نهلة راحيل: دراسة الأدب العبري بوابة للوعي المعرفي بالقضية الفلسطينية

2020/08/06

نهلة راحيل

- لماذا اخترت رواية الطنطورية التي توثق سرديا للمجزرة المنسية كما أسماها ثيودور كاتس الباحث الإسرائيلي الذي اكتشفها في أوائل القرن الحالي وأثار ضجة باكتشافه لأنه وثق جريمة إسرائيلية كانت تنكرها؟ وهل يمكن لهذه المجزرة أن تجعلنا نصدق خطاب المؤرخين الجدد أو التيار الذي يقال إنه معاد للصهيونية مثل كاتس وإيلان بابيه علي سبيل المثال وقبلهما يوري أفنيري وإسرائيل شاحاك؟ وبعد المجزرة أصدر بابيه كتابه الشهير التطهير العرقي لفلسطين، لماذا نواصل استخدام النكبة وهو مصطلح مخفف لا يعبر عن حقيقة ما جرى وقد أشرت في كتابك إلى الإبادة الجماعية؟

حاولت مجموعة المؤرخين الجدد بإسرائيل نقد الوقائع التاريخية والسياسية وإعادة تقييم ما أنتجته الصهيونية من أحداث تاريخية ومحاولة تفسيرها من جديد، واتجهت معظم دراساتهم إلى التنقيب في الوثائق الإسرائيلية عن كل ما تم إخفاؤه من حقائق تتعلق بما تم ارتكابه من مجازر جماعية وتدمير للقرى الفلسطينية وتشريد لسكانها عام 1948، فجاءت كتابات بعضهم مثل تيودور كاتس وألون كونفينو بهدف البحث عن سبل استئصال حياة فعلية قائمة بصورة وحشية مباغتة، لتحل محلها حياة أخرى وتقام على أنقاضها دولة ناشئة.

ولكن ارتداد العديد منهم عن آرائهم مؤخرا يجعلنا لا نأمن لكل ما يوثقونه من تفاصيل. وعلى رأسهم مثلا بني موريس الذي أصدر نسخة منقحة من كتابه "مولد مشكلة اللاجئين" (2004) يصرح فيه أن التطهير العرقي وعمليات الطرد كانت من ضرورات إقامة الدولة ولم تكن من جرائم الحرب، فعلى حد تصريحه: "عندما يكون الخيار هو أن تدمر عدوك أو يدمرك، فالأفضل أن تدمره، وعندما يكون الخيار بين التطهير العرقي (للفلسطينين) وبين إبادة شعبك (أي اليهود)، فأنا أفضل التطهير العرقي، فالحاجة لإقامة الدولة عام 48 يتغلب على الظلم الذي وقع على الفلسطينيين عبر اقتلاعهم"، ولذلك يؤكد في مؤلفه العملاق "الضحايا" (2003) أن "اليهود هم الضحايا الأكبر في مسار التاريخ حتى إن قاموا بقمع الفلسطينيين الراغبين في إبادتهم". وكذلك أراء توم ساجيف الذي يدعو في كتابه "الصهاينة الجدد" (2001) إلى ضرورة العودة إلى "الرحم الصهيوني"- وفق تسميته- خاصة بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي برهنت في ظنه على صعوبة الوصول إلى تسوية الصراع السياسي.

أما مصطلح "النكبة" فقد ارتبط بما وقع للفلسطينيين من فقدان أراضيهم وقيام الدولة على أنقاضها وشتات الملايين منهم نتيجة لذلك، وانتقل بحروفه إلى العبرية (נכּבּה) وانتشر بدلالته تلك في الربع الأخير من القرن العشرين بفضل جهود منظمة (זוכרות/ ذاكرات) التي تهدف إلى تعريف المجتمع اليهودي بإسرائيل بالنكبة وأبعادها؛ فالمصطلح، إذن، له حمولة دلالية مكثفة- وليست مخففة كما ذكرت- ترتبط بكل ما تم تدميره- ماديا ومعنويا- على أيدي القوات العسكرية الصهيونية أثناء استيطانها لفلسطين على مدار عام 1948.

- في مقال له عن كتابك "الذاكرة الفلسطينية" والذي عالجت فيه كتاب كونشرتو مصائر الهولوكوست والنكبة، قال الناقد ممدوح فراج النابي أن السردية الروائية الفلسطينية تصنع جغرافيا بديلة، هل يمكن للسرد الروائي أن يعين الذاكرة الجمعية علي الإبقاء علي فكرة الوطن، و هل يقيم جغرافيا بديلة أم يحفظ الجغرافيا الأصلية من الضياع ؟

أتفق مع ما ذكره الصديق الناقد د. ممدوح النابي في مقالته؛ ففي ظل تلك الأوضاع المأساوية نحن بحاجة ماسة إلى ترسيخ الجغرافيا الفلسطينية في ذاكرة الأجيال القادمة خاصة بعد الحرص على محوها كما حدث أخيرا مثلا من حذف فلسطين من خرائط البحث في "جوجل".

ولذلك فما يميز السرديات الفلسطينية –بصفة خاصة- هو أن استراتيجيات كتابة المكان/ الوطن فيها تعمل دائما على رسم الجغرافيا البديلة/ جغرافيا فلسطين المستعادة في مواجهة الجغرافيا الواقعية/ جغرافيا المنفى المعاشة، فالشخصيات الروائية غير مشغولة عادة بجغرافيا الواقع إنما مشغولة بجغرافيا المتخيل الوطني الفلسطيني البعيد، وكل ما يدور في الرواية من وقائع يستدعي معنى الوطن، بصورة يمتد فيها المكان الكائن بأواصر الصلة لمكان آخر (بفلسطين).

والمقصود بالجغرافيا البديلة هنا هي جغرافيا الوطن المستعاد الذي يخلقه الكاتب في سرده الروائي كي يحفظ الجغرافيا الأصلية من الضياع عبر إعلاء سلطة المكان، غائبا أو حاضرا، من خلال استدعائه عبر المخيلة الروائية وترسيخه في ذاكرة الزمن وذهن الأجيال، فكما يقال "المقتلع من الوطن مستقر في الأزمنة الماضية"، لذلك فإنه يلوذ بالبحث عن طرائق يحاول بها عبور المسافة وتجاوزها، وهو ما يدفعه إلى الاحتماء بفعل التذكر كبديل أو مقاوم للاندثار.

- تقوم الكونشرتو على كشف العلاقة النفسيه بين النكبة والنازية، وهو مشروعك أيضا في كتابك الأول، فهل هذا  نوع من مواصلة الحفر في العلاقة ؟

بالفعل جاء الكتاب الثاني "الذاكرة الجمعية الفلسطينية" ليواصل انشغالي البحثي الخاص بالكشف عن العلاقات النفسية بين الفلسطيني والإسرائيلي، وتلقي كل منهما لماضي الآخر. وقد حاولت تقصي الرؤية نفسها كذلك عند دراسة أدبيات الفلسطيني غسان كنفاني وخاصة في بحثي عن روايته القصيرة "عائد إلى حيفا" التي مسرحها الأديب الإسرائيلي بوعز جاؤون ونشرها بعنوان "العودة إلى حيفا" وعرضت كذلك على مسرح هاكاميري عام 2008، ومن خلالها حاولت أن أرصد كيف نقل المسرحي الإسرائيلي قناعاته الفكرية التي تطرح فكرة التعايش بين جانبي الصراع خلافا لنص كنفاني الذي قدم فكرة المقاومة كحل نهائي له، وذلك عند مسرحته لرواية كنفاني وإعدادها مسرحيا، فالتحولات الشكلية يصاحبها بالطبع تحولات رؤيوية مقصودة.

رواية المدهون تقوم على التجريب باستخدام حركات الكونشرتو الموسيقي، ولم يلتف أحد إلى أن الكونشرتو أو التشظي النغمي التجريبي هو توحيدي بمعنى ما؛ فاللحن الموسيقي يجمع الأنغام الطالعة من آلات مختلفة وطبقاتها المتعددة في ميلودي واحد، فهل يبرر لنا المدهون ذلك على الرغم من حزن الناي الفلسطيني وهو يروي هموم من بقوا في الكيان العنصري ليحتفظوا بالذاكرة؟

بنى المدهون روايته في قالب الكونشرتو الموسيقي المكوّن من أربع حركات تتوالف لتحكي مأساة الشتات الفلسطيني واغتراب أجيال عديدة من الفلسطينيين خارج الوطن وداخله، وتطرح أسئلة عديدة حول النكبة و"الهولوكوست" وحق العودة عبر مسار شخصياتها التي تواجه كل منها ثنائيات مختلفة داخل حركات الرواية: التهجير والعودة، الهجرة والبقاء، التذكر والنسيان، الهوية والأسرلة، ليعبّرون جميعا عن مأساة ضياع الوطن وشعور الفلسطينيين جميعا- سواء من هم في الداخل أو في الشتات- بوطأة الاحتلال الإسرائيلي، وتختتم الحركات الأربعة بسؤال لا إجابة له، حيث لا يُحسم أمر العودة النهائية إلى فلسطين ويظل النقاش مفتوحا، على المستويين: الواقعي والتخييلي.

لكن لا يمنع هذا من أن الرواية تمثل أحد الاتجاهات التي بدأت تنشط مؤخرًا، وهو مغاير عما كان رائجًا في المرويات الفلسطينية أو مرويات المقاومة التي كانت تتبني شعارات القطيعة والرفض، وإنما تيار جديد، ينساق للأيديولوجية المهيمنة - في تستر تارة وفي جهر تارة أخرى - يمهد للعيش - المشترك - في "جيتو فاضل". ومن هذا الاتجاه، ما عبّرت عنه مرويات الحبيب السالمي "أنا وحاييم" ووليد أسامة خليل "أحببت يهودية"، ومن قبلهما خولة حمدي "في قلبي أنثى عبرية" وغيرها من المرويات، التي تسعى - في أحد توجهاتها غير المُعلنة- لخطب الودّ. وهو الأمر الذي لم يعد مقتصرًا على التيمات التي تطرقها المرويات، حيث تبدلت صورة اليهودي/اليهودية القديمة السلبية، التي كانت رائجة في الكلاسيكيات من قبيل المرابي والعاهرة وغيرها إلى صورة أكثر إنسانية.

- في دراسة الارتياب الجماعي، وهي تعليقات نقدية عن محور صورة اليهودي في الأدب العربي، تكشفين تحول نظرة العربي الروائية لليهودي في الروايات الحديثة، هل يمكن أن تكشفي لنا أسباب هذا التحول في النظر للإسرائيلي من العدو المغتصب إلى الضحية؟

أوضحت في دراسة "الارتياب الجماعي،المرويات العربية حول الشخصية اليهودية"، المنشورة في مجلة "الجديد" بشهر فبراير الماضي- كسجال على ملف الجديد الصادر بديسمبر 2019 حول تمثلات اليهودي في الرواية العربية- أن الشخصية اليهودية من الشخصيات التي أُطرِّت أدبيا في مجموعة من التصورات والمفاهيم التي رسمتها المحكيات العربية وروجت لها الكلاسكيات العالمية، فكان المنحى التنميطي لصورة تلك الشخصية- مع غياب الوعي الحقيقي بماهية الآخر- من مسببات رسوخ بعض الصفات عنها في مخيال الوعي الجمعي، والتي قد تكون بعيدة عن الحيادية أو الموضوعية

وقد انحصرت مسببات استدعاء الشخصية اليهودية والاهتمام بتمثلها روائيا في السرديات العربية في عدة عوامل تحكم فيها طبيعة الصراع من ناحية، وطبيعية الشخصية اليهودية من ناحية أخرى، ثم حدثت تحولات واضحة في استدعائها نقلتها من الرؤية النمطية التقليدية إلى أخرى حيادية أو موضوعية، فتجسد اليهودي في صورة "الآخر" الذي يمكن التعايش معه وقبول اختلافه بعيدا عن دوائر الصراع خاصة في الأعمال التي تبحث في التاريخ المشترك بين اليهود والعرب.

أما عن تحول صورته إلى "الضحية"، فالمقصود هنا التأكيد على عنصرية المجتمع الإسرائيلي الذي مارس سياسات تهميشية تستبعد ثقافات اليهود العرب وتتوجه إليها بخطاب استعلائي؛ وتعامل اليهودي "الأسود" أيضا باعتباره مواطنا من الدرجة الثالثة؛ فأصبح اليهودي داخل إسرائيل- في كثير من الأحيان- ضحية نظامه أو مؤسساته، وهو ما تجسد سرديا في بعض الروايات العربية أو العبرية المكتوبة بأقلام يهود عرب، مثل سمير نقاش وسامي ميخائيل وشمعون بلاص وغيرهم.

- هل تم فك الارتباط بين اليهودي والإسرائيلي في العقل العربي أم لايزال الخلط قائما علي الرغم من وجود يهود رفضوا مشروع الدولة الصهيونية وبقوا في أوطانهم ومنهم شحاته هارون علي سبيل المثال؟

 

لنكن صريحين أكثر، أقول لك إن المجتمع العربي يعي جيدا الفارق بين يهود البلدان العربية الذين كانوا جزءا لا يتجزأ من المشهد السياسي والنسيج الاجتماعي بها، وعارض الكثير منهم الدعوات الصهيونية وفضلوا البقاء في أوطانهم الأصلية، كالمصري اليهودي "شحاتة هارون" الذي صرح بذلك في مذكراته "يهودي في القاهرة"، والمغربي اليهودي "إدموند عمران المالح" الذي اختار البقاء في المغرب في الوقت الذي كانت فيه الحركة الصهيونية تنشط لكي تشجع اليهود على الهجرة إلى فلسطين مثلما سرد في سيرته الذاتية "رسائل إلى نفسي".

ولكن لا تنسى أن أوضاع اليهود في البلاد العربية قد تغير بعد الحروب التي خاضتها إسرائيل ضدها، بداية من حرب 48 التي عملت على إثارة موجة الغضب والكراهية تجاه اليهود العرب بكل طوائفهم واتجاهاتهم، وفي ظل الارتباك الفكري الذي أسهم في عدم التفريق بين اليهودية كديانة والصهيونية كمذهب أيديولوجي، اشتدت الدعاوى السياسية التي استغلت سوء الأوضاع في تقوية الدعم الصهيوني والمساعدة على انضمام أعداد من اليهود إلى الصهيونية، ومن ثم زيادة نسبة الاستيطان بفلسطين.

- تعملين الآن على دراسة إبراهيم نصرالله، هل قادك الأدب العبري إلى دراسة فلسطين وهل هي نوع من المقاومة للآخر؟

قدمت دراسة عن مستويات التجريب وديستوبيا الواقع في رواية "حرب الكلب الثانية" للأديب الفلسطيني إبراهيم نصر الله، الحائزة على الجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر" لعام 2018، والتي يسرد بها واقعا مجتمعيا مريرا بأسلوب غرائبي يفيد من مقومات الخيال العلمي لفضح الواقع وكشف تشوهاته. وما يشغلني الآن هو سؤال ملح يطاردني، ويبدو أنه لن يفارقني حتى أصل لإجابة، مفاده: قلة ترجمة منجز إبراهيم نصر الله الأدبي للعبرية، مقارنة بترجمة أقرانه أمثال غسان كنفاني وإيميل حبيبي ومحمود درويش وطه محمد علي وسميح القاسم وغيرهم.

فرغم الأهمية الكبرى التي يحظى بها الروائي الفلسطيني "إبراهيم نصر الله" لكونه أحد أبرز ممثلي القضية الفلسطينية في مشروعه السردي، فإنه لم يحظ بالترجمة إلى العبرية إلا في عملين أحدهما تم كنوع من القرصنة- على حد تعبيره- بعد ترجمة روايته القصيرة "براري الحُمى" وتضمينها في كتاب "الغرف الأخرى: ثلاث روايات فلسطينية" (2001)- ضمن سلسلة "جسور"-، مع روايتي غسان كنفاني "عائد إلى حيفا" وجبرا إبراهيم جبرا "الغرف الأخرى"، والآخر تم بوساطة الروائي الفلسطيني "سلمان ناطور" وتشجيعه- ضمن سلسلة "مكتوب" (2018) المعدة لترجمة نماذج من الأدب العربي إلى العبرية.

وفي ظني أن سبب غيابه عن الترجمة قد يتلخص في تصريح الكاتب نفسه: "لا أخشى أن يُترجم أدبنا إلى العبرية شريطة أن لا يكون هناك أي اتصال مع أي صهيوني، وإذا كان كل طفل وشاب فلسطيني يخرج في المظاهرة ليقول للجندي الصهيوني الذي أمامه: هذه بلادنا، وفلسطين دارنا، فكل كتابة حقيقية، وكل جملة وكلمة وحرف نكتب، تقول لكل صهيوني: هذه بلادنا، وهذه روايتنا لتاريخنا". وبذلك قد يكون تعمد قلة ترجمته- في الحقيقة- عقابًا على هذه التصريحات- المستفزة بالنسبة لهم - التي تُنْكر وجودهم، وهو ما يتنافى مع ما تروّجه الأيديولوجيا الصهيونية وتسعى إلى غرسه في نفوس الأجيال الجديدة.

في النهاية، أظن أن دراسة الأدب العبري يقود إلى دراسة الأدب الفلسطيني والعكس، حتى وإن لم يكن النصان حاضرين ومطروحين للمقارنة المباشرة، فوجود أحدهما يستدعي ضمنيا وجود الآخر بسبب الطبيعة الجدلية التي تجمعهما معا سواء على أرض الواقع الفعلي أو داخل الخطابات الرمزية.

أخترنا لك
قراءة في (كتاب العراق في غمرة الصراعات )

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة