الحاجز
المصطنع بين الفقه والشعر ، لاتزال آثاره في المشهد الثقافي
المعاصر ، فهناك مَن ينظر للشعر برتبة أدنى في الأهمية من
باقي العلوم الإنسانية، ومنها العلوم الدينية ، ولكن
أستاذنا الحجة الفقية سماحة العلامة السيد حسين السيد محمد هادي
الصدر، حفظه الله، قد كَسَرَ هذا الطوق ، وهو كاسره قبل
الآن ، ولكن في هذا الديوان قد أعطى للشعر منزلة إنسانية
عالية، وافاض علينا بخلجات قلبه الفياض بالحب والوفاء لأصدقائه،
بما جعل الشعر جوهرة فريدة ، وهو يرثي صديقه الصدوق
المرحوم السيد جودت القزويني، رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته
، حتى أن القارئ قد يتمنى أن يكون هو المُرثى !
قصيدة وتسع وخمسون رباعية قد ضمّها هذا الديوان الفريد العابق بأروع
معاني الوفاء وصدق المشاعر للراحل الكبير العَلَمُ العلاّمة
الشاعر والمحقق والموسوعي السيد جودت القزويني، رحمه الله،
وفي هذا فقد أضاف سماحة الحجة الصدر للأدب العربي رباعيات
ستكون محوراً جديداً للإبداع في أدبنا العربي المعاصر ،
فهل ستتناولها الأقلام النقدية بالاهتمام كما اهتمت برباعيات
الخيام في السابق ؟ ، وكما يقول عنها الدكتور إبراهيم
العاني (( أنه سؤال ستجيب عنه الدراسات النقدية المفصلة والمعمقة
في قابل الأيام )) .
هذه المجموعة الشعرية ليست كلمات على الورق ، وإنما هو فؤاد
تناثر بين سطور هذه الرباعيات، وتكاد الأوراق أن تبتلّ
بالدموع، وتمتلأ بالأسى، وتزدان بالوفاء لهذه الصداقة والعلاقة
الإنسانية النبيلة التي امتدت منذ سبعينيات القرن الماضي .
يقول العلامة الصدر ، حفظه الله، في مقالة له قبل وفاة
السيد جودت القزويني ، رحمه الله، :
(( والدكتور جودت القزويني _ حفظه الله _ هو واحدٌ من
الأحبّة الذين تمتد علاقتنا به إلى ما يزيد عن أربعة عقود من
الزمن ، ولو جُمعت الرسائل والمساجلات المتبادلة بيننا لشكّلتْ
ملفّاً ضخماً يشتمل على العديد من القصائد.
ومنها قصيدة ( فتى الرافدين ) التي طبعت ضمن ( إسبوع شعري
) في سبعينيات القرن الماضي، والتي أقول فيها :
خَفوقٌ بحبِّكَ قلبُ ( الحسين )
وحبُّكَ في ذمةِ ( الصدر ) دَيْنْ
لكَ الرافدانِ نقاءٌ ومجدٌ
وأنتَ لعمري فتى الرافدينْ
وقد نظمت القصيدة إثر دراسته على يدي ( أصول الفقه) في
سبعينيات القرن الماضي .
وحين وقف المرحوم الدكتور الشيخ أحمد حسن الباقوري على القصيدة
أصبح يناديه ( يا فتى الرافدين ) تأثراً بتلك القصيدة ))
.
ولسماحة الحجة السيد الصدر، منزلة للصديق في وجدانه كبيرة جداً
، وهو يعوِّل عليها من نازلات الدهر ، (( وتبادل المحبة
بينك وبين الأحبّة رصيد إنساني مهم في مضمار العلاقات
الإجتماعية ، ومن هنا قيل: المرءُ كثيرٌ باخوانه ))
.
وللصداقة والصديق منازل في قلبه ووجدانه ، فالصديق القديم له
درجة أعلى من الصديق الجديد ، كما قيل :
ثلاثةٌ أجودها العتيقُ
الخَلُّ والحَمّامُ والصديقُ
يقول سماحة الحجة الصدر:
(( والصديق القديم يتقدم رتبةً على من جاء بعده من
الأصدقاء.
ولملف الصداقة أهمية إستثنائية في حياة الإنسان.
ذلك أنّك لن تعيش الغربة ولا الكآبة ما دمتَ موصولاً مِن قِبلِ
ثُلّةٍ من الأصدقاء المحبين ، الذين يحبونك ويخلصون لك
ويتفاعلون مع آلامك وآمالك )) .
وإذا كانت بعض القصائد أو الكتابات الأخرى يكتبها الشاعر أو
الأديب، فثمة قصائد أو كتابات هي مَن تكتُبكَ ، وهذه
الحالة يعرفها مَن زاول الكتابة شعراً أو نثراً .
يقول سماحة العلاّمة الصدر في هذا المعنى:
(( إذا صحَّ أنْ تكتُبك الحروف قبل أنْ تكتُبها في ساعات
معيّنة من حياتك ، وفي ظروف استثنائية خاصة ، فإن حروف
هذه الرسائل الملتاعة هي التي كتبتني قبل أنْ أكتبها ))
.
في قصيدة الرثاء يقول الصدر في مطلع قصيدته(17 بيتاً )
:
اُ?قيمتْ ، ولكنْ في القلوبِ المآتمُ
وليلُ الجراحاتِ المُمِضّةِ قاتِمُ
ويا موتُ ما أقساكَ تخطفُ ( جودةً)
لتُخفيَهُ عنّا فَتَخْفى المكارمُ
ومن براعة هذه القصيدة وصدق مشاعرها ، فقد خمّسها الخطيب الشهير
السيد داخل السيد حسن ، صاحب ( معجم الخطباء) ، فكان
التخميس قد جاء بإضافة نوعية للقصيدة :
قصيدةُ شعرٍ أم دموعٌ سواجِمُ
وتلكَ حروفٌ أم لَظى الجمرِ جاحِمُ
أبا صالحٍ قلبي لِفَقْدِكَ واجِمُ
اُ?قيمتْ ولكنْ في القلوبِ المآتمُ
وليلُ الجراحاتِ المُمِضّةِ قاتِمُ
كلما يطرق باب الدار ، يتأمل السيد الصدر أن الطارق هو السيد
جودت القزويني ،
وحينما جاء الناعي وطَرقَ سمعُ السيد الصدر برحيل المرحوم،
ماكاد السيد أن يصدّق الخبر :
وعينيكَ إنْ طُرِقَ البابُ عندي
يُخيَّلُ لي أنّكَ الطارقُ
أ كذّبُ سمعي ولستُ أطيقُ
روايةَ ما قالهُ الناطقُ
إن غياب الصديق الصدوق هي لوعة اللوعات، وحزن الأحزان:
( الصدرُ) أمسى باحثاً عن قلبهِ
مُذْ باتَ ( جودتُ) في سكونٍ دائمِ
إنَّ الصديقَ الروحُ إنْ هي فارقتْ
جسماً وجدتَ الجسمَ مَحْضَ غلاصِمِ
إنّ دهشة الموت لاتفارق الإنسان ، مع أن مشاهد الراحلين كل
يوم على مرأى ومسمع من كل البشر ، ولكن دهشة الشاعر والصديق
لا يريد أن يصدّق أن الموت قد غيّب مَن يحبهم:
اَ?صحيحٌ ما سمعنا؟
( جودتٌ) قدْ راحَ مِنّا؟
هكذا من دون إنذارٍ
تغّشانا اُ?خِذْنا
وأنا أتصفح المجلَّد الضخم لجريدة ( المنبر) الشهرية التي
كان يصدرها المعهد الإسلامي في لندن بين عام1995 م 2002-م
والتي تضمُّ كل أعدادها، وكان المشرف العام عليها سماحة الحجة
السيد حسين السيد محمد هادي الصدر، حفظه الله ، وقد أهداني
هذا المجلد مشكوراً ، كنت أقرأ القصائد المنشورة بين أعداد هذه
الجريدة _ الوثيقة ، فكانت قصائد المرحوم جودت القزويني
رحمه الله، تستوقفني كثيراً ، لما فيها من مزايا الشاعر
الكبير لغةً وصورةً وموضوعاً ، ولهذا يقول السيد الصدر
فيه :
إنْ عُدَّتْ الشعراءُ كنتَ مقدّمَا
أو عُدّت الكُتّابُ كنتَ مُعظَّما
وصحائفُ التأريخِ وهي عظيمةٌ
شهدتْ بأنك كنتَ فيها المُلْهَما
إنَّ هذه الرباعيات هي حقيقة ضمير الشاعر ، وأما الصبر
الذي يملأ وجدان الإنسان بعد رحيل أصدقائه، هو أنه على يقين
بأنه سيرحل يوماً كما رحلوا :
إنّ القوافي في حقيقتها
عناوينُ الضمائرْ
لا شيء هدّأني سوى
إنّي إلى ما صارَ صائرْ
وحينما نُقلِّبُ صفحات جريدة (المنبر ) نقرأ قصائد للراحل
السيد جودت القزويني رحمه الله، ومنها قصائد في ذكرى شهادة
السيد الشهيد محمد باقر الصدر، قدس الله نفسه الزكية، ومنها
قصيدة عصماء بعنوان :
(( تمرُّ ذكراكَ جَفْناً ساهراً ودماً ))
وقد نُشرت في نيسان عام 1997م، يقول مطلعها :
أبا الشهادةِ ، عادَ السيفُ مُنْجردا
دنياكَ ( صوتٌ ) ، ودنيا العالمين (صدى)
تمرُّ ذكراكَ جفناً ساهراً ، ودماً
وأدمعاً ذوَّبتْ في حرِّها الكَبِدا
ولمثل هذه القصائد يقول السيد الصدر في رباعيته :
قصائدهُ عن الصدرِ الشهيدِ
قلائدُ زيّنتْ جِيدَ القصيدِ
ولمْ يرهَبْ من الطاغوتِ بطشاً
ولمْ يأبَهْ بجبّارٍ عنيدِ
و( بالأشعارِ قاتلَ ) فاستطالتْ
ملاحمُ للنضالِ وللصمودِ
والذي يعرف الراحل عن قُربٍ ، يعرفه أنه لايرغب بالمناصب
الحكومية، وإنْ كان هو وأمثاله تفخــــــر بهم المناصب لما
يتحلى به من نــــــزاهة وعفــــــــــــّةٍ وخبرة :
علا، لا بكرسيٍّ ولا بمناصبٍ
ولكنْ بفكرٍ واكتظاظِ مواهبِ
والذي يميّز هذه الشخصيات الكبيرة ، ويعطيها بُعداً
إيمانياً ومعرفياً باذخاً هو الولاء المطلق للرسول الكريم
صلى الله عليه وآله وسلم والولاء لأهل بيته المعصومين:
وكنتَ عميقاً في الولاءِ (لأحمدٍ )
وعتْرتِهِ والعمرُ بالدِّينِ يزدانُ
وعقباكَ أنْ تغدو سعيداً مُنعَّماً
يُوافيكَ في الفردوسِ حورٌ وولدانُ
لقد أثرى الفقيد المكتبة العربية بالمؤلفات النفيسة ، ويكفيه
فخراً موسوعته الكبيرة ( تأريخ القزويني ) ذات الثلاثين
مجلداً كبيراً ، إضافة إلى شاعريته وتحقيقاته وكتاباته
الأخرى :
شَغَلَتْهُ همومُهُ العلويهْ
عن لهاثٍ وراءَ دنيا دَنيّهْ
إنّ مَن يطردُ المطامعَ عنهُ
ذاقَ طعمَ السكينةِ النفسيّهْ
( جودتٌ) هامَ بالدراساتِ تترى
إنَّ عشق الأبحاثِ خيرُ سجيّهْ
لقد كان الفقيد فوق المديح والثناء ، إنما تُثني عليه آثاره
التي خلَّفها ، فهي تحكي عن تلك العبقرية الكامنة بين تلك
المخلّفات النفيسة :
أيها الراحلُ القريبُ النائي
أنتَ فوقَ الثناءِ والإطراءِ
وستبقى آثاركَ الغُرُّ نهراً
يرتوي منه ظامىء الأحياءِ
ماذا يُقيِّمُ الإنسان؟
ذلك السؤال الذي يترجمه أكثر الناس بالأموال هي التي تُقيِّم
الناس !
وتلك في الحقيقة نظرة قاصرة وخاطئة ، ففي عصر ما قبل
الإسلام، كانت قيمة الإنسان: بوفرة الأموال، وكثرة
الأولاد،
وجاء الإسلام، فجعل قيمة الإنسان: بالعلم والتقوى :
بخزائنِ الأموالِ يُعنى الناسُ
والموتُ عندهمُ هو الإفلاسُ
أمّا خزانةُ ( جودتٍ) فَبِعِلْمِهِ
امتلأتْ وزانَ ثراءَها الإحساسُ
تلك هي جولة سريعة ونظرة عجلى في ربوع هذه الرباعيات النفيسة،
التي أضاف سيدنا العلامة الصدر حفظه الله للأدب العربي المعاصر
نفحة من نفحاته الإنسانية العابقة بالوفاء والإخلاص لأحبابه
وأصدقائه ، وذلك ما شدّنا لمجلسه الشهري الذي قد حُرمنا منه
للشهر الثالث على التوالي ، ولكن رصيد تلك الجلسات لازال هو
الزاد الذي نرتوي منه ، كما أن كلماته لاتزال على صفحته
المشرقة في الفيس بوك تعطينا من دفق عواطفه وإرشاداته ونظراته
الصائبة في الأحداث الجارية.
حفظ الله سيدنا الحجة العلاّمة السيد حسين السيد محمد هادي الصدر
، ولا حرمنا الله من نفحات علمه وكتاباته ، ونسأل الله أن
يحفظه ويبارك فيه وله وعليه .
{ الشاعر
: سماحة الحجة السيد حسـين السيد هادي الصدر
عدد الصفحات : 112
الطبـــــــــعة : الأولى1441 هـــــــــــج -
2020م.