غصة تختصر قصة‮ ‬

2020/07/09

منهل الهاشمي‮ ‬
رحل الرجل‮... ‬ما كان له أن‮ ‬يرحل مغتربا‮.. ‬وما كان لي‮ ‬أن لا اودعه،‮ ‬لكن قدر الله وما شاء فعل‮.. ‬وقد فعل‮. ‬ولم نزل وسنبقى كرة تتقاذفها الأقدار والمصائر‮. ‬الأديب والصحفي‮ ‬والإنسان الكبير ابداعا وخلقا وإنسانية الأستاذ رزاق إبراهيم رحمه الله‮ ‬غادرنا من دار الفناء التي‮ ‬لا بقاء فيها‮.. ‬إلى دار البقاء التي‮ ‬لا فناء فيها‮.! ‬
كم كنت أرغب بلقياه قبل الفراق‮... ‬كنت متوقعا ذلك كل‮ ‬يوم وكل ساعة لوضعه الصحي‮ ‬والعمري‮ ‬لدرجة ان نعيه ومرثيته كانا محفوران في‮ ‬ذهني‮ ‬بكلماته وحروفه‮ !.‬
نم قرير العين أيها الرجل الطيب الصالح ولا تقلق او تحزن فما عاد هنا سوى الأيام السود تظللنا‮.. ‬وتضللنا بشؤمها ولؤمها‮.. ‬ببؤسها ويأسها‮. ‬
ارحل بسلام واطمئن على دنيانا الفانية الغانية فها هي‮ ‬الأموال وقد قسمت‮.. ‬وها هي‮ ‬الدور وقد سكنت‮. ‬أيها الرجل النجفي‮ ‬الذي‮ ‬اتشرف بمشاركتك المديني‮ ‬بجذوري‮ ‬النجفية النقية العريقة،‮ ‬ارحل ونم بحضرة‮ (‬داحي‮ ‬الباب‮) ‬كما اصررت في‮ ‬وصيتك‮.. ‬واطمئن فأنت في‮ ‬كفالته وشفاعته،‮ ‬فهو كافل اليتامى وكهف الأرامل والمساكين فهنيئا لك من جيرة‮.‬
كنت قد اخبرتك سابقاً‮ ‬بأني‮ ‬سأكتب عرضا نقديا وأدبيا لكتابك القيم الجميل‮ (‬الحصيري‮ ‬وكأس القصيدة‮) ‬لكن بسبب الانزلاق الغضروفي‮ ‬اللعين والمتزامن مع الخراب اليومي‮ ‬العظيم والمتراكم على أيدي‮ ‬ساسة السوس السود عافت نفسي‮ ‬القلم وازدرته كما تعاف النفس العليلة الطعام وتزدريه لشعوري‮ ‬المرير بلا جدوى ما اكتب وأنه مجرد هراء وهواء فآثرت‮ ‬_ اختيارا واضطرارا‮ ‬_ طلاق الكتابة في‮ ‬السياسة طلاقا بائنا لا رجعة فيه وسرعان ما شمل الطلاق الكتابة عن أي‮ ‬شيء آخر لارتباطه بالسياسة‮.. ‬فكما المباديء لا تتجزأ كذلك الخراب‮ !‬
وكما نكثت بالوعد جاءني‮ ‬الوعيد‮.. ‬الوعيد من نفسي‮ ‬ولنفسي‮ ‬لشعوري‮ ‬المرير بالذنب والتقصير‮.. ‬لا القصور‮. ‬وما اسلفته أعلاه بالتأكيد هو من باب التفسير لا التبرير،‮ ‬لكن ومع ذلك فما‮ ‬يشفع لي‮ ‬ويعزيني‮ ‬هو أني‮ ‬كنت قد لبّيت لنفسي‮ ‬رغبة داخلية دفينة تجاهه بأن عدته في‮ ‬بيته قبل أكثر من عام وقتما كانت صحته قد تدهورت خصوصا بعد خروجه من الجريدة للإطمئنان على صحته وتفقده‮. ‬هالني‮ ‬ما رأيت منه‮.. ‬كان الرجل‮ ‬يخط بقدميه خطاً‮.. ‬وساقيه بالكاد تحملانه ورعاش اليد والتعب والإرهاق قد أخذوا منه مأخذا‮. ‬اهديته باقة ورد بسيطة معبرا عما في‮ ‬داخلي‮ ‬من رغبتي‮ ‬في‮ ‬الاحتفاء به قبل أن تغرب شمس الوفاء ويبزغ‮ ‬فجر الندم برحيله‮. ‬وكبروفة‮.. ‬أو ماكيت مصغر لما كان من المفترض أن تقوم به مؤسساتنا الثقافية والأدبية الرسمية القابعة في‮ ‬برجها العاجي‮ ‬المتعالي‮ ‬وفي‮ ‬جدالها البيزنطي‮ ‬العبثي‮ ‬حول الفرق بين السيميائية‮.. ‬والسيميولوجية‮.. ‬والسيميوطيقا‮ !!.‬
فرح الرجل بزيارتي‮ ‬ففرحت لفرحه وأهداني‮ ‬متفضلا مشكوراً‮ ‬بعضاً‮ ‬من كتبه القيمة‮. ‬غادرته وفي‮ ‬القلب‮ ‬غصة على حاله‮.. ‬وحالي‮.. ‬وحالنا جميعاً‮.... ‬كانت‮ ‬غصة اختصرت قصة‮ !‬
كنت اردد على مسامعه صادقاً‮ ‬بأني‮ ‬أرى فيه والدي‮ ‬رحمه الله بنبله وتواضعه وحرصه وثقافته وزهده كيف لا وهو من أجيال الطيبة والخير والبركة أجيال الخمسينات فما دون،‮ ‬الأجيال التي‮ ‬تربت على مصطلحات الافندية والوطنية والتحرر والاستقلال والاستعمار وما عرفت مصطلحات التوريق والدمج والفضائي‮ ‬والمرائي‮ ‬والحوسمة‮... ‬في‮ ‬زمن الحوكمة‮ !‬
لذا أجدك‮ ‬يا استاذ رزاق آخر الرجال المحترمين وأن مكانك الطبيعي‮ ‬هناك في‮ ‬اخرانا لا في‮ ‬دنيانا فيقيني‮ ‬هو الأجمل والأفضل والأنبل والأعدل‮. ‬فنم وارتح وتوسد الثرى وتلحّف به فمنه اتينا وإليه نعود وكلنا ميتون أبناء ميتين،‮ ‬وكم من ميت هو حي‮.. ‬وكم من حي‮ ‬هو ميت،‮ ‬فالموتى الحقيقيون ليسوا من طواهم الثَرى‮... ‬بل من طواهم النسيان‮ ! ‬
ارقد بسلام في‮ ‬راحتك الأبدية عسى أن‮ ‬يكون‮ ‬_ إن شاء الله‮ ‬_ لحاقي‮ ‬بك قريبا‮ ! ‬
‮{ ‬كاتب واكاديمي‮ ‬
أخترنا لك
«إف بي آي»: 3.5 مليار دولار أرباح الجرائم الإلكترونية في 2019

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة