صورة المرأة في التراث العربي

2020/07/21

حقيقة أم مخيال ؟

صورة المرأة في التراث العربي

–  بشرى البستاني

لعل من الإشكاليات التي يعاني منها تشكيلُ صورة المرأة العربية في التراث أنها عاشت في مخيال ذلك التراث وليس في حقيقته الأصلية،وفرقٌ كبير بين المخيال والواقع ،وبين المتصوَّر والحقيقة، مما أدى إلى ظهورها في العصر الحديث دون أُسُس معرفية راكزة تؤازر حضورها بدءاً من ذلك الزمن وحتى النهضة الحديثة، فنحن أمام نموذجين نقيضين في التراث الشعري القديم، أمام صورة فاطمة ومعها حشدٌ من النساء المعشوقات الجريئات في الفعل والتحدي، عنيزة والرباب وأم الحويرث ونُعم وغيرهن في شعر امرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة ،وصورة ليلى العامرية وبثينة وليلى الأخيلية ولبنى قيس وعبلة ومن حذا حذوهنّ من العربيات المتمنِّعات اللواتي عانين الحرمان ـ حسب التراث أيضا ـ ومات بعضهن وجداً لأسباب تتعلق بتقاليد ذلك المجتمع. وهناك الصورة الثالثة التي اتسمت في المجتمع بالايجابية وهي تشارك الرجل في خوض غمار الحياة ومتطلباتها في الميادين الاقتصادية والسياسية والعقائدية والمعرفية وفي الشراكة بصنع القرارقبل الاسلام وبعده وفي أثناء الدعوة،كالسيدة خديجة بنت خويلد وأسماء وعائشة وسمية أم عمار وأم سلمة الأنصارية وحفصة ونسيبة بنت كعب وهند بنت عتبة وغيرهن. لكن من المؤكد أن هذه الأسماء لم تكن هي كل النساء الفاعلات في ذلك الزمن بدليل أننا نجد المرويات في كتب التراث تواظب على قولٍ يتكرر، قالت امرأة عربية ، وسمع الخليفةُ امرأة تقول، وأقبلت امرأة من بني كذا، وأنشدت امرأة، وصاحت امرأة، دون أي تعريف بتلك المرأة اسما وانتماءً.

حجب اسماء

 مما يشير إلى أن كلّ تلك المرويات في التراث كانت تحجب أولاً أسماء النساء بمعنى أنها تلغي هويتهن، فالأسم علامة ظهور وجلاء. الأسم هو الإنسان ،والمرأة في رأي ذلك العربي عورة، جديرٌ بها الخفاء فكان الوأد في البدء، أو في أفضل الحالات وجوب كونها وبقائها بعيدة عن الأنظار، ويكون اسمها وصوتها كجسدها بعيدين عن مرمى البصر، مما جعل تراثنا يخسر حِكَماً وشعراً وأقوالاً وتجارب إنسانية ومعارفَ وخبرات كثيرة كانت من نتاج النساء العربيات، كما خسر التراث الإنساني في كلّ أرجاء العالم نتاج المرأة وحجب خبراتها بفعل الإقصاء والتهميش والتغييب المتعمد من قبل الفكر الذكوري الذي لم يرَ في المرأة غير صدىً لإرادته ومنفذة لقراره بقصدية استغرقت حقباً طويلة من الهيمنة التي لم تمنح حيّزاً لأي نوع من الانفراج، كونها مُؤازَرَةً من كل القوى الحاكمة والمتسلطة في المجتمع العربي،فضلا عن استغلالها الدين مؤازرةً لأهدافها، لذا نجد كلّ ما وصلنا عن المرأة في تلك العصور ،حتى ما يتعلق بأدق خصوصياتها الجنسية مكتوباً بأقلام الرجال وآرائهم وأمزجتهم. فكل أخبار النساء وأسرارهن ورغباتهن كتبت بأقلام الرجال وإرادتهم ومن خلال رؤاهم منذ الجاحظ واختيارات محمد بن سلام الجمحي  ومدونات أبي حيان التوحيدي، وكانت مفاجأة التراث العربي في كتاب «نواضر الأيك..» للإمام السيوطى الذى زاد عدد كتبه على خمسمئة كتاب في رواية، وكذلك له فى الحديث عن الجنس كتب: رشف الزلال من السحر الحلال، والوشاح فى فوائد النكاح، وشقائق الأترج فى رقائق الغنج.ومن الكتب التي كتبت عن المرأة ،كتاب أحكام النساء لابن الجوزى، وأدب النساء لابن حبيب الأندلسى، وتحفة العروس للتيجانى، كذلك كتب التفسير التى شرحت علاقة المرأة بالرجل. وفي جميع تلك المصادر كانت صورة المرأة ومشاعرها يشكلها الرجال مفسرين وفقهاءَ ونقادا.

ازدهار الحضارة

كل ذلك وأكثر حدث في عصور ازدهار الحضارة العربية الإسلامية فأين كانت المرأة العربية، ولماذا كانت مُبعدةً عن رسم صورتها الحقيقية والإفصاح عن خبراتها وتجاربها ورغباتها، ألا يعني ذلك أنها كانت مُغيبة بتعمدٍ وإقصاء ،يصنع مصيرَها الرجل ويشكل صورتها ويتكلم عنها وباسمها ويكتب بقلمه أدقَّ ما يتعلق بجسدها وأحاسيسها ومشاعرها.إن نظرة متأنية لمدرسة بيت النبي الكريم وجلوس زوجاته أمهات المؤمنين للإجابة على أسئلة السائلين تؤكد لنا أن المجتمع الذي أنجب نساء النبي لا شكّ في كونه قد أنجب الآلاف من أمثالهن، لكن فلسفة  الحجب والتغييب وجدب الصحراء التي كانت مسرحاً خاصاً بالذكورة وما شكّلت من قيم العشيرة هي التي حرمت المجتمع من خبرات نسائه المحجورات بين الجدران،ولعلّ متأملَ أحوال الأمة العربية اليوم يأخذه الأسف والعجب من تراجع أحوال المرأة بعد نضالها الطويل منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى هذه الساعة، حيث آل مصيرها ومصير أسرتها إلى التهجير والقتل وهدم البيوت وتدمير أولادها وأسرتها بالحروب والعدوان وحرمانها من موردها الاقتصادي ببعدها عن وظيفتها وعن المعمل الذي تشتغل فيه. لقد أسهم العلماء والأدباء والشعراء والنقاد وعلماء الدين والقضاة فى تشكيل صورة المرأة الصامتة المتلقية، ومن هؤلاء الفقيه ابن حزم الأندلسي،والراغب الأصفهانى، وصاحب العقد الفريد ابن عبدربه، فالتراث العربى زاخر بالحديث عن جسد المرأة وعن خصوصيات النساء عبر كتب في مختلف الميادين ،في الأدب واللغة والشواهد ،وكتب التفسير والحديث والفقه ، كلها أسهمت في تشكيل صورالنساء والحديث عن أسرارهن الخاصة مثل كتاب تحفة العروس ومتعة النفوس للتيجانى وعودة الشيخ إلى صباه ونزهة الألباب فيما لا يوجد فى كتاب للتيفاشى و(المحاضرات) للراغب الأصبهانى، وفي كتاب(ألف ليلة وليلة) الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وكتاب(الأغانى للأصفهانى) الذي حوى شعراً ونقداً ودوّن سيرَ حياة المئات من الشعراء ومغامراتهم،وسجل ليالي الخلفاء وقصصهم مع النساء والجــــــــواري ومجالس الأنس والطرب.

ولعلّ من الإنصاف القول إن في كل تلك المصادر التي كتبها الرجال كانت تلتمع فوائدُ جمة وخطرات معرفية قيمة، وفيها إشارات جمالية لا تخفى، لكن الحقيقة جلية في كون كلّ ما كُتب عن المرأة كان برأي الرجل ومقاصده، ومقاصدُهُ لم تكن لتخلو من المصلحة والانحياز لمكاسب الذات ،وليس هدفها الرئيس هو الحقـــيقة النابعة من صميم حالة المرأة الواقعية، ولذلك ظلت المرأة موضوعاً وليست ذاتاً فاعلة ،وكلُّ الخطر يكمن في تشييئ الإنسان ومصـــادرته  وانتزاعه من ذاته الإنسانية وتحويله لشيئ أو موضوعٍ يُحكى عنه لأنه حينها سيغادر ذاته وهويته وسيغيب صوته كما غاب صوت المرأة العربية عبر القرون.

حقوق وواجبات

من هنا كان لا بد للمرأة التي نهض بها الوعي المعاصر بالهوية وبضرورة الحرية والحقوق والواجبات أن تبحث عن صورتها الحقيقية بنفسها ولا تنتظر أحدا أياً كان للقيام بهذا الدور، وأن تضع ملامحَها الأصيلةَ في كل ذلك التراث قيد الدرس والفحص، وأن تكون جديرة برسم صورتها الحقيقية في هذا الزمن بقلمها ساعيةً نحو الحياة بذاتها وكاتبة خبرتها ومشاعرها بنفسها ومعبرة عن آرائها ومقاصدها داخل الثنائية المؤتلفة مع الرجل وليس ضده أو بعيداً عنه،ومع الأسرة وليس خارجها كما دعت المنظمات النسوية المتطرفة في الغرب، باحثة عن الأدوار التي ترى نفسها مُؤهلة للقيام بها في مجتمع لن يتوازن إلا بمشاركتها الجادة في حركته الدؤوب انطلاقاً من ايمانها بأن غيابها عن الساحة إنما يعني تعطيل نصف طاقات المجتمع الإنساني عن الإنتاج والإعمار وتشكيل المدنية والسعي نحوالتحضر، والعمل الجاد من أجل تشكيل الجمال الذي يعدّ من أسمى المقاصد الإنسانية، ساعية إلى المشاركة في بناء المجتمع بناءً سليما. لقد نهضت المرأة بهذا الدور العسير وسط سَدَنة المنظومة التقليدية من حملة الافكار الموروثة الصدئة ووسط المدافعين عنها والمتخندقين في سكونيتها من حماة التخلف وعبدة الماضي الذي عزلوه عن مبادئ الخير والفضيلة والجمال وعن انوار الأديان وجوهر فعلها الخيّر.لكنَّ المرأة نجحت لحدٍّ كبير في اقتحام الساحة الأدبية شعرا ورواية وقصة وتشكيلا، وكان لإسهامها الإبداعي أكبر الأثر في التعبير عن ذاتها وفي ترسيم هويتها ،مسائلة مرة ،ومتمردة اخرى من خلال البوح بكينونة ذاتها الانسانية المقهورة وجدانيا وقانونيا واجتماعيا، رافضة النيابة عنها ما دامت قد حضرتْ وكان حضورها واعياً بأهمية الشعور بمسؤولية الحضور واسترداد الهوية والإفصاح عن مكنونات الذات ،كما نجحت بدخول الميدان الاقتصادي الذي كان له الأثر الأهم في استكمال مسيرة تحررها الحقيقي من التبعية، مؤمنةً بأن التمركز الذكوري والتمييز النوعي بين الرجل والمرأة عبر التاريخ لا علاقة له بالاختلافات البايولوجية بل يندرج ضمن النسق الثقافي والمجتمعي الذي يؤسس له ويديمه والذي تسهم فيه مؤسسات المجتمع كلها بدءاً من مناهج التربية في رياض الأطفال صعوداً إلى الجامعة فوسائل الإعلام فالمؤسسات الاقتصادية وحتى أعلى مراتب الحكم في الدولة. من هنا وجدت الحركات النسوية المناهضة للتمركز الذكوري مجالا لمقاومة هذه الأنساق من خلال مفهوم الجنوسة/ الجندر الذي اتسع لاستيعاب توجهات النسوية بمختلف مرجعياتها الفكرية والايديولوجية.

إن قهر المرأة الذي انعكس على تشكيل صورتها لهو قهرٌ تاريخي وقديم ،وهو ليس في المجتمع العربي حسب، بل هو استلاب حاضر وموجود في كل أرجاء العالم بما في ذلك الدول التي تعدّ متقدمة كالولايات المتحدة وروسيا ودول أوربا، والتأمل في الإحصائيات التي دونت أدوار صنع القرار في البرلمانات والوزارات والإدارات العامة وقيادات الدول يؤكد ذلك. ولهذا الحديث روافد لا تنتهي وشجون تبدأ من الأساطير والحكايات والأغاني والأمثال الشعبية ومناهج التعليم والإعلام والقوانين ،وحتى حكومات الدول المدّعية التي تشتغل فيها الشعارات الزائفة ويغيب الفعل الحقيقي، إذ كانوا وما زالوا يرفعون شعارات تكـــافؤ المرأة مع الرجل وأهمية الأدوار التي تؤديها النساء في المجتمع في كل المؤتمرات، ثم ينسون التوصيات حال خروجهم من جلسات المؤتمر.

أخترنا لك
«كان ينبغي أن أكون طبيباً»... ترمب يتباهى بـقدراته العلمية

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة