منهل الهاشمي
رحل الرجل... ما كان له أن يرحل مغتربا.. وما كان لي أن لا
اودعه، لكن قدر الله وما شاء فعل.. وقد فعل. ولم نزل وسنبقى كرة
تتقاذفها الأقدار والمصائر. الأديب والصحفي والإنسان الكبير
ابداعا وخلقا وإنسانية الأستاذ رزاق إبراهيم رحمه الله غادرنا من
دار الفناء التي لا بقاء فيها.. إلى دار البقاء التي لا فناء
فيها.!
كم كنت أرغب بلقياه قبل الفراق... كنت متوقعا ذلك كل يوم وكل ساعة
لوضعه الصحي والعمري لدرجة ان نعيه ومرثيته كانا محفوران في
ذهني بكلماته وحروفه !.
نم قرير العين أيها الرجل الطيب الصالح ولا تقلق او تحزن فما عاد هنا
سوى الأيام السود تظللنا.. وتضللنا بشؤمها ولؤمها.. ببؤسها
ويأسها.
ارحل بسلام واطمئن على دنيانا الفانية الغانية فها هي الأموال وقد
قسمت.. وها هي الدور وقد سكنت. أيها الرجل النجفي الذي
اتشرف بمشاركتك المديني بجذوري النجفية النقية العريقة، ارحل
ونم بحضرة (داحي الباب) كما اصررت في وصيتك.. واطمئن فأنت
في كفالته وشفاعته، فهو كافل اليتامى وكهف الأرامل والمساكين
فهنيئا لك من جيرة.
كنت قد اخبرتك سابقاً بأني سأكتب عرضا نقديا وأدبيا لكتابك القيم
الجميل (الحصيري وكأس القصيدة) لكن بسبب الانزلاق الغضروفي
اللعين والمتزامن مع الخراب اليومي العظيم والمتراكم على أيدي
ساسة السوس السود عافت نفسي القلم وازدرته كما تعاف النفس العليلة
الطعام وتزدريه لشعوري المرير بلا جدوى ما اكتب وأنه مجرد هراء
وهواء فآثرت _ اختيارا واضطرارا _ طلاق الكتابة في السياسة
طلاقا بائنا لا رجعة فيه وسرعان ما شمل الطلاق الكتابة عن أي شيء
آخر لارتباطه بالسياسة.. فكما المباديء لا تتجزأ كذلك الخراب
!
وكما نكثت بالوعد جاءني الوعيد.. الوعيد من نفسي ولنفسي
لشعوري المرير بالذنب والتقصير.. لا القصور. وما اسلفته أعلاه
بالتأكيد هو من باب التفسير لا التبرير، لكن ومع ذلك فما يشفع لي
ويعزيني هو أني كنت قد لبّيت لنفسي رغبة داخلية دفينة تجاهه
بأن عدته في بيته قبل أكثر من عام وقتما كانت صحته قد تدهورت خصوصا
بعد خروجه من الجريدة للإطمئنان على صحته وتفقده. هالني ما رأيت
منه.. كان الرجل يخط بقدميه خطاً.. وساقيه بالكاد تحملانه ورعاش
اليد والتعب والإرهاق قد أخذوا منه مأخذا. اهديته باقة ورد بسيطة
معبرا عما في داخلي من رغبتي في الاحتفاء به قبل أن تغرب شمس
الوفاء ويبزغ فجر الندم برحيله. وكبروفة.. أو ماكيت مصغر لما
كان من المفترض أن تقوم به مؤسساتنا الثقافية والأدبية الرسمية
القابعة في برجها العاجي المتعالي وفي جدالها البيزنطي
العبثي حول الفرق بين السيميائية.. والسيميولوجية..
والسيميوطيقا !!.
فرح الرجل بزيارتي ففرحت لفرحه وأهداني متفضلا مشكوراً بعضاً
من كتبه القيمة. غادرته وفي القلب غصة على حاله.. وحالي..
وحالنا جميعاً.... كانت غصة اختصرت قصة !
كنت اردد على مسامعه صادقاً بأني أرى فيه والدي رحمه الله بنبله
وتواضعه وحرصه وثقافته وزهده كيف لا وهو من أجيال الطيبة والخير
والبركة أجيال الخمسينات فما دون، الأجيال التي تربت على مصطلحات
الافندية والوطنية والتحرر والاستقلال والاستعمار وما عرفت مصطلحات
التوريق والدمج والفضائي والمرائي والحوسمة... في زمن
الحوكمة !
لذا أجدك يا استاذ رزاق آخر الرجال المحترمين وأن مكانك الطبيعي
هناك في اخرانا لا في دنيانا فيقيني هو الأجمل والأفضل والأنبل
والأعدل. فنم وارتح وتوسد الثرى وتلحّف به فمنه اتينا وإليه نعود
وكلنا ميتون أبناء ميتين، وكم من ميت هو حي.. وكم من حي هو
ميت، فالموتى الحقيقيون ليسوا من طواهم الثَرى... بل من طواهم
النسيان !
ارقد بسلام في راحتك الأبدية عسى أن يكون _ إن شاء الله _
لحاقي بك قريبا !
{ كاتب واكاديمي