زينب عبد الكريم الخفاجي
حين تستعرض المنتج الأدبي للشاعر المبدع منذر عبد الحر مابين الشعر والرواية والقصة تتوه منك الكلمة وتضيع حروف النقد التوصيفية أمام هكذا إبداع أرخ الكثير منه لحقبات زمنية من تأريخ بلد جريح مبتلى بالويلات لسنوات طالت عذاباتها إذ يستثمر كل معطيات الفعل لتمرير وإبراز أكثر من قضية أو مسألة واقعية ببنية فنية هدفها الهروب من الواقع مع تعبير صادق وصريح لهذا الواقع وأمل كبير في تغييره في ديوانه الشعري (أنا…سيزيف السعيد )محل هذه الدراسة التحليلة ففي نص (أصدقائي الأثرياء)عمد الشاعر الى توظيف صورة الغنى والثراء والضد منها الفقر والعوز ونراه يضمن أحاديث للصحابة والأولين في سياق نظمه في مثل قوله (…..كان …رجلا) تاركا مسافات تأملية تفكيرية يشرك بها المتلقي لتكملةالنص مستوحيا ذلك من قول الأولين (لو كان الفقر رجلا لقتلته)القول المنسوب للإمام علي عليه السلام وهنانلتمس نصا ناقدا جريئا لقسوة الحياة بفقرها وفاقتها تحت ظل ساسات قساة وذكاء منه هذا التضمين الذي يشعر المتلقي بمشاركة الاولين وهم أولي الأمر ومعاناتهم المماثلة لأهل هذا الزمن وكأنها صرخة تعلن أن الانسان مبتلى وقد وجد لهدف سام نبيل فأما الظفر أو الفشل …(لكنه ….حرباء تتربص لنا في صحارى أعمارنا ). وصورة أخرى مؤلمة إذا يستوحي الشاعر من صفات الصحراء الجدب القفر والعطش ينسبها جميعا للعمر الماضي مسرعا إلى الزوال وهذا كله إنعكاس لفقر الحياة وصعوبتها ومعاناة خاصة إنطلق منها الشاعر لتشخيص معاناة جماعية متخلصا بذلك من أنا الشاعر ،وهناك على مسافة النص صور أخرى تناقض الصورة الأولى لتخلق معادلا موضوعيا جدليا في النص فهو الشاكي من العوز يشبه المال برصاصة قاسية تؤدي برأس طمأنينته وحريته في العيش وكأن المال سطوة ولعنة على صاحبها ،ويستمر مشرعا قلم موازنته مابين طمأنينةالفقير وقلق الغني (نوم عميق /قلق وحيرة أمنيات /جدب وفراغ /مجنونةحياتهم بالضحك /كوابيس أفلاس لعينة /قلة الأصدقاء /أرواح نقية /موائداهم نجوم /بزهدهم وحلمهم وصبرهم )هم أي الفقراء (أكثر ثراء )صور تقابلية تفوق الشاعر بوساطتها من خلق أجواء مبهجة تخلط الواقع بالخيال وتمتزج بالقدرة على الخلق الإبداعي والصدق العاطفي وذاك الخيال الذي يدنو من ملامسته الواقع المرفوض البائس القفر الذي تمكن الشاعر من الإفلات من قبضته وسطوة قسوته بهذا الخلق الابداعي المائز …أما نصه (أيها الغد …قف بعيدا )فنجده تعضيديا لتجسيد الصورة الشعرية الأولى (أصدقائي الأثرياء)وعليه فالشاعر منذر عبد الحر يعمل على خلق قوى رابطة بين قصائده مع بعضها البعض ولا يكتف بروابط القصيدة الواحدة فيما بينها ،في هذا النص هو يكرر مطلبه في أن لا يأت الغد (المبهم المظلم )وأن يظل بعيدا مستخدما التشخيص فكأنك والغد شخصا محسوسا لا يود الشاعر لقياه لاستهتاره وسيطرته على الحياة وتلاعبه بمصيرنا ومقدراتنا وتطلعاتنا المشروعة ،كما وأن تكرار صورة الرجاء والتماس العذر والطلب بعدم قدوم الغد وأن يبق بعيدا تكفي لتوضيح الحال المأساوية التي يعانيها الشاعر وابناء جيله ومجتمعه بأكمله في فترة من الفترات فالشاعر ابن بيئته لذا عكس بصدق كل جزئيات تلك البيئة من خلال شعره موضحاظروفا عصيبة كانت سائدة لا محالة فالانسان بطبعه متأملا متفائلا يرجو من الغد أن يكون أفضل ولعل ذلك ما يسنده للبقاء ولكن الصورة الشعرية لهذا النص قلبت الأمر فالشاعر هنا ليس متشائما يائسا بل لعلها نظرة واقعية للأمور مازجها الشاعر بنظمه إذ يرى وفق قراءة صحيحة لواقعه أن لا أمل في تغيير الأمور نحو الأفضل فهو يحمل شعره نبوءته الخاصة ونظمه يحمل أنفاس الحنين والألم والندم على عربات الأحلام الفتية …مصرا وبإلحاح يكرر (لا تأت)/(دع البلاد …دع المدن …دع المواعيد )بصيغة الأمر للفعل القادم وكأن تكرار أداة النفي (لا)مصحوبة بالفشل فطلبه غير منطقي بأن يقف الوقت ويكف عن التقدم (قف بعيدا ) صرخة خواء داخل الشاعر لا طائل منها سوى صداها …
حياة نابضة
ومع كل هذه الواقعية المؤلمة التي تستدعي اليأس وسوداوية الصورة ،يفجر للمتلقي صورة حياة نابضة بالحيوية ،فالبلابل على أغصانها تغني للحياة ترنيمة الفرح،إلا أنه لا يكف عن تكرار دعواه أن يقف الزمن بعيدا عنه وأن لا يجعله عدوا لمرآته ذات يوم ،(على الغد …أن يقف ولا يأت ،،،لا يأت ،،مطلقا عليه أن لا يأت)،عقارب الساعة وجيوش التجاعيد ورف السراب وقبو الضباب) وغيرها من مفردات توصيفية لما يعتريه من مشاعر خوف قلقة من زمن لا محالة سائرا نحو الزوال ،زمن وهن يصاب به الانسان حين يتقدم به العمر الفاني ثم لا شيء سوى الموت ..إلا أن هذا الموت هو حياة في وجهها الآخر وامتدادات أكيدة ففي نصه الثالث مباشرة ينظم نصا ينأى عن التقليدية يتضمن خطابا موجها إلى امتداده الحقيقي ولده (مطاع )(لا تكن شبيهي ،إلى ولدي الغالي مطاع في عيد ميلاده ) وكأن الشاعر يعمد إلى التضمين كثيرا ،إذ لا يكاد يخلو نص من تضمينه معنى آي من الذكر الحكيم ،على سبيل المثال في نصه إلى ولده قال :(لاغنم عندي ،أهش عليها بعصاي ،التي أتكأ عليها )وهنا تضمين صريح لقوله تعالى :(هي عصاي أتكأ عليها وأهش بها على غنمي )أما المعنى المراد من الصورة الشعرية فهي كناية للفقر لا غنم عندي لا مال عندي تستند عليه ياولدي فالغنم كناية للغنى وحيازة المال وفي قول آخر (ضربت بها البحر مرة )مضمونه مأخوذا من ضربة البحر في قصة موسى وفرعون .(وسجادة صلاة )وتراكيب كثيرة تعمق الوعي الديني عاكسة إلتزام الشاعر واستقامته وعلاقته الروحية مع الذات الإلهية ،نصه لابنه في يوم مولده رسالة تحمل وصية وأمنية لا تخل من موعظة وإرشاد أكثر من وصفها مباركة وتهنئة… وقال (ولم أزل مكذبا هدهد الفجائع )وكأنه يستمد صورة هدهد سليمان (ع)وإن كان توظيفا مختلفا فالهدهد هنا كناية لوفاة صاحبه وصديقه الصدوق (حسين السلطاني )فيعاتبه راثيا له :
لم يبق في حقولي دمع
لأريقه في سواقي الوحشة
ولم أزل مكذبا هدهد الفجائع نلمس في قصائد الشاعر منذر عبد الحر ضربا من الترف الفكري والعقلي يحدثنا بثقافة الشاعر الموسوعية .قصائد الديوان كلها تستفز المتلقي لتسفر عن رمز شعري يمر بمراحل متطورة عديدة وصولا الى نضج الصورة التوصيفية للنص ،فالرمز وسيلة الشاعر ووساطته وتقيته الدفاعية أيضا،يتخفى وراءها ملتفا على الحدث الحقيقي غير المعلن لمحاولة التحدث في المسكوت عنه أو المحظور موظفا قوته الشعرية وبراعة نظمه فضلا عن اساليب البلاغة والبيان جاعلا من الرمز قناعا يفيد في عملية التنكر والتمويه والبعد عن الخطاب المباشر الذي قد يسبب للشاعر الوقوع في محظور ما ،بل إنه قد يعمد إلى الرمز أو القناع لإنه الأكثر إثراءا للفكر والتعبير عن الذات والموقف ،وقد قطع الشاعر شوطا كبيرا وصولا إلى مبتغاه (بين بهجة ولوعة وأمل ،بين نهر أو بحر أو صحراء ،بين نجمة أو بدر أو فتات غيمة ،بين شرود أو خيبة )وكل هذه المفردات لها مدلولات متباينة ما بين الجدب والخصب والموت والحياة ضمن إطار فلسفي محكم مقرون يجعل الجزء يغلب على الكل فتغلب نص (أنا سيزيف ….السعيد )على المجموعة الشعرية الفلسفية المتكونة من ثمانية عشر نصا لتكن لها ريادة عتبة النص أو ثرياه جاعلا من أسطورة سيزيف بمضمونها الفلسفي مابين الصدق والمبالغةوالتسليم وسبر أغوار الباطن بوصفه يحمل أصدق التعابير عن مكنونات النفس البشرية التي قد تكون سياسية أو دينية أو قد تكون أفكارا فلسفيةقد تسبب إشكالات كثيرةلصاحبها وكأن الشاعر يحمل على ظهره أعباء حياة أرهقت كاهله مذ كان فتيا فيجعل من صخرة سيزيف الذي كانت عقوبة له وقضاء وقدر يحملها مرارا وتكرارا إلى قمة الجبل وما أن يصل القمة تتدحرج ويعود من جديد لحملها إلى القمةإلى أن تقوم الساعة عقاب له على محاولته خداع الالهة إله الموت ثاناتوس وسعيه لمحاولة الخلود اليائسة كماورد في الأساطير الإغريقية ،(أيها الغد …قف بعيدا )ليواسي نفسه في (الممنوع)ليظهر إتزانا إنفعاليا (لا عليك أيها الشجن )تلك الحياة وكل ما مر به من صعاب (ماحدث قبل ثلاثين عاما )يتوج ديوانه بقصيدة مستمدة من أكثر الأساطير قربا إلى ذاته وتعبيرا عنها كاشفا صورة شفيفة لمعاناته لتكون عتبته (أنا سيزيف …السعيد )مكابرا على الرغم من مرارة الألم ،هو يرفض منح الموت فرصة أخذ ما تبقى من رمق فيه ،وإن كان هذا محض أمنيات ،فدائرة القدر تحكم قبضتهاعلى الانسان وتقوده عاجلا أم آجلا إلى حتفه ومؤاه الأخير .
خطاب موجه
(الموت هاجس يبتدينه بلحظة التكوين )كما قال الشاعر القدير عريان السيد خلف في نصه المتضمن خطابا موجها إلى الموت .وتلك الروح هي مسافر عابر ضمن تفاصيل يومية تتشبث بالعودة إلى الماضي وتسعى جهدها إلى خلق حاضر متوازن مع كل ما تمر به الروح من تشتت واضطهاد وهذا هو حالنا جميعا في البلاد العربية ..(والحرب /إن الانسان لفي رعب عفوك ربي. هذي الغربان على دربي والليل تربع في قلبي. عفوك ما زلنا نستجدي وقتا نغزل من هم كلمات )جهد فني وموهبة ابداعية ضخمة في صياغة الصورة وتشكيلها لتعكس هموم مثقف يحمل عبأ أزمة الفكر العربي وحرمان الشباب متخذا من صور القصص القرآني وأدبية النص المقدس دلالة ورمزا مثل توظيفه لصورة (الغربان)المتوارثة الدالة على الموت والتلاشي والعدم ،الليل بسواده يشغل قلبه ولكنه مع كل هذا الظلام والموت لا زال سيزيفا سعيدا يحاول ويغزل كلمات الحرير ويستجدي وقتا إضافيا للتلاعب بالمفردات والرسم بالكلمات …وحقيقة الأمر إن ما عبر ت عنه نصوص هذا الديوان وتحديدا قصيدة العتبة أو ثريا النص (أنا سيزيف …السعيد )هي معاناة لشعب بأكمله وصورة كاملة لعذاباته اجتهد الشاعر منذر عبد الحر في دقة توصيفها ونقلها تامة غير منقوصة إنك تقرأ العنوان وتشعر بحجم المرارة والألم الذي اختاره بذكاء عنوان لمعاناته الخاصة والتي انطلق منها لتوصيف العام ،تلمس ذاك التهكم بمفردة واحدة جمعها بأسطورة سيزيف (السعيد )فتارة تشعر انه فعلا سعيد بحزنه وعدمه وفقره وراحة باله وأخرى تشعره يتطلع الى سخرية الأقدار من دون أدنى إرادة لتغييره ،وهذا هو حال الانسان في بلدنا والبلدان العربية فجميعنا سيزيف ندحرج الأمل حاملين صخرة الحياة فوق ظهورنا ذهابا إيابا يوميا من دون إرادة التغيير على الرغم من روح الثورة والتطلع داخل كل منا نحن كثيرا ما نشابه نواعير هيت إذ ندور في فلك واحد ومسار محدد لا غير ،ممنوع الاعتراض والتوقف أو حتى التململ ،لكنه أي الشاعر سعى بطاقته وجوارحه إلى الوصول الهادف في الحياةبحثا عن المضي خارج مسعى الكفاح المتواصل من مواجهة الإنسان للمصير والقدر النافذ مسبقا ،وهنا يكون جوهر الأمر في تلك القيمةلما نصنعه بهذه الحياة من مواقف وأعمال مهما بدت بسيطة إلا أن الهدف في تحديد وتأطير الحياة بشكل يجعلها أكثر أهمية وقيمة ويخرجها من العبثيةواللامبالاة،فيزيدها قوة وإصرارًا على الاستمرار وديمومة الحركة ودحرجة الصخرة كل يوم من دون تغيير ..(أنا سيزيف…السعيد) يقدم فيه منذر عبد الحر خطابا بليغا فلسفيا لإرادة الانسان الحر من جهة والمقيد المغلوب على أمره لكنه ثائرا ساعيا للأفضل من جهة أخرى هذا الديوان أوحى بالكثير من الاحتمالات والبدائل ما بين الإصرار والهزيمة ومابين تحقيق الحلم وتلاشيه وما بينالثواب والعقاب ،لكن تظل قصيدة (أنا سيزيف …السعيد)بتلك الفراغات الموحية بألف فكرة قصيدة ممتعة وصورة شعرية بليغة واختيار موفق يجبر المتلقي على إتمام عملية القراءة الكلية للنصوص بجلسة واحدة .