من وحي‮ ‬كورونا.. قراءة في‮ ‬فكر المؤرّخ أرنولد توينبي

2020/08/09

‬نظريّة التحدّي‮ ‬والاستجابة‮ ‬
التاريخ بأوسع معانيه هو قصّة ماضي‮ ‬الإنسان‮ ‬،‮ ‬أو هو عرض منظّم مكتوب للأحداث وخاصة تلك التي‮ ‬تؤثّر في‮ ‬أمّة،‮ ‬أو نظام‮ ‬،‮ ‬أو علم‮ ‬،‮ ‬أو فنّ‮ . ‬وتستعمل كلمة‮  ‬تأريخ‮  ‬في‮ ‬بعض اللغات الحيّة‮ ‬غير العربيّة للتعبير عن الجهد المبذول لمعرفة ماضي‮ ‬البشريّة‮ ‬،‮ ‬وقد أشار جوزيف هورس في‮ ‬كتابه‮  ‬قيمة التأريخ‮  ‬إلى أنّ‮ ‬جذر كلمة‮   ‬Histoire   يدلّ‮ ‬على الرؤية والشهادة‮ ‬،‮ ‬فالمؤرّخ هو الذي‮ ‬رأى أو قام شاهدًا‮ . ‬ولأهميّة القراءة الواعية في‮ ‬اكتشاف روح النصوص التاريخيّة أشار العلّامة‮  ‬ابن خلدون المتوفّى سنة‮  ‬808هـ‮  ‬،‮ ‬والذي‮ ‬يُعدّ‮ ‬بحق المؤسّس الأول لفلسفة التأريخ‮ ‬،‮ ‬في‮ ‬مقدّمته الشهيرة‮ ‬،‮ ‬بأنّ‮ ‬للتأريخ ظاهر وباطن وأنّ‮ ‬الفائدة الكبرى في‮ ‬باطنه‮ ‬،‮ ‬فالتأريخ‮  ‬في‮ ‬ظاهره لا‮ ‬يزيد على إخبار عن الأيّام والدول‮ ‬،‮ ... ‬،‮ ‬وفي‮ ‬باطنه نظر وتحقيق‮ ‬،‮ ‬وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق‮ ‬،‮ ‬وعلم بكيفيّات الوقائع وأسبابها عميق‮ . ‬
فولتير وفلسفة التأريخ
وبظهور الفيلسوف الفرنسي‮ ‬فولتير‮  ‬1694 ـــ‮ ‬1778  ودعوته إلى استخدام العقل من أجل دراسة التأريخ وفقًا لمنطق الفلسفة‮ ‬،‮ ‬ووضعه لمصطلح‮  ‬فلسفة التأريخ‮  ‬،‮ ‬وشروعه بدراسة تاريخ العالم والمجتمعات وفق المنهج العقلاني‮ ‬ـــ الحضاري‮ ‬،‮ ‬كمحاولة لمعرفة العوامل الأساسيّة التي‮ ‬تتحكّم في‮ ‬سير الوقائع التأريخيّة والعمل على استنباط القوانين العامة الثابتة التي‮ ‬تتطوّر بموجبها الأمم والدول على مرّ‮ ‬القرون والأجيال‮  ‬،‮ ‬عنى المؤرّخون من بعده بالكشف عن المصادر القديمة وفحصها وتدقيقها‮ ‬،‮ ‬ودراستها بعين فاحصة‮ . ‬وفي‮ ‬أخريات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين‮ ‬،‮ ‬وبعد تطوّر علوم اللغة والاقتصاد والجغرافيّة والاجتماع والآثار والنميّات والمسكوكات وعلم النفس‮  ‬،‮ ‬أفاد المؤرّخون منها فائدة كبيرة‮ ‬،‮ ‬وجاءوا بأفكار جديدة لكتابة التأريخ‮ ‬،‮ ‬ومن هؤلاء كان المؤرّخ البريطاني‮ ‬أرنولد توينبي‮ ‬صاحب نظريّة التحدّي‮ ‬والاستجابة وقانون الوسط الذهبي‮ . ‬
الدراسة التأريخيّة الحقّة
لقد رأى المؤرّخ وعالم الاجتماع أرنولد جوزيف توينبي‮  ‬1889 ـــ‮ ‬1975  وهو من أبرز ممثّلي‮ ‬فلسفة التأريخ التأمّليّة‮ ‬،‮ ‬أنّ‮ ‬مدار الدراسة التأريخيّة الحقّة ليست هي‮ ‬دراسة تأريخ أمّة بعينها أو عصر بذاته‮ ‬،‮ ‬بل إنّ‮ ‬البحث‮ ‬يجب أن‮ ‬ينصب على تأريخ كلّ‮ ‬المجتمعات والحضارات مجتمعة‮ ‬،‮ ‬فالتطوّر‮  ‬الذي‮ ‬حدث في‮ ‬خلال بضعة قرون الأخيرة‮ ‬،‮ ‬وبصفة خاصّة في‮ ‬خلال الأجيال القليلة الفارطة‮ ‬،‮ ‬نحو وجود الدول القويّة المكتملة السيادة العاملة على الاستكفاء بذواتها‮ ‬،‮ ‬قد حمل المؤرّخين على أن‮ ‬يتّخذوا من الأمم ميدانهم المألوف للدراسة التأريخيّة‮ . ‬غير أنّنا لن نقع على أمّة بمفردها‮ ‬،‮ ‬أو على دولة قوميّة في‮ ‬أوروبا‮ ‬،‮ ‬تطلعنا على تأريخ‮ ‬يمكن أن‮ ‬يقوم مفسّرًا لنفسه بنفسه‮ . ‬ثمّ‮ ‬فرّق بين مصطلحي‮  ‬الحضارة‮  ‬و‮  ‬الثقافة‮  ‬،‮ ‬بأن خصّ‮ ‬كلمة حضارة بالدلالة على ابتكارات اجتماعيّة ذات قدر من الاتّساع‮ . ‬فالحضارة مجموعة ثقافات تتحوّل باجتماعها إلى‮  ‬ثقافات كبرى‮  ‬التي‮ ‬هي‮ ‬الحضارات‮ ‬،‮ ‬فأفريقيا السوداء عنده عرفت ثقافات لكنها لم تعرف حضارات‮ ‬،‮ ‬وبهذا‮ ‬يمكن القول بوجود حضارة صينيّة‮  ‬لكن لا توجد سوى ثقافة لدى الأسكيمو‮ . ‬
‮  ‬اكتشافات توينبي‮ ‬
وبعد جهود مضنية في‮ ‬التطواف في‮ ‬كثير من بلدان العالم‮ ‬،‮ ‬وفي‮ ‬البحث والتنقيب في‮ ‬كتب التأريخ الكلاسيكيّة‮ ‬،‮ ‬والكتب المقدّسة‮ ‬،‮ ‬وكتب الآثار‮ ‬،‮ ‬والنماذج الأوليّة للأساطير التي‮ ‬تصوّر أصل الجماعة‮ ‬،‮ ‬أو أصل العالم بوجه عام‮ ‬،‮ ‬وعلم الانثربولوجي‮ ‬،‮ ‬اهتدى توينبي‮ ‬إلى عدّة عوامل مشتركة أسهمت في‮ ‬تشخيص أزمة الحضارة‮ ‬،‮ ‬أيّ‮ ‬حضارة‮ ‬،‮ ‬والحضاة الغربيّة تحديدًا‮ ‬،‮ ‬ولعلّ‮ ‬أول تلك العوامل هو قوله أنّ‮  ‬السهولة عدوّة الحضارات‮  ‬،‮ ‬وأنّ‮ ‬الحافز نحو الحضارة تزداد قوّته فعلًا كلّما ازدادت البيئة صعوبة‮ ‬،‮ ‬بلا تفريق بين البيئة الطبيعيّة أو البشريّة‮ ‬،‮ ‬وقد قاده هذا الاكتشاف إلى سنّ‮ ‬قانون اجتماعي‮ ‬يمكن التعبير عنه في‮ ‬العبارة‮  ‬كلّما عظم التحدّي‮ ‬اشتدّ‮ ‬الحافز للحضارة‮  . ‬
أمّا الاكتشاف الثاني‮ ‬فهو أنّ‮  ‬بدء الحضارات لم‮ ‬يكن نتيجة العوامل البيولوجيّة أو البيئة الجغرافيّة‮ ‬،‮ ‬كلّ‮ ‬تعمل بمفردها،‮ ‬فلا ريب أنّه نتيجة نوع ما من التفاعل بينها جميعًا‮  ‬،‮ ‬واستنبط مجموعة حوافز لولادة الحضارات حدّدها بخمسة أنواع وهي‮ ‬باختصار شديد‮ :  ‬حافز الاستيطان في‮ ‬أرض جديدة كما حدث مع حضارتي‮ ‬وادي‮ ‬النيل والحضارة السومريّة‮ ‬،‮ ‬والثاني‮ : ‬حافز المواقع الطبيعيّة الشاقّة والذي‮ ‬ربّما تحوّل من تحدّي‮ ‬إلى نجدة كما حدث مع مدينة البندقيّة وهولندا‮ ‬،‮ ‬والثالث‮ : ‬الحافز الناتج عن الضربات وهو خاص بميدان البيئات البشريّة وتنقسم إلى ضربة خارجيّة من دولة مجاورة أو مجتمع مجاور‮ ‬،‮ ‬وضربة داخليّة تشمل تأثير طبقة اجتماعيّة في‮ ‬أخرى تشترك معها في‮ ‬استملاك نفس المنطقة‮ ‬،‮ ‬والرابع‮ : ‬حافز الضغوط الخارجيّة المتواصلة ويقع في‮ ‬معظم الحالات على شعوب ومدن وولايات التخوم أو الحدود‮ ‬،‮ ‬وأخيرًا حافز النقم التي‮ ‬تقع على أيّ‮ ‬كيان اجتماعي‮ ‬فتقيّد حريّته وتحرمه من مزاولة أوجه نشاطها‮ ‬،‮ ‬فتركّز على الإبداع لإثبات وجودها في‮ ‬ميادين أخرى وتتفوّق‮  . ‬
مع الالتفات إلى نقطة مهمّة أكّد عليها المؤرّخ توينبي‮ ‬وهي‮ ‬أنّ‮ ‬التماثل لنشوء حضارتين لا‮ ‬يؤدّي‮ ‬بالضرورة إلى تماثل النتائج‮ ‬،‮ ‬وقد استشهد بالحضارتين المصريّة والسومريّة‮ ‬،‮ ‬فبالرغم من اعتباره جفاف أفراسيا تحدّيًا‮ ‬،‮ ‬كانت الاستجابة لهذا التحدّي‮ ‬هي‮ ‬بدء هاتين الحضارتين‮ ‬،‮ ‬فقد استطاع إنسان هاتين الحضارتين أن‮ ‬يُخضع لإرادته الطبيعة فاختفت مستنقعات الأدغال وحلّت محلّها مجموعة منسّقة من القنوات والمدرّجات والحقول, أمّا بالنسبة للسمات الروحيّة للحضارتين اللتين انبعثتا عنهما،‮ ‬ودينهما،‮ ‬وكذلك حياتهما الاجتماعيّة،‮ ‬فإنّ‮ ‬التماثل لا‮ ‬يكاد‮ ‬يُذكر‮.    ‬
‮   ‬الملهم كارل‮ ‬يونغ‮  ‬
لقد استلهم توينبي‮ ‬نظريّته في‮ ‬ولادة وموت الحضارات والتي‮ ‬سمّاها‮  ‬التحدّي‮ ‬والاستجابة‮  ‬وأقام عليها فلسفته في‮ ‬التأريخ‮ ‬،‮ ‬من علم النفس السلوكي‮ ‬،‮ ‬وعلى وجه الخصوص من عالم النفس السويسري‮ ‬المشهور كارل‮ ‬غوستاف‮ ‬يونغ‮  ‬1857 ـــ‮ ‬1961  في‮ ‬نظريّته في‮ ‬الانبساط والانطواء‮ ‬،‮ ‬التي‮ ‬يقول فيها أنّ‮ ‬الفرد الذي‮ ‬يعرّض لصدمة قد‮ ‬يفقد توازنه لمدّة ما،‮ ‬ثمّ‮ ‬يستجيب لها بنوعين من الاستجابة‮ : ‬استجابة سلبيّة‮ ‬،‮ ‬وهي‮ ‬النكوص إلى الماضي‮ ‬لاستعادته والتمسّك به تعويضًا عن واقعه المُر‮ ‬،‮ ‬فيصبح انطوائيًّا‮ . ‬واستجابة ايجابيّة‮ ‬،‮ ‬وهي‮ ‬تقبّل الصدمة والاعتراف بها‮ ‬،‮ ‬ثمّ‮ ‬محاولة التغلّب عليها‮ ‬،‮ ‬فيكون في‮ ‬هذه الحالة انبساطيًّا‮ ‬،‮ ‬وهو ما أطلق عليه توينبي‮ ‬الوسيلة الذهبيّة أو الحل النموذجي‮ . ‬وعلى ضوء هذا الفهم تعامل مع الحضارات‮ ‬،‮ ‬فولادة الحضارات نتيجة استجابة لتحدّ‮  ‬صدمة‮  ‬صادرة أمّا عن البيئة الماديّة‮ ‬،‮ ‬وأمّا عن الوسط البشري‮ ‬،‮ ‬أو عن كليهما‮ ‬،‮ ‬في‮ ‬ظلّ‮ ‬زعامة أقلّيات مبدعة‮  ‬مقاومة الصدمة‮  ‬،‮ ‬وتنهار الحضارات وقتما تعجز المجتمعات عن إبراز استجابة إبداعيّة تقوم بها أقليّتها المبدعة‮ ‬،‮ ‬ويتطوّر الحال بهذه الأقليّة ـــ بعد إصابتها بالعقم والقصور ـــ إلى التحوّل إلى مجرّد أقليّة مسيطرة ديكتاتوريّة لا همّ‮ ‬لها إلّا المحافظة على مكتسباتها‮ ‬،‮ ‬ممّا‮ ‬يدفع الأغلبيّة إلى مقاومة الصدمة‮ ‬،‮ ‬وبتعدّد التحدّيات تتعدّد الاستجابات ومحاولات المقاومة‮ ‬،‮ ‬إلى حين الوصول إلى الحلّ‮ ‬النموذجي‮ ‬أو اليأس والتدهور‮ .  ‬
مفاهيم إنسانيّة‮ ‬
ونتيجة لهذا الفهم‮  ‬التحدّي‮ ‬والاستجابة‮  ‬قسّم توينبي‮ ‬المجتمعات والحضارات بحسب استجابتها إلى واحد وعشرين حضارة‮ ‬،‮ ‬خمس عشرة منها تتّصل بصلات البنوّة بحضارات سابقة عليها‮ ‬،‮ ‬وست حضارات فقط انبعثت مباشرة من الحياة البدائيّة‮  ‬وتلك الحضارات هي‮ :  ‬المصريّة‮ ‬،‮ ‬والسومريّة‮ ‬،‮ ‬والمينويّة‮ ‬،‮ ‬والصينيّة‮ ‬،‮ ‬والمايانيّة‮ ‬،‮ ‬والانديانيّة‮  . ‬وقام بإجراء بحوث مقارنة لهذه المجتمعات الحضارات‮ ‬،‮ ‬فاستبعد فكرة‮  ‬أوربة الحضارة‮  ‬وأنّ‮ ‬أوروبا هي‮ ‬مركز الإشعاع الفكري‮ ‬في‮ ‬العالم ومنذ أقدم العصور‮ ‬،‮ ‬التي‮ ‬روّج لها بعض العلماء الإنكليز الذين اهتمّوا بدراسة الأجناس البشريّة‮ ‬،‮ ‬والدراسة المقارنة للشعوب البدائيّة‮ . ‬كما وقف في‮ ‬طليعة المفكّرين الأوروبيين الذين صاروا‮ ‬يصدفون عن فكرة‮  ‬المركزيّة الأوروبيّة‮  ‬وهي‮ ‬نزوع أوروبا إلى عدّ‮ ‬نفسها مجموعة مرجعيّة لبقيّة المجموعات البشريّة‮ ‬،‮ ‬بل للعالم بأسره‮ ‬،‮ ‬كما حمل على الحماقات القائلة بعدم تكافؤ الأجناس البشريّة‮  ‬لأنّ‮ ‬جميع العروق ـــ من وجهة نظره ـــ مؤهّلة للحضارة‮ ‬،‮ ‬فالقول بتفوّق الجنس الأبيض بفروعه الثلاثة‮  ‬النوردي‮ ‬والألبيني‮ ‬والأيبيري‮  ‬،‮ ‬وفكرة امتياز العنصر الجرماني‮ ‬التي‮ ‬روّج لها‮  ‬الفريد روزنبرغ‮  ‬وأقرّها أدولف هتلر‮ ‬،‮ ‬حديث خرافة‮ .‬
أخيرًا،‮ ‬وبعد هذه السياحة الفكريّة العجلى في‮ ‬التعريف بنظريّة‮  ‬التحدّي‮ ‬والاستجابة‮  ‬التوينبيّة‮ ‬،‮ ‬وفكرة الوسط الذهبي،‮ ‬هل‮ ‬يتعلّق هذا الكلام من قريب أو من بعيد بموقفنا من تحدّي‮ ‬الهجمة الفايروسيّة‮  ‬كورونا‮  ‬التي‮ ‬اجتاحت العالم بين ليلة وضحاها‮ ‬،‮ ‬فعطّلت جميع مرافق الحياة‮ ‬،‮ ‬ومستلزماتها‮ ‬،‮ ‬وأغلقت المطارات والموانئ والطرق البريّة‮ ‬،‮ ‬وأوقفت مفعول السلاح‮ ‬،‮ ‬وقتلت ما قتلت بصورة مباشرة بالإصابة أو بصورة‮ ‬غير مباشرة كالرعب مثلًا‮ ‬،‮ ‬وهل أنّ‮ ‬العالم بعد تحدّي‮ ‬كورونا سيبقى نفس العالم الذي‮ ‬كان قبل هذا التحدّي‮ ‬؟
أخترنا لك
روشيل يحتفل بالدوري البرازيلي بعد النجاة بـ 4 سنوات من كارثة جوية

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة