عيون من
زجاج
نبأ الحيدري
في احد صباحات ايار المشؤومة، في قرية يسودها السلام والوئام
، مكسوة بالثوب الاخضر حيث حقول القمح ع امتداد البصر ،وحقول
الدواجن والحيوانات الأليفة المنتشرة في تلك الحقول، ،أفاقت احدى
صغيرات تلك القرية من ذلك البيت الذي كان منارة فيها ، على نواح
وعويل لم تكن معتادة عليه في منزلهم الذي يعج بصخب الحب
،وبراكين الحنان ، واندلاع السعادةوالفرح،فتحت إحدى عينيها التي
لم تكتفي من النوم بعد وأخرى آثارها الفزع ،بعين يغشاها النعاس
تارة وتارة يأخذها الروع،كأن عجاج السنين ثار بهما ،أستفهمت من
الحاضرين ويداها تمسحان عينيها مالذي يجري ، لكن لا أحد يجيب
من وقع الصدمة، فالكل يولول وثائر من هول المصاب، اقتربت إلى
نسوة كن يجلسن بركن قصي من بيتهم وسألتهن ؟! وكانت علامات الفرح
تكاد تتفجر من وجنتيهن ، فقالت لنفسها علهن يجبنني لأنها رأت
فيهن ما يجعلهن يختلفن عن الجميع ،فقد كانت عيونهن
كالزجاج يسلخن مايمر امامهن من المارة بنظرات وقحة مستبشرة بما الت
إليه أمور هذا البيت،أستدركت قائلة :-
مالذي يحصل ؟!
اجبنها دون شفقه ورحمة تجيز لهن أن يحملنها تجاه طفلة لم تبلغ
السابعه بعد !
لقد مات!!!
من ؟؟
أبوك!!
هنا اتتها صفعة ألهبت مشاعرها ،اخذتها نوبة دوار تتجول في أروقة
متاهة ما اخبرنها به ،شعرت الصغيرة أنها في حلم ،ركضت نحو ساقية
قريبة من منزلهم اعتادت الذهاب إليها كلما أضاعت والدها تجده هناك
، لانه يحب مشاهدة غروب الشمس وطلوعها حيث الساقية، بحثت في
أرجاء المكان علها ترمقه لتخبره عما قالته النسوة الخبيثات التي
كان يكرههن بشدة لأنهن كريهات الطباع ، لكن دون جدوى، رجعت
إلى البيت ركضت بإتجاه والدتها المفجوعة ،تنظر إليها وهي تكنس
بقايا شعر رأسها شعرة شعره ،وكأن الحزن غازل ظفائرها ،مر عليها
وتركها كشجر الخريف بلا اوراق،تتجول بحدقتيها اللامعتين من الغضب في
أرجاء الغرفة وقع بصرها على مهد صغير بجوار امها يصرخ من الجوع
ففمه لم تتورد على شفتيه حلمة بعد، اخذها الروع من المنظر
راغت بنفسها خارجا، وهي تنظر للجميع يبكي ويلطم عدا تلك
الخبيثات الشامتاات ، رأت اخاها الكبير الذي لا يتجاوز عمره
الثانية عشرة يتكئ على حائط منزلهم الفخم يبكي وينوح كأن أحدهم
عبث بلعبته المفضلة لديه، وبعض الرجال حوله يخففون عليه حدة
الالم ، تدور بوجهاا البريء وكل ماحولها يفيض غرابة ودهشة،
فإذا باخواتها اللاتي يكبرنها بعدة أعوام يصرخن ابي ابي
،اقترب احد اقرانها من اولاد عمومتها منها وقال :
_بعد اليوم لن تتباهي علينا بابيك ولن تصرعي رؤسنا في المساء
عندما يأتي محملا بأكياس الفواكه والحلويات، ولن تركبي
تلك السيارة الفخمة وتقولي لا تمتلكون مثلها، وتتفاخري أمامنا
به لقد أصبحت من الآن بلا أب!!!
هنا عرفت ماقلن لها تلك اللعينات وذاك الطفل اللئيم ،باتت بمشاعر
متهرئة لا تعرف ماذا عليها فعله ،طأطأت رأسها وعيناها تقبلان الأرض
خيبة، ومنذ تلك اللحظة صك الحزن أسنانه غيظا ،وعربد فيها الحزن
وجعا ،هبت عليهم رياح صفراء اقتلعت كل شيء جميل نما بفيء والدها ذاك
الرجل الذي عرف بكرم اخلاقه، وسخائه الذي لا يختلف
عليه اثنان ذا الثراء الفاحش، وتد خيمتهم قد سقط ،لا دلال وغنج
بعد اليووم ،الأقنعة التي كانت تتزين بها تلك الوجوه الشريرة
تكشفت وبانت على حقيقتها ،وقفت ورفضت عزاءهم لانه لم يمت
بداخلها، وفعلا كأن ذاك الوقت قد انضجها كثيرا عما هي عليه ،
فالشمس التي اذابت جمود قلوبهم وفجرت ينابيع الفرح بداخلهم قد
غابت خلف أفق بعيد ولن تشرق على صحراء أرواحهم لتدفئ حياتهم بالأمل
،اشابت جدائل أحلامهم البريئة وأخذ الموت مأخذه منهم ، مع صراخ
ذاك الطفل الصغير الذي لم يبلغ الا ساعات،فقد جاء في زمن بخيل
وتوقيت كأن كل ساعته بدأت بالتوقف، والكل يكيل لمجيئة باللعنة
التي حطت رحالها بفناء حياتهم،وهناك امرأة بح صوتها ولم تنفك وهي
تضرب رأسها بكل قوتها بالجدار ،عارية من العقل، بفؤاد فارغ،أصبحت
ترى نفسها اكبر وتفكر للقادم ،بعد مرور ستة أشهر وقفت على
اطلال صرحهم الذي شاخت أركانه فهوى كبيت عنكبوت هش ،تذره الرياح،
اخذت تمعن النظر اليه ،تترنح على أرصفة الخذلان بذاكرتها الحبلى
بالوجع،تسعى بين حقولهم التي سلبها منهم اقاربها،لم يعد يملكون
من ذاك الثراء وحقول التبر مايسدون به جوعهم،تشاهدهم كيف
ينهمون خيرات اراضيهم نهم الإبل نبتة الربيع، وهم ينهالون عليها
بكركرات ضحك بعيون وقحة جامدة كالزجاج مهشمة من الرحمة ،تراهم كيف
انتزعوا جلباب عزهم و كبريائهم والبسوهم معطف الفقر والهوان ،
جمعتهم امهم تحت عبائتها بعدما تم طردهم من هناك، فأصبحت كشجرة
واهنة من العطش بوجه الريح تنتحب...