نظريّة
التحدّي والاستجابة
التاريخ بأوسع معانيه هو قصّة ماضي الإنسان ، أو هو عرض منظّم
مكتوب للأحداث وخاصة تلك التي تؤثّر في أمّة، أو نظام ، أو
علم ، أو فنّ . وتستعمل كلمة تأريخ في بعض
اللغات الحيّة غير العربيّة للتعبير عن الجهد المبذول لمعرفة ماضي
البشريّة ، وقد أشار جوزيف هورس في كتابه قيمة
التأريخ إلى أنّ جذر كلمة Histoire يدلّ
على الرؤية والشهادة ، فالمؤرّخ هو الذي رأى أو قام شاهدًا .
ولأهميّة القراءة الواعية في اكتشاف روح النصوص التاريخيّة أشار
العلّامة ابن خلدون المتوفّى سنة 808هـ ،
والذي يُعدّ بحق المؤسّس الأول لفلسفة التأريخ ، في
مقدّمته الشهيرة ، بأنّ للتأريخ ظاهر وباطن وأنّ الفائدة
الكبرى في باطنه ، فالتأريخ في ظاهره لا يزيد على
إخبار عن الأيّام والدول ، ... ، وفي باطنه نظر وتحقيق ،
وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق ، وعلم بكيفيّات الوقائع وأسبابها
عميق .
فولتير وفلسفة التأريخ
وبظهور الفيلسوف الفرنسي فولتير 1694 ـــ 1778
ودعوته إلى استخدام العقل من أجل دراسة التأريخ وفقًا لمنطق
الفلسفة ، ووضعه لمصطلح فلسفة التأريخ ، وشروعه
بدراسة تاريخ العالم والمجتمعات وفق المنهج العقلاني ـــ الحضاري
، كمحاولة لمعرفة العوامل الأساسيّة التي تتحكّم في سير
الوقائع التأريخيّة والعمل على استنباط القوانين العامة الثابتة التي
تتطوّر بموجبها الأمم والدول على مرّ القرون والأجيال ،
عنى المؤرّخون من بعده بالكشف عن المصادر القديمة وفحصها وتدقيقها
، ودراستها بعين فاحصة . وفي أخريات القرن التاسع عشر وبدايات
القرن العشرين ، وبعد تطوّر علوم اللغة والاقتصاد والجغرافيّة
والاجتماع والآثار والنميّات والمسكوكات وعلم النفس ، أفاد
المؤرّخون منها فائدة كبيرة ، وجاءوا بأفكار جديدة لكتابة
التأريخ ، ومن هؤلاء كان المؤرّخ البريطاني أرنولد توينبي
صاحب نظريّة التحدّي والاستجابة وقانون الوسط الذهبي .
الدراسة التأريخيّة الحقّة
لقد رأى المؤرّخ وعالم الاجتماع أرنولد جوزيف توينبي 1889
ـــ 1975 وهو من أبرز ممثّلي فلسفة التأريخ التأمّليّة ،
أنّ مدار الدراسة التأريخيّة الحقّة ليست هي دراسة تأريخ أمّة
بعينها أو عصر بذاته ، بل إنّ البحث يجب أن ينصب على تأريخ
كلّ المجتمعات والحضارات مجتمعة ، فالتطوّر الذي حدث
في خلال بضعة قرون الأخيرة ، وبصفة خاصّة في خلال الأجيال
القليلة الفارطة ، نحو وجود الدول القويّة المكتملة السيادة
العاملة على الاستكفاء بذواتها ، قد حمل المؤرّخين على أن
يتّخذوا من الأمم ميدانهم المألوف للدراسة التأريخيّة . غير أنّنا
لن نقع على أمّة بمفردها ، أو على دولة قوميّة في أوروبا ،
تطلعنا على تأريخ يمكن أن يقوم مفسّرًا لنفسه بنفسه . ثمّ
فرّق بين مصطلحي الحضارة و الثقافة
، بأن خصّ كلمة حضارة بالدلالة على ابتكارات اجتماعيّة ذات
قدر من الاتّساع . فالحضارة مجموعة ثقافات تتحوّل باجتماعها إلى
ثقافات كبرى التي هي الحضارات ، فأفريقيا
السوداء عنده عرفت ثقافات لكنها لم تعرف حضارات ، وبهذا يمكن
القول بوجود حضارة صينيّة لكن لا توجد سوى ثقافة لدى
الأسكيمو .
اكتشافات توينبي
وبعد جهود مضنية في التطواف في كثير من بلدان العالم ، وفي
البحث والتنقيب في كتب التأريخ الكلاسيكيّة ، والكتب المقدّسة
، وكتب الآثار ، والنماذج الأوليّة للأساطير التي تصوّر أصل
الجماعة ، أو أصل العالم بوجه عام ، وعلم الانثربولوجي ،
اهتدى توينبي إلى عدّة عوامل مشتركة أسهمت في تشخيص أزمة
الحضارة ، أيّ حضارة ، والحضاة الغربيّة تحديدًا ،
ولعلّ أول تلك العوامل هو قوله أنّ السهولة عدوّة
الحضارات ، وأنّ الحافز نحو الحضارة تزداد قوّته فعلًا
كلّما ازدادت البيئة صعوبة ، بلا تفريق بين البيئة الطبيعيّة أو
البشريّة ، وقد قاده هذا الاكتشاف إلى سنّ قانون اجتماعي يمكن
التعبير عنه في العبارة كلّما عظم التحدّي اشتدّ الحافز
للحضارة .
أمّا الاكتشاف الثاني فهو أنّ بدء الحضارات لم يكن نتيجة
العوامل البيولوجيّة أو البيئة الجغرافيّة ، كلّ تعمل بمفردها،
فلا ريب أنّه نتيجة نوع ما من التفاعل بينها جميعًا ،
واستنبط مجموعة حوافز لولادة الحضارات حدّدها بخمسة أنواع وهي
باختصار شديد : حافز الاستيطان في أرض جديدة كما حدث مع
حضارتي وادي النيل والحضارة السومريّة ، والثاني : حافز
المواقع الطبيعيّة الشاقّة والذي ربّما تحوّل من تحدّي إلى نجدة
كما حدث مع مدينة البندقيّة وهولندا ، والثالث : الحافز الناتج
عن الضربات وهو خاص بميدان البيئات البشريّة وتنقسم إلى ضربة خارجيّة
من دولة مجاورة أو مجتمع مجاور ، وضربة داخليّة تشمل تأثير طبقة
اجتماعيّة في أخرى تشترك معها في استملاك نفس المنطقة ،
والرابع : حافز الضغوط الخارجيّة المتواصلة ويقع في معظم الحالات
على شعوب ومدن وولايات التخوم أو الحدود ، وأخيرًا حافز النقم
التي تقع على أيّ كيان اجتماعي فتقيّد حريّته وتحرمه من مزاولة
أوجه نشاطها ، فتركّز على الإبداع لإثبات وجودها في ميادين أخرى
وتتفوّق .
مع الالتفات إلى نقطة مهمّة أكّد عليها المؤرّخ توينبي وهي أنّ
التماثل لنشوء حضارتين لا يؤدّي بالضرورة إلى تماثل النتائج ،
وقد استشهد بالحضارتين المصريّة والسومريّة ، فبالرغم من اعتباره
جفاف أفراسيا تحدّيًا ، كانت الاستجابة لهذا التحدّي هي بدء
هاتين الحضارتين ، فقد استطاع إنسان هاتين الحضارتين أن يُخضع
لإرادته الطبيعة فاختفت مستنقعات الأدغال وحلّت محلّها مجموعة منسّقة
من القنوات والمدرّجات والحقول, أمّا بالنسبة للسمات الروحيّة
للحضارتين اللتين انبعثتا عنهما، ودينهما، وكذلك حياتهما
الاجتماعيّة، فإنّ التماثل لا يكاد يُذكر.
الملهم كارل يونغ
لقد استلهم توينبي نظريّته في ولادة وموت الحضارات والتي
سمّاها التحدّي والاستجابة وأقام عليها فلسفته في
التأريخ ، من علم النفس السلوكي ، وعلى وجه الخصوص من عالم
النفس السويسري المشهور كارل غوستاف يونغ 1857 ـــ
1961 في نظريّته في الانبساط والانطواء ، التي يقول
فيها أنّ الفرد الذي يعرّض لصدمة قد يفقد توازنه لمدّة ما،
ثمّ يستجيب لها بنوعين من الاستجابة : استجابة سلبيّة ، وهي
النكوص إلى الماضي لاستعادته والتمسّك به تعويضًا عن واقعه المُر
، فيصبح انطوائيًّا . واستجابة ايجابيّة ، وهي تقبّل
الصدمة والاعتراف بها ، ثمّ محاولة التغلّب عليها ، فيكون
في هذه الحالة انبساطيًّا ، وهو ما أطلق عليه توينبي الوسيلة
الذهبيّة أو الحل النموذجي . وعلى ضوء هذا الفهم تعامل مع الحضارات
، فولادة الحضارات نتيجة استجابة لتحدّ صدمة صادرة
أمّا عن البيئة الماديّة ، وأمّا عن الوسط البشري ، أو عن
كليهما ، في ظلّ زعامة أقلّيات مبدعة مقاومة الصدمة
، وتنهار الحضارات وقتما تعجز المجتمعات عن إبراز استجابة
إبداعيّة تقوم بها أقليّتها المبدعة ، ويتطوّر الحال بهذه
الأقليّة ـــ بعد إصابتها بالعقم والقصور ـــ إلى التحوّل إلى مجرّد
أقليّة مسيطرة ديكتاتوريّة لا همّ لها إلّا المحافظة على مكتسباتها
، ممّا يدفع الأغلبيّة إلى مقاومة الصدمة ، وبتعدّد
التحدّيات تتعدّد الاستجابات ومحاولات المقاومة ، إلى حين الوصول
إلى الحلّ النموذجي أو اليأس والتدهور .
مفاهيم إنسانيّة
ونتيجة لهذا الفهم التحدّي والاستجابة قسّم توينبي
المجتمعات والحضارات بحسب استجابتها إلى واحد وعشرين حضارة ، خمس
عشرة منها تتّصل بصلات البنوّة بحضارات سابقة عليها ، وست حضارات
فقط انبعثت مباشرة من الحياة البدائيّة وتلك الحضارات هي :
المصريّة ، والسومريّة ، والمينويّة ، والصينيّة
، والمايانيّة ، والانديانيّة . وقام بإجراء بحوث
مقارنة لهذه المجتمعات الحضارات ، فاستبعد فكرة أوربة
الحضارة وأنّ أوروبا هي مركز الإشعاع الفكري في
العالم ومنذ أقدم العصور ، التي روّج لها بعض العلماء الإنكليز
الذين اهتمّوا بدراسة الأجناس البشريّة ، والدراسة المقارنة
للشعوب البدائيّة . كما وقف في طليعة المفكّرين الأوروبيين الذين
صاروا يصدفون عن فكرة المركزيّة الأوروبيّة وهي
نزوع أوروبا إلى عدّ نفسها مجموعة مرجعيّة لبقيّة المجموعات
البشريّة ، بل للعالم بأسره ، كما حمل على الحماقات القائلة
بعدم تكافؤ الأجناس البشريّة لأنّ جميع العروق ـــ من وجهة
نظره ـــ مؤهّلة للحضارة ، فالقول بتفوّق الجنس الأبيض بفروعه
الثلاثة النوردي والألبيني والأيبيري ، وفكرة
امتياز العنصر الجرماني التي روّج لها الفريد روزنبرغ
وأقرّها أدولف هتلر ، حديث خرافة .
أخيرًا، وبعد هذه السياحة الفكريّة العجلى في التعريف بنظريّة
التحدّي والاستجابة التوينبيّة ، وفكرة الوسط
الذهبي، هل يتعلّق هذا الكلام من قريب أو من بعيد بموقفنا من
تحدّي الهجمة الفايروسيّة كورونا التي اجتاحت
العالم بين ليلة وضحاها ، فعطّلت جميع مرافق الحياة ،
ومستلزماتها ، وأغلقت المطارات والموانئ والطرق البريّة ،
وأوقفت مفعول السلاح ، وقتلت ما قتلت بصورة مباشرة بالإصابة أو
بصورة غير مباشرة كالرعب مثلًا ، وهل أنّ العالم بعد تحدّي
كورونا سيبقى نفس العالم الذي كان قبل هذا التحدّي ؟