صيدُ‮ ‬البط البري.. الرواية التي‮ ‬دوّنت الجريمة

2020/06/29

بشرى البستاني
1
عُدت الرواية عبر تاريخها المعاصر فنا مركبا وغير مستقر منذ فتحت أبوابها لمختلف أنواع الفنون والثقافات وغدت منطقة متغيرة قابلة لاستقبال ما‮ ‬يفد إليها،‮ ‬فهي‮ ‬أقرب ما تكون إلى الشكل الذي‮ ‬تتداخل فيه ألوان عدة من المعارف ويتضمن بين طياته فضلا عن الحكاية والاخبار أبعاداً‮ ‬فكرية ومنظورات ورؤى متعددة‮ ‬،‮ ‬مما‮  ‬يعني‮ ‬أن الرواية فن دائم الانفتاح ليس له شكل تحدّه حدود وترسيمات،‮ ‬لقدرته الدائمة على الاستقبال والاحتواء،‮ ‬فضلا عن كون فنها السردي‮ ‬يتشكل عبر المتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية،‮ ‬فيما‮ ‬يمتلك الشعر واللوحة والفنون التشكيلية أشكالاً‮ ‬ذات سمات خاصة بها،‮ ‬تقوم على ألوانٍ‮ ‬من التوتر والخصائص المائزة.لقد كان لاستيعاب الرواية ميادين عدة،‮ ‬ما سوّغ‮ ‬للنقاد والمشتغلين بهذا أن‮ ‬يطلقوا عليها مصطلحات ذات علاقة بمضامينها كالرواية التاريخية والرواية السياسية والرواية الشعرية وغير ذلك من واقعية واجتماعية وطبيعية،‮ ‬وكان هذا جديرا بتفسير التطورات السريعة‮  ‬التي‮ ‬مرت بها،‮ ‬والتشكلات المتداخلة والمكثفة التي‮ ‬آلت إليها‮ ‬،‮ ‬والتي‮ ‬تجعلها اليوم أقرب ما تكون الى مصطلح الرواية الإشكالية‮. ‬
‮       ‬ان الإذابة والاحتواء اللذين اتسمت بهما الكتابة الجديدة‮  ‬يمتلكان القدرة على التخلل في‮ ‬جوهر النص والحلول‮  ‬في‮ ‬خفاياه لتنهض التداخلات دون منطق او تبرير‮ ‬،‮ ‬تنهض فجاة وعلى حين‮ ‬غرة من المتلقي‮ ‬مجارية لا منطق الأحداث والوقائع في‮ ‬زمن‮ ‬غير محدد ومكان لم‮ ‬يعد أرضية لفعل الشخصيات لان حضوره لم‮ ‬يعد‮  ‬حضورا فيزيائيا،‮ ‬بل‮ ‬غدا نبضا‮ ‬يتوهج في‮ ‬مجمل العناصر البنائية للنص معبرا عن وجهة نظرها وناهضا بتشكيل وظائفها الجمالية،وصارالمكان مرتبطاً‮ ‬بظاهرة الزمن المطلق‮  ‬الذي‮ ‬غابت فيه الحدود والترسيمات،‮ ‬ولذلك‮ ‬يؤكد هيدجر ان الزمن هو الأفق‮  ‬المتعالي‮ ‬الذي‮ ‬ننظر منه الى السؤال عن الوجود‮ ‬،‮ ‬فغياب محددات الزمن في‮ ‬النص الأدبي‮ ‬لا‮ ‬يعني‮ ‬غياب الزمن بل‮ ‬يدعونا ذلك الغياب الى البحث عن فاعليته الكامنة في‮ ‬الطبقات الخفية داخل النص‮   ‬من اجل كتابة حرة ارتبطت بفنية نص الكتابة أو كتابة النص‮/ ‬الرواية‮.‬
2
 يفتتح الروائي‮ ‬العراقي‮ ‬محمود سعيد نصه في‮ ‬أعلى الجهة اليمنى من المحور الأول للرواية بالرقم‮  ‬1 دون أقواس ولا محدّدات مما‮ ‬يعني‮ ‬أن الزمن مفتوح،‮ ‬فالأدب فن زمني‮ ‬لكن زمنيته كثيرا ما تكون مطلقة‮ ‬،وما‮ ‬غيابه في‮ ‬مثل هذا النص إلا‮ ‬غيابٌ‮ ‬تمويهي‮ ‬ليكون الحدث مفتوحاً‮ ‬على كوارث دموية ماحقة‮ ‬يموت فيها شعب كامل ويتشرد ويجوع ويعرى ويحترق وتنهار على رأسه سقوف المنازل‮. ‬ويتساءلُ‮ ‬القارئ الشريف،‮ ‬أليس من حل آخر لمشكلة احتلال الكويت‮ ‬غير دمار ملايين العراقيين الأبرياء الذين لا علاقة لهم بالسياسة ولا بأربابها المجرمين،‮ ‬وحرقهم بالصواريخ والقنابل الماحقة وأنواع التعذيب في‮ ‬السجون والمعتقلات والمنافي‮..‬تجيب الرواية على هذا السؤال المهم،‮ ‬تجيب على لسان أقطاب السياسة الأمريكية ذاتها كما سيرد عبر فصول الرواية التي‮ ‬دارت حول قضيتين رئيستين الحرب والمنفى وبينهما تنهض قضية تظل حاضرة ومصاحبة هي‮ ‬قضية الهوية مما‮ ‬يجعل النص الروائي‮ ‬ثريا بأحداثه التي‮ ‬تداخلت فيها رؤى السارد مع رؤى المؤلف الذي‮ ‬كان عبر سطور النص واضح الانتماء لعراقيته ولقضية شعبه المنكوب بعدوانات الداخل والخارج معا‮.‬
تُروى أحداث الرواية بأكثر من نوع سردي‮ ‬قد‮ ‬يكون الاسترجاع في‮ ‬طليعتها وقد‮ ‬يوكل سرد الأحداث للشخصيات،أما الوسائل السردية فكانت تتراوح بين الوصف والحوار،‮ ‬وصف القصف والجثث المتفحمة والمتطايرة والعوائل التي‮ ‬احترقت وتفحمت بسياراتها على طريق صفوان عبورا من الكويت في‮ ‬طريقها للعراق هربا من نيران المتفجرات عبر المجازر الأمريكية التي‮ ‬خلفت آثارا كارثية كابوسية في‮ ‬الإنسان العراقي‮ ‬نجدها واضحة في‮ ‬الشخصية الرئيسة‮ "‬منصف‮" ‬والكوابيس التي‮ ‬تداهمه ليلا،وتعرقل حياته وما‮ ‬يصحبها من صراخ رافض وحمى مؤكداً‮ ‬للقارئ أن من لم‮ ‬يمت أثناء الجريمة مات في‮ ‬طريق العودة من الكويت إلى بغداد والموصل ومدن العراق الأخرى مشيا على الأقدام،أو حمل أوزارها لما بعد الحرب كما حملها‮ "‬منصف‮" ‬الذي‮ ‬فقد والديه في‮ ‬ملجأ العامرية وأنجبت شقيقته طفلة معاقة‮   ‬بسبب سموم المتفجرات‮  ‬وتلوث أجواء العراق لزمن طويل قادم.منصف العراقي‮ ‬الذي‮ ‬عاش الحروب فقداناً‮ ‬ومنافيَ‮ ‬وكوابيس وصراخا ليليا وحمى‮ "‬لنلعب الكرة هيا،‮ ‬رمى العريف كرة سوداءَ‮..‬ماهذه‮ ‬،ليست كرة،‮ ‬رأس إنسان آدمي‮ ‬محروق‮" ‬هكذا‮ ‬يوظف محمود سعيد الصدمة في‮ ‬معالجة الشخصية الروائية والقارئ معا،وما‮ ‬يحسب للرواية أنها كتبت بروح الانتماء للعراق وشعبه وهويته مُدينة العدوان وكاشفة أبعاد الجريمة من خلال تعرية زيف وادعاء حضارة مادية لا تمت للإنسانية بصلة انطلاقا من حقيقة أن أول درجات السقوط تتم عبر تعرية سلبيات العدو وكشفها للعيان‮.‬
‮  ‬لقد كانت دلالات الأسماء إشارات موظفة لمهماتها فكان منصف مخلصا لقضية وطنه وكانت سناء وابنتها فجر تمثلان أمل الغد لفلسطين والعراق معاً‮ ‬وكانت الحوارات تدور منسجمة مع الوقائع وإن كان بعضها متسماً‮ ‬بالسرعة،‮ ‬وكان الوصف في‮ ‬الرواية موظفا ضد الحرب من خلال تجريم صورتها بعين القارئ‮  ‬وتبشيعها وتعرية دمويتها وإسقاط مُشعليها،‮ ‬وكانت المونلوجات حميمة وقد أضفت في‮ ‬قطعها للسياق جماليات أسلوبية على السرد،‮ ‬مما حدا بماجد الخطيب القول،‮ "‬إذا كان محمود قد استخدم سيناريو الأفلام في‮ ‬صياغة المشاهد الأولى من الرواية،فإنه استخدم البناء الدرامي‮ ‬المسرحي‮ ‬الكلاسيكي‮ ‬في‮ ‬صياغة مشاهده الأخيرة‮" ‬ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الرواية أعطت للمرأة أكثر من دور إيجابي،‮ ‬فكانت تاتشر‮ (‬سناء الفلسطينية‮) ‬واحدة من الرموز النسويةالإيجابية التي‮ ‬فهمت اشتياك قضايا أمتها وقامت بواجبها الثوري‮ ‬الإنساني‮ ‬في‮ ‬توثيق العدوان الأمريكي‮ ‬على السجناء العراقيين في‮ ‬أبي‮ ‬غريب،‮ ‬كما كانت السيدة الأمريكية المناهضة للحرب على العراق مشاركة هي‮ ‬وابنتها الطفلة‮  ‬في‮ ‬التظاهرات ضد العدوان الأمريكي‮ ‬مما‮ ‬يعمل على تلوين الحدث وتحريكه ما بين الواقعي‮ ‬المعاصر وغير الواقعي،فضلا عن تنوع أساليب السرد ما بين الاسترجاع والحدث الحاضر وأنواع الحوار وحركة الشخصيات وقدرتها على تحريك الأحداث مما أضفى نشاطا وحركية على أسلوب الرواية،ولا بد من الإشارة هنا إلى ملاحظات سجلها محاورو الندوة الخاصة بهذه الرواية أهمها وجود بعض الأخطاء النحوية وعدم الدقة في‮ ‬روي‮ ‬بعض الأحداث والمعلومات السياسية‮.‬
‮ ‬لقد أثنى الناقد فاضل ثامرعلى أداء الرواية إذ تخرج من عنق الزجاجة الفردي‮ ‬إلى فضاء اجتماعي‮ ‬أوسع مؤكدا أن الفصول الأولى ركزت على العالم الداخلي‮ ‬لبطل الرواية المركزي‮ "‬منصف‮" ‬العراقي‮ ‬المغترب وكوابيسه ومعاناته،في‮ ‬طريق هربه من الكويت الى البصرة،وأثنى‮  ‬الناقد أسعد اللامي‮ ‬على الرواية وكاتبها من حيث تشكيل الشخصية المركزية والتفنن في‮ ‬التعامل مع المكان وخلق الصور وتحريك المشاهد وتصويرها عبر فضاءات متنامية بحيث قدم الروائي‮ ‬نصاً‮ ‬جمعيا للمكان والانسان فضلا عن تعبيره عن الوجود الانساني‮ ‬المتناقض في‮ ‬ذاته.ويورد الناقد ماجد الخطيب استذكاره لفلم‮ "‬جارهيد‮" ‬الأمريكي‮ ‬الذي‮ ‬قدم بشاعة حرب الكويت التي‮ ‬جرت على العراق والعراقيين وفناء مئات الآلاف من العراقيين على طريق الموت وحده في‮ ‬تلك الحرب،‮ ‬ويدون الخطيب زيف ادعاء الجريمة الأمريكية بأسلحة الدمار الشامل،‮ ‬وأشاد بالحوارات الداخلية مؤكدا أن مونولوجات الرواية ذكية وممتعة‮. ‬
3
يسرد الراوي‮ ‬بضمير الغائب كونه الضمير الذي‮ ‬يمنح المبدعين كتاباً‮ ‬وقراء أفقا حركيا وفضاءً‮ ‬أوسع من ضمير المتكلم،‮ ‬الجمل قصيرة متتالية،‮ ‬سرعة الأحداث لا تمنح أي‮ ‬فرصة لحروف العطف؛ لأن حروف العطف حتى لو كانت حرفاً‮ ‬واحدا كالواو والفاء،‮ ‬فهي‮ ‬تحتاج زمنا لأنجازها،‮ ‬ولذلك تتوالى الجمل سريعة موجعة‮ " ‬فجأة مرقت السيارة الصغيرة الحمراء أمامه‮ ... ‬تفجرت الدماء ساخنة في‮ ‬صدغيه‮... ‬كارثة‮ ‬،‮ ‬كارثةٌ‮ ‬رهيبة،‮ ‬احتراق أطفال ثلاثة مع أمهم وأبيهم‮." ‬يتماهى لون السيارة الأحمر مع الدماء النازفة والتي‮ ‬ستواصل نزفها عبرصفحات الرواية كلها‮. ‬هكذا‮ ‬يبدأ الروائي‮ ‬محمود سعيد روايته‮ "‬صيد البط البري‮"  ‬بكارثة دموية ولغة ملهوفة تقدم أحداثها دون تمهيدات،‮ ‬فما جرى ويجري‮ ‬للعراق وشعبه لم‮ ‬يعد‮ ‬يحتمل أي‮ ‬تمهيد،‮ ‬ولا‮ ‬يحتاج لمقدمات لأنه صار معلوما للعالم كله‮.." ‬سيحترقون مع أبويهم،‮ ‬كآلاف الأطفال الذين احترقوا وأهاليهم في‮ ‬طريق الموت داخل سياراتهم هاربين من الكويت‮.." ‬جمل قصيرة،‮ ‬فالحدث لا‮ ‬يحتمل الإسهاب،‮ ‬إنه‮ ‬يريد أن‮ ‬يلاحق ما‮ ‬يجري،‮ ‬يحرص على سرد حكاية عصر مأزوم بفصول الجريمة الأمريكية المعاصرة،‮ ‬الجريمة التي‮ ‬قتلت العراقيين وشردتهم‮..‬يرويها عبر لغة لا تنفي‮ ‬الواقع ولا تهمل التخييل بل تجمع بينهما في‮ ‬أسلوب الروي‮ ‬عبر نمذجة لغوية استطاع صدق التجربة الفنية أن‮ ‬يُديرها بتمكن،‮ ‬فالكتابة حياة‮ ‬،‮ ‬لا فواصل بين الكتابة والحياة،‮ ‬وهذه الرواية نموذج لا‮ ‬ينفي‮ ‬الواقع ولا‮ ‬يغادر ما تتطلبه لغة السرد الروائي،‮ ‬بل‮ ‬يجمع بينهما في‮ ‬تشكيلات حركية بحيث صارت الرواية حياة قائمة بذاتها،‮ ‬حياة تعرض أحداثاً‮ ‬متناقضة لكنها تبدو للقارئ بغاية الانسجام انطلاقاً‮ ‬من قدرة المخيلة على صهر المتناقضات وإعادة تشكيلها وسط الحدث الرئيس من جديد،‮ ‬من هنا استطاع الروائي‮ ‬أن‮ ‬يستعرض وسط النيران آثار وطنه ونخيله وأنهاره والسفرات التي‮ ‬كانت تهيب بالعراقيين للخروج إلى بهاء طبيعته وأنهاره وغاباته الخضر‮. ‬ويوجعه احتراق النخيل بصواريخ العدوان والأحداث التي‮ ‬مرت عليه محولةً‮ ‬إياه لصور عذاب مريرة تستوقف الشخصية الرئيسة‮ (‬منصف‮) ‬ليردد في‮ ‬مونلوج موجع‮ "  ‬كل العلاقات تذوب في‮ ‬زحمة الحياة،وحدها أحداث العراق تسيطر على عقله،‮ ‬العراقُ‮ ‬يعني‮ ‬هو‮ ‬،‮ ‬هو‮ ‬يعني‮ ‬العراق‮" ‬أي‮ ‬وجع أقسى من هذا الذي‮ ‬لا‮ ‬يغادر ولا‮ ‬يهدأ ولا‮ ‬يقبل المساومة‮.! ‬
إن المونولوج‮ ‬يأتي‮ ‬لقطع السرد ولتنبيه القارئ لأمر مهم‮ ‬يساور الشخصية الرئيسة ويهيمن على وجدانها فضلاً‮ ‬عن مهمته الأسلوبية الجمالية‮..‬
إن التلاعب بالزمن قطعاً‮ ‬ووصلاً‮ ‬يرد في‮ ‬الرواية دون نتوءات،‮ ‬بل هو‮ ‬يجري‮ ‬عبر انعطافات سرية لا‮ ‬يجد القارئ نفسه إلا وقد انعطف من لحظة زمنية إلى أخرى مختلفة وبعيدة،‮ ‬من لحظة موجعة إلى ماض جميل‮..‬ينساب الحزن والأحداث الكبيرة فلا نشعر الا بتغير الزمان والمكان،‮ ‬وهذا ما أتاحه فن‮ ‬«المونتاج» الذي‮ ‬ابتكره السينمائي‮ ‬الروسي‮ ‬«سيرغي‮ ‬إيزنشتاين» ( 1898-1948) بإيحاء من فن الشعر،‮ ‬وخاصة أشعار بوشكين،‮ ‬والشعر الياباني‮ ‬والصيني،‮ ‬ويوضح محمد الأسعد المهتم بفن الهايكو بوقت مبكر أنَّ‮ ‬المعنيَّ‮ ‬هنا هو المونتاج،‮ ‬أو القطع والوصل،‮ ‬البارز في‮ ‬قصائد الهايكوالتي‮ ‬تتشكل تركيباً‮ ‬من صورتين رمزيتين،‮ ‬لا‮ ‬يبقى فيه الناتج تعبيراً‮ ‬عن مجموعهما،‮ ‬بل نتاجاً‮ ‬لهما،‮ ‬بوصفه قيمة لبعد آخر،‮ ‬ينبثق منه مفهوم جديد لا‮ ‬ينتمي‮ ‬لأي‮ ‬واحدة من الصورتين على انفراد وكثيراً‮ ‬ما‮ ‬يكون التركيز على الفعل المضارع مستمدا من التصوير البصري‮."‬عليه أن‮ ‬يسألها إن كانت تحب التزلج‮ ‬،جسمها رياضي،‮ ‬من‮ ‬يدري،‮ ‬انهالت في‮ ‬ذهنه رحلات الربيع في‮ ‬الصبا،سلمان باك الحبانية،‮ ‬جزيرة أم الخنازير بحيرة ساوة‮ ‬،الأخيضر،‮ ‬الشمال‮ " ‬ص90 إنه‮ ‬يرتل أسماء الأماكن في‮ ‬وطنه،‮ ‬يثبتها على الورق منتزعاً‮ ‬صورها من الذاكرة ومحاولاً‮ ‬تشكيلها آنياً‮ ‬ليمنحها حضوراً‮ ‬عينياً‮ ‬يستقر في‮ ‬الحدث لينفتح على القراءة من جديد‮. ‬أسماء الأماكن في‮ ‬النص الأدبي‮ ‬استحضار لها مع تعدد القراء والقراءات مما‮ ‬يعني‮ ‬تشكلها من جديد في‮ ‬كل قراءة،‮ ‬لتظل شاخصة عبر الزمن‮  ‬تدفع عنه بعض جروح الوحشة والاغتراب الذي‮ ‬يحجب عنه بهجة الحياة وصخب الناس من حوله‮ ..(‬الحياةُ‮ ‬دائما صاخبة من حوله‮ ‬،لكنه دائما وحيد‮) ‬حيث‮ ‬يتداخل الصوتي‮ ‬بالبصري‮ ‬في‮ ‬مقابلة طباقية حين‮ ‬يكون الطباق في‮ ‬مثل هذا النص نابضا في‮ ‬بنيته وليس زينة خارجية لتلوينه‮. ‬وبين صخب المسموع ووحشة المرئي‮ ‬في‮ ‬الصورة البصرية السمعية‮ ‬يكمن عذاب الشخصية الرئيسة‮ (‬منصف‮) ‬مؤكداً‮ ‬أنّ‮ " ‬العراق‮ ‬يعني‮ ‬هو،‮ ‬هو‮ ‬يعني‮ ‬العراق‮" ‬الرواية‮ ‬85. إن وعي‮ ‬السارد هو الذي‮ ‬يقود السرد لأنه هو الذي‮ ‬يوجه حركة الحياة،‮ ‬ووعي‮ (‬منصف‮) ‬كان بالرغم من حركيته‮ ‬يدور حول العراق،ماجرى فيه وما‮ ‬يجري،‮ ‬احتراق والديه معا في‮ ‬ملجأ العامرية مع مئات الأطفال والنساء والشيوخ حرقاً‮ ‬بالصواريخ الذكية،‮ ‬مصطلحات العصر كلها كاذبة‮ ‬،مرائية،‮ ‬مضللة،‮ ‬الصواريخ ذكية في‮ ‬الاختيار،لأنها تبيد الإنسان فلا تبقي‮ ‬له أثرا،‮ "‬كل العلاقات تذوب في‮ ‬زحمة الحياة،‮ ‬وحدها أحداثُ‮ ‬العراق تسيطر على عقله‮" ‬الرواية،‮ ‬ص‮ ‬87  . 
4
إن سيطرة محمود سعيد على اللغة والقدرة على توجيهها‮  ‬إنما كانت ناتج وعي‮ ‬بقدرتها الأيحائية عبر تشكيلات معينة تمنح طاقةً‮ ‬دلاليةً‮ ‬أكبر حين‮ ‬يختزل مفرداتها،‮ ‬ها هو‮ ‬يعبر عن اغتراب الشخصية الرئيسة الموجع عبر جملتين موجزتين لا‮ ‬غير‮.. "‬الحياةُ‮ ‬دائما صاخبةٌ‮ ‬من حوله،‮ ‬لكنه دائماً‮ ‬وحيد‮" ‬قد‮ ‬يظن القارئ لأول وهلة أن الجملة عابرة وخالية من جمالية القول،‮ ‬لكن المتأمل سيجد أكثر من انعطافة تحرك الجملة نحو أدبية كامنة لكن بهدوء التأمل.الجملة الأسمية تفيد الثبوت والديمومة مما‮ ‬يعمق وحشة اغتراب البطل ويطيل أمدها،‮ ‬اسم الفاعل‮ ‬–صاخبة بقدرته عاى الدوام واستمرار الفاعلية،‮ ‬الطباق البلاغي‮ ‬يرد عبر التناقض الواضح بين الصخب والوحدة،فضلاً‮ ‬عن تداخل الصوتي‮ ‬بالصوري‮ ‬ما بين الصخب والوحدة،‮  ‬تكرار‮ (‬دائما‮) ‬الذي‮ ‬يمنح امتداداً‮ ‬زمنياً‮ ‬لوحشةٍ‮ ‬موغلة بالعذاب،‮ ‬فالسارد‮ ‬يدرك أن العبرة كلها تكمن فيما‮ ‬يختبئ وراء الكلمات من دلالة،‮ ‬لأن المعنى متاح في‮ ‬القواميس،‮ ‬بينما الدلالة‮ ‬يشكلها السياق بتموجاته عبر‮ "‬الفهم‮" ‬بين قارئ وآخر‮. ‬
ان الرواية تتبنى منذ بداية السرد وجهة نظر واضحة مع قضية وطن منكوب وشعب لم تفقده الضرباتُ‮ ‬الموجعة التوازن كلياً‮ ‬ولم توصله لمرحلة اليأس المتقاطع مع الحياة‮ ‬،بل ظل‮ ‬يقاوم محاولاً‮ ‬الحفاظ على مقوماتها مؤكداً‮ ‬أن الحدث التاريخي‮ ‬لا‮ ‬يقلّ‮ ‬أهمية عن الواقع في‮ ‬مدِّ‮ ‬الروائي‮ ‬بالمادة التي‮ ‬سيعيد صياغتها،‮ ‬لأنهما معاً‮ ‬مصدر مهم من مصادر الخبرة الإنسانية،‮ ‬فالتاريخ والأحداث ليس مجرد حكايات‮ ‬يرويها السارد باستعادة أحداث ماضية،‮ ‬بل هو‮ ‬يسعى لتحقيق هدف مهم‮ ‬يكمن في‮ ‬إنتاج تشكيل فني‮ ‬يهدف إلى تحقيق المعرفة والمتعة الجمالية وتكمن فيه العبرة والحكمة والرؤى الإنسانية إيجابا وسلبا من خلال إعادة تشكيل الحدث التاريخي‮."‬ندوة عن محمود سعيد،الزمان،بغداد‮".    ‬
5
تحرص الرواية على سرد أنواع العدوانات على العراقيين من خلال ممارسات الاحتلال القمعية،‮ ‬فتعترف منظمة العفو الدولية أنها تفاجأت بضخامة عدد المعتقلين العراقيين،‮ -‬اعتراف الجنرال ديمسي‮ "‬وضعنا مكافأة لكل من‮ ‬يقدم وشاية على عراقي‮ ‬صحيحة كانت أم كاذبة،‮ (‬يألله‮ ‬،أية ديمقراطية وأية عدالة وإنسانية‮ ‬يندى لها جبين الشرفاء‮!).. " ‬شددنا أيديهم إلى ظهورهم مدة تزيد على ثمانين ساعة قبل أن تتأكد تهمتهم‮" /‬حضارة إنسانية‮.!!‬
‮-‬الجنرال شافسيز،‮ "‬لا تتركوهم‮ ‬ينامون‮ ‬،‮ ‬ضوضاء،‮ ‬ضرب،‮ ‬إهانات،‮ ‬يجب معاملة السجناء كالكلاب وإلا فقدنا السيطرة،‮ ‬ربطناهم إلى الشبابيك عراة في‮ ‬برد تحت الصفر‮." ‬اعتراف موظف أمريكي‮ ‬في‮ ‬الداخلية‮ " ‬تقضي‮ ‬التعليمات أن نجعل المساجين كل‮ ‬يوم أسوأ من سابقه‮".. ‬ص‮ ‬91. 
يتابع السارد ردود فعل دول العالم حول العدوان ثانية وثالثة على العراق‮.. "‬تعذيب سجناء أبي‮ ‬غريب‮ ‬يثير‮ ‬غضبا دوليا‮"‬،لكن ماذا فعل هذ ا الغضب لأمريكا،‮ ‬وماذا قدم للعراق والعراقيين،‮ ‬وهل عاقبها وأدان سياستها الحاقدة،‮ ‬وأجبرها على تعويض العراقيين ما خسروا ويخسرون‮..‬رئيس عمال نقابات السكك الفرنسية‮ ‬يسير في‮ ‬مقدمة رافضي‮ ‬العدوان على العراق‮.. ‬الرواية،‮ ‬ص‮ ‬91  
   يؤكد النقاد أن حوادث الرواية أكثر تشويقا من الحوادث الواقعية بسبب‮ ‬غواية الاسلوب واللعب باللغة وفتنة الخيال‮ .‬ان تطبيق أحداث الرواية على الأحداث الحقيقية أمر بمنتهى التعقيد‮ ‬يقول بوتور،‮ ‬لكنه في‮ ‬مثل رواية محمود سعيد التي‮ ‬كتبت في‮ ‬كنف أصوات الصواريخ ودخان المتفجرات قد لا‮ ‬يجد المفسر لأحداثها ذلك التعقيد الذي‮ ‬يشكل عقبة حجب كلي‮ ‬أو نتوءاً‮ ‬مستعصيا على الفهم‮.‬
إن القصص الحقيقية في‮ ‬حال صيرورتها تغدو شيئا فشيئا عامة وتاريخية تتحدد وتنتظم وتتبدل على وفق بعض المبادئ،‮ ‬فالعالم‮ ‬يتغير بسرعة والتقنيات الروائية قد لا تكون صالحة للتعبير إذ تنقصنا أدوات التعبير في‮ ‬كثير من الأحيان مما‮ ‬ينتج قلقاً‮ ‬دائما‮ ‬ينعكس على النقد،ويؤكد بوتور.ان الآبتكار الشكلي‮ ‬في‮ ‬الرواية بعيد عن مناقضة الواقعية كما‮ ‬يتصور بعض النقاد،‮ ‬وهو الشرط الذي‮ ‬لا‮ ‬غنى عنه لمزيد من الواقعية‮.‬
‮      ‬إن نص رواية‮ " ‬صيد البط البري‮" ‬يتسم بالتنوع‮  ‬والتكامل محققا‮  ‬انفتاح السارد على القارئ في‮ ‬محاولة لردم الهوة بين المؤلف والقارئ بوصفهما شخصيات افتراضية‮ ‬يتحركان داخل نسق الحكايةعبر التجاور الدائم بين التخييلي‮ ‬والواقعي‮.  ‬وتحرصُ‮ ‬مجريات الأحداث في‮ ‬الرواية على ترسيم أدوار نبيلة للعراقيين المقيمين في‮ ‬الخارج ولا سيما في‮ ‬أمريكا الجريمة‮.   ‬
‮   ‬إن مما‮ ‬يلفت الانتباه ونحن نقرأ الكوارث التي‮ ‬حلت بالعراقيين وما رافق ذلك من عذاب التشرد والنفي‮ ‬والتهجير،أن كل ذلك ورد بأسلوب هادئ وجمل‮ ‬يغلب عليها القصر والسرعة،‮ ‬لا تستوقفها المجازات ولا تقطع أسلوبها الانزياحات المتــلاحقة‮ ‬،وكأن الراوي‮ ‬يلاحق الأحداث بسرعة تحرص على استيفاء كل الوجع دون أن‮ ‬يفلت منه شيء‮ ‬،لكن تلك الجمل القصيرة ظلت مكتنزة بالاحتجاج والغضب ومرارة اللوعة على شعب‮ ‬يُحرق ويُهجّر ويُشتت دون أن‮ ‬يقترف إثما‮ ‬غير وجوده في‮ ‬قلب التاريخ ماضيا‮ ‬،وفي‮ ‬قلب الدنيا موقعاً،‮  ‬وغير وجود ذلك الكنز الأسود مدفونا في‮ ‬أعماق ترابه‮. ‬

68994

أخترنا لك
برج سكني صممته زها حديد يحدث ضجة في ميامي الأمريكية

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة