البشرية بحاجة إلى بورخيس جديد بعد العجز السياسي والثقافي
يرى كثيرون في الروايات الأدبية فضاء مستعاراً للهروب من واقع
الحياة البائس نحو عالم مُخترَعٍ آخر - قاسياً كان أو عذباً -
نبعث إليه بأرواحنا ولو لبضع ساعات أو قليل أيام لتهدأ من وعثاء
العيش وتعب الوجود، فيما يراها آخرون نوافذ نطل منها على ذلك
الواقع، نؤطره، ونتراجع خطوات للنظر إليه كما لحظة مسروقة من
الزمن رسمت في لوحة نحاول منها قراءة المعنى الأعمق وراء اليومي
والقريب والمألوف. لكن الحقيقة أن الخيال الأدبي في صيغته
الروائية وإن خدم تلك الأغراض الفردية، فقيمته جماعياً تفوق ذلك
ليصير بوابات وجسوراً تستشرف المآلات والمنتهيات: أين نذهب من هنا
بعدما خبرنا واقعنا المُنهك؟ وما الذي سيأتي بعد؟ ومذ نضجت
الرواية، وأخذت هيئتها الحالية مع عصر صعود البرجوازية أصبحت
واحدة من أهم الصيغ - إن لم تكن أهمها على الإطلاق - لقراءة
تمثلات هذا القلق البشري المُحكم والدائم للبحث في التالي عبر
تمرحلات التاريخ المتلاحقة.
رواية الإنجليزية ماري شيللي الأشهر «الدكتور فرانكشتاين - 1818»
عن ذلك العالِم المجنون الذي يلفق من قطع البشر مخلوقاً في مختبره
ما يلبث أن يكتسب وجوداً مستقلاً بذاته ليقضي الدكتور بقية القصة
يطارد صنيعته أو يفر منها - بل وكما نَحَت الثقافة الشعبية يخسر
كل شيء في ذلك الصراع الذي لا يمكن كسبه، حتى اسمه ذاته الذي صار
علماً على الوحش في لفتة عبقرية للمُخيال الشعبي - بدت خلال هذا
السياق كأنها رواية الرأسمالية برمتها: ذلك النظام الذي كان في
شبابه أيام شيللي، أطلقه البشر كما وحش ملفق يطاردونه ويطاردهم،
فيسقطون ويبقى هو، تماماً كما في نهاية الرواية اللانهاية
المفتقدة للسعادة: الدكتور فرانكشتاين ميتاً مهزوماً، والوحش الذي
صنعه يبحر حياً، مبحلقاً بعيونه المملوءة خواءً، على سطح قطعة من
جليد.
الفيلسوف الأميركي جون هولوي يجادل بأن «الدكتور فرانكشتاين» رؤية
وإن كانت ثاقبة بشأن دور البشر في خلق هذا النموذج المسخ الذي
يفسد حياتهم فإنها تقصر عن رسم يوم تالٍ، إذ لا حل ممكناً سوى قتل
الوحش وإنهاء التجربة، وذلك ليس بالأمر السهل أو القريب - كما
تقول الرواية نفسها، بل إن مصير الأفراد محتم الفناء، فيما الوحش
قابض على مكانه في الوجود كما الخالدين.
هولوي يقترح حكاية رمزية أخرى يراها أقرب لتكون باباً للكشف عن يوم تالٍ للرأسمالية المتأخرة في صيغتها الليبرالية، وتلك كتبها الأديب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (1899 - 1986) قصة قصيرة عام 1964 عنونها «الآثار الدائرية»، وفيها يرى أحدُهم إنساناً بالمنام - لا في المختبر كما عند شيللي. هذه الشخصية وفق الحلم تمتلك مقومات الوجود بتفاصيله، لكنها تستمر حصراً ما دام الحلم طازجاً وحياً. وتبلغ القصة ذروتها عندما يحملق الحالم مجدداً في الشخصية التي يراها حين غفلته فكأنها هو، ليتوقف كل شيء، ليس باستيقاظه من نومه بل لحظة إدراكه أنه ذاته مجرد حلم يراه شخص آخر غارق بالنوم، وقد يستفيق بدوره أي لحظة. عند بورخيس نحن نبتدع عالمنا في سياق دائرة متكررة من إنتاج الوهم، فيضيف كل منا إليه تفاصيل ومنمنمات تمنحه واقعية متزايدة، لا في لحظة تخلٍ استثنائية لعقل عالِم مجنون كالذي رسمته شيللي.
نقطة هولوي باعتماده آثار بورخيس الدائرية - بدلاً من الخلق الملفق - كبوابة للبحث الجمعي في شكل بديل لعالمنا القاسي، أن هذا الخيال الشاهق يفتح الأفق لرصد الرأسمالية على حقيقتها: وهم نشترك جميعاً في إعادة إنتاجه من خلال تفاصيل ممارسات حياتنا اليومية، يتلاشى هباءات كما يتطاير الحلم عندما نقرر - أو يتسنى لنا - الاستيقاظ منه. بالطبع، النظام الرأسمالي ليس وهماً بحرفية الصورة الأدبية البورخيسية، لكننا كمجموعة بشرية قبلنا دون إعمال مبضع النقد مبدأ الديمومة: أي الاعتقاد بأن وجود شيء في واقعنا خلال لحظة ما يتضمن بالضرورة استمرار وجوده في اللحظة اللاحقة، والتي تليها، وهكذا.
ويبدو النقاش السياسي - الثقافي في الغرب، لا سيما بعد الأزمات المتعاقبة للنظام الكلي مالية وأخلاقية ووبائية، بحاجة ماسة اليوم إلى بورخيس جديد ليقود خيالنا بعدما عجزت السياسة والثقافة معاً عن طي صفحة الحاضر الذي يتأكد كل يوم أنه لم يعد ممكناً احتماله بصورته الحالية. وعن ذلك يكتب جيمس دوستيربيغ في مقالة له عن النظام الليبرالي الذي «لم يعد حتى عدواً نحتاج إلى نقده أو مواجهته، بل مجرد جثة بليت أو كادت، وكل الذي يمكن إكرامها به هو الدفن العاجل».
روائياً، فإن تاريخ هذا النوع من الخيال الأدبي حافل - منذ تشارلز ديكنز إلى دوريس ليسينغ، مروراً بفرانز كافكا، وألبير كامو وجورج أورويل ورالف إليسون - بالنصوص التي كأنها منتزعة من قلب تجارب الفشل السياسي - الثقافي ومشغولة بقطع الحطام: مثاليات تصطدم بالواقع، مشاريع كبرى كنا نراها عصية على الاندثار تفقد فجأة كل قدرة على الاستمرار، خيبات أمل، وتفكك وتهتك نسيج العلاقات بين البشر. لكن ولربما في انتظار بورخيس جديد معاصرنا ليكتب لنا الرواية - البوابة على الـ«ما - بعد» النيوليبرالية، فإن القبض على الظاهرة من خلال نصوص ذم المنظومة لا يعني بالضرورة منحنا القدرة على استشراف طرائق تغييرها، والكشف عن الممكن بعدها. لم يقدم لنا كامو غير الكآبة في «الغريب»، وقتلنا العجز في «الرجل الخفي» لإليسون، وقضى أورويل في «1984» على أي أمل لنا بنهاية - ولو آجلة - لهذا الكابوس المقيم.
على أن المهمة المُنتظرة اليوم من الخيال الأدبي - كدليل للعقل السياسي الثقافي - لا تحتمل مزيد تأخير، فعالمنا يتفسخ، والبحث عن الـ«ما - بعد» حاضرنا في رواية قادمة قد يبدو انتظاراً سوريالي النزعة أشبه بـ«انتظار غودو» الذي لا يأتي - مسرحية صموئيل بيكيت الشهيرة، لا سيما أن الرواية كنوع أدبي فقدت تدريجياً هيمنتها على فضاء صنع الخيال الجمعي المعولم للبشر بعد المنافسة الحادة من الأشكال الفنية الجديدة: السينما، والمسلسلات التلفزيونية في حقبة ما بعد التلفزيون التقليدي. بل ربما يكون عقم خيالنا الأدبي في هذه المرحلة على مستوى ما رواية عصرنا المنتظرة: لقد فشل مشروع نصف الغرب الحضاري الما بعد حداثاوي فشلاً ذريعاً، وقَتْلُ الوحش - الفرانكشتاين صار مستحيلاً. وعالمنا برمته صار رهن تهديد الفناء بكارثة بيئية أو نووية أو وبائية، ولم يتبقَّ أمامنا بالفعل سوى تقبل حكم العقل.