان الأهوار القدماء وصانعو عصرها المجيد في
سلالاتها الثلاث ، يقودنا الى شخصية الإسكندر ذي
القرنين الذي ذكر في سورة الكهف وفي هذه الآية
يصنع التناص وتقترب شيئا من الصورة عن المكان وخصوصيته
، فالإسكندر ربما وصل المكان وله مع المعدان جولات
بالرغم من إن التاريخ لا يتحدث في هذا الأمر سوى ما
تركته لنا رؤية أحد قادته الذين أرسلهم لاكتشاف المكان
والسيطرة عليه وهذا القائد هو نيرخس. والآية الكريمة
التي تحدث عندنا تلك المقاربة أو الظن هي (( وأما من
آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى ، وسنقول له من
أمرنا يسرا ( 88 ) ثم أتبع سببا ( 89 ) حتى إذا بلغ
مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم تجعل لهم من دونها
ســــــــــــــترا 90 )).
أدركت أخيراً لماذا تكون عصا المعيدي غليظة ؟ من خلال
جواب أحدهم لي : حجم العصا يجب أن يكون بمستوى حجم
الحيوان ومزاجه ، وهو يظن أن مزاج الجاموس ليس رائقا
في كثير من الأحيان ، فهو يحتاج الى عصا غليظة
تسوسه ، بينما لا يحتاج راعي الغنم في المجتمعات
الريفية الأخرى سوى الى عصا نحيفة يحولها في بعض
الأحيان الى ناي عذب ليقود فيها قطيعة. ويبدو إن الدولة
انتبهت الى عصا المعيدي واستفادت من خصوصيتها واستخدمتها
ضدهم عندما ، كانت سياسة العصا الغليظة هي ما مورست
على سكان تلك المناطق وسعي من خلالها تغيير ملامح الطبيعة
وانقراضها من خلال منع المياه من الوصول الى تلك المنخفضات
وإقامة السدود عبر جهد هندسي كبير.
يبدو مصطلح حلاقة القصب ، غريبا ،ولكن في مزاج
الساسة وتصرفات الولاة لا يبدو الأمر غريبا ، فإن
المناجل تحولت الى مقصات لتلك الضفائر القصبية التي ظلت
منسدلة على جبين التاريخ وأكتافه آلاف السنين ثم جاء الأمر
الرئاسي بضرورة تحويل تلك المناطق الى مناطق يابسة لأن
أمن الوطن أهم من الأمن الطبيعي.وتلك معادلة لايمكن أن
تضع في قواميس السياسة أصلا ربما لأن الطبيعة هي أم
الوطن وأم الإنسان والوطن بلا طبيعة لها خصوصيتها لن يكون
وطنا أبداً.
بين العصا الغليظة وحلاقة القصب عاش المعدان زمن المنفى
الجديد. وهو حتماً زمن عصيب أدرك من خلاله المعدان أن
اندماجهم في المجتمعات الجديدة يبدو مستحيلا ، وان
بهجة المدن لا تلتقي مع دمعة الجوع والعوز ، لهذا
كانت غربته ترتسم على حياتهم من خلال إصرارهم على إبقاء
جزء من خصوصية العيش الذي كان يلف بهجة حياتهم في
الأهوار ، عندما حاول بعضهم من تأسيس مجمع سكني صغير
لهم يمارسون فيه تربية الجاموس والامتهان من منتجه من
خلال بيع القيمر والحليب فتكونت أحياء تحمل مسمياتهم هي
أصلا كانت موجودة قبل التجفيف ولكنها توسعت بعد أن هاجر
الكثير من أبناء الأهوار إليها ، فاضطرت الدولة أن
تنقلهم مع دوابهم الى مناطق ابعد عن الحدود الإدارية لمراكز
المدن كما في حي المعدان في مدنية الناصرية ومنطقة
الكمالية في بغداد وغيرها من المدن. والمهم في نظرتهم
الى المكان الجديد أن يكون قريبا من منابع المياه ومجرى
النهر ،فقد كان الماء بالنسبة للمعيدي الملاذ الوحيد
لكل أحلامه ،وهو يلتقي مع المندائيين في نظرتهم
الطقوسية والمقدسة للماء فهو حياتهم ،ومن دونه لا
يستطيع المعيدي أن يهنئ في لحظة واحدة. فالعالم
بالنسبة له ظهيرة دافئة يتأمل فيها قطعانه وهي تقضي
قيلولة المتعة في الماء وتحت أشعة الشمس.
ربما لم ينبه أحدهم الى التشابه الكبير بين عصا جلجامش
المتخيلة من حكايته الأسطورية في رحلته العجيبة وبين عصا
المعيدي.
ولأن الجواميس ليست خمبابا ابتكر أحفاد ملك أوروك هذه العصا
ليلوحوا بها فقط أمام قطعانهم ليرهبوها ، فقد لا يجرؤ
معيدي على ضرب دابته بتلك العصا لأنه يدرك بان الحنان
الذي تحتاجه الجواميس ينبغي أن تراه مرسوما في حشد
المواويل والأغنيات التي يطلقها المعدان وهم يعودون
بقطعانهم من مراعي الماء والقصب أملين بأواني وفيرة من
حليب دسم يطعمون به أطفالهم ويذهبون بالباقي الى المدن
القريبة ،حيث يدرك العراقي إن لا لذة وطعم يفوقان
قيمر جاموسة المعيدي ،وحيث لا سحر يفوق تلك المشية
الجميلة التي تتهادى فيها بنات المعدان وهن يحملن فوق
رؤوسهم ناطحات سحاب من قدور الحليب والقيمر واللبن الخاثر.
لكن الفرق شاسع بين عصا الملك السومري وبين عصا المعيدي
بالرغم من انهما بحجم متساو ومن شجرة واحدة ، يتخيلها
البعض أنها من شجرة السدر حتماً ، وهي ذاتها التي
صنع منها آدم ع أول عصا ردع ليعاقب الأخ على قتل
أخيه ،فيكون هاجس الانسياق بالعصا هو هاجس متوارث ،
حتى وصل أخيراً الى معلم المدرسة ليعاقب فيها تلميذه
والى الشرطي ليعاقب فيها المتظاهر المحتـــج.
|
|