انسوا ما يقوله الفلاسفة والكتّاب والعلماء... السعادة صناعة شخصية

2020/06/06

مقولات وحكم رائعة لكنها تبقى مفيدة فقط في النطاق الإنساني العام

لطفية الدليمي

كتب السوسيولوجي الراحل زيغمونت باومان، الذي أكنّ لكتاباته محبة كبيرة وشغفاً لا حدود له، بشأن موضوعة السعادة الكلمات الملهمة التالية:
«عندما كان غوته في مثل عمري، سُئل مرة عمّا إذا كانت حياته سعيدة، فأجاب: (نعم، كانت لدي حياة سعيدة إلى أبعد الحدود؛ ولكن ليس بوسعي القول إنه كان لدي محض أسبوع واحد متصل من السعادة)».
يعقّب باومان على ما قاله غوته، بأنه جواب غاية في الحكمة، وأنه يشعر تماماً بمثل شعور غوته، ثمّ يضيف: ثمة أيضاً قصيدة من قصائد غوته العديدة يقول فيها أن ليس هناك ما يبعث على الكآبة وانقباض الروح مثل سلسلة متواصلة من الأيام المشمسة!
شاعت في أعقاب الثورة العلمية والتقنية - في بواكيرها الأولى بخاصة - قناعة راسخة بأنّ العلم والتقنية كفيلان بتحقيق السعادة للجموع البشرية عبر القدرة على إشباع حاجاتها المادية، بعد قرون من عيش لطالما كان ضنكاً وحسرة لا تنتهي، ثمّ جاء العلم وحقبة التصنيع الأولى، وعندها صار ممكناً إشباع أفواه الناس وإكساؤهم وتطبيبهم؛ فبانت الحياة جميلة وفي طريقها لتكون يوتوبيا على الأرض، سينعم فيها الناس جميعاً بألوان مما يستطيبون ويشتهون، وباتت صورة السعادة المنتظرة أقرب لحتمية ستتكفّل بتحقيقها - ربما - بعض العقاقير الكيميائية المخلّقة بفعل ثورة البحث والتصنيع المستجدّة.

حصل - في سبعينات القرن العشرين وما بعده - انكفاء لدى بعض الجماعات عن مظاهر الحياة المادية التي سادت الحضارة الغربية، وراحت هذه الجماعات تنشد السلوان والسعادة المرتجاة في الانغماس بالعوالم الروحانية - الشرقية بخاصة - مثل الطاوية والبوذية، وليس غريباً أن تصير التبت ومنطقة الهملايا محجاً للكثير من نجوم هوليوود والمجتمعات المخملية، والحقّ أنّ أغلبية هؤلاء قد انتهوا إلى فشل ذريع في اختبار النشوة الروحية والاستنارة الذهنية التي قرأوا عنها، فتراكم خذلانهم طبقات فوق أخرى.
أرى، ومن وجهة نظر شخصية خالصة، أهمية الإشارة إلى بعض المثابات الدليلية التي تمثل أطروحات فلسفية - نفسية مركّبة يمكن الاستعانة بها في مقاربة موضوعة السعادة بطريقة عملية قابلة للتوظيف اليومي. أولاً، السعادة مفهوم ميتافيزيقي في المقام الأوّل: يبدو مفهوم السعادة في وقتنا الحاضر، وبعد تجارب بشرية مؤلمة كثيرة، مفهوماً ميتافيزيقياً مثل الكثير من المفاهيم المؤثرة في حياة البشر، وهو في جوهره يقوم على قاعدتين جوهريتين تقول الأولى: «الفعل الطيّب يكافئ نفسه بنفسه مثلما أنّ الفعل السيئ يعاقب نفسه بنفسه»، وواضح أنّ تلك قاعدة مماثلة لتعاليم الكارما الهندية الراسخة منذ أقدم العصور. تكمن الأهمية الاستراتيجية لتلك القاعدة في أنها ترسّخ أخلاقيات الارتقاء الفردي - والمجتمعي بالنتيجة - وتكبح رغبة الفرد في ممارسة الأخدوعات والمسالك الالتفافية في الكذب وإقناع النفس بالرذائل وتصويرها فضائل مستحبة. أما القاعدة الثانية فجوهرها «العطاء أفضل من الأخذ»، وهي كما أحسبها عبارة تكشف عن فحواها بنفسها. السعادة، ثانياً، صناعة ذهنية: تخليق ذهني ناجم عن أفكار طيبة تصنعها أذهاننا ونتشارك بها مع الآخرين؛ أما الباحثون عن عقاقير السعادة فلن يحصلوا إلّا على مزيد من الخواء. قد تمتلك العقاقير القدرة على إحداث بعض التغيير في ميكانيكية عمل النواقل العصبية المرتبطة بالشعور بالسعادة (مثل الدوبامين والسيروتونين)؛ لكنه يظلّ فعلاً ميكانيكياً قصير المدى وغير قادر على التحوّل إلى خصيصة شخصية ثابتة. المعضلة إذن تكمن في أذهاننا، والتدريب النفسي المعزز برؤية مستنيرة واسعة النطاق (كونية بتعبير المتصوّفة) هو وحده القادر على اجتراح انتقالة جوهرية في تركيبتنا الذهنية. لستُ في حاجة هنا للقول إنّ وسم السعادة بكونها خصيصة ذهنية إنما هو وصف يتصادى مع الموضوعة الفلسفية القديمة منذ عهد الإغريق والخاصة بمعضلة العقل - الجسد Mind /Body Problem، تلك المعضلة التي ترى أننا صناعة أذهاننا، وهذه رؤية باتت تمتلك مصداقيتها المتزايدة في الكشوف الحديثة الخاصة بالعلوم العصبية الإدراكية.
وثالثاً، أخدوعة أنّ «السعادة لا توجد إلا في أحلامنا». هناك الكثير من المواقف التي يعمد فيها البعض إلى توظيف مقولات منسوبة إلى بعض أكابر المفكّرين أو الروائيين أو الفلاسفة، واعتبارها مسك الختام فيما يقرّر رؤيتهم ومسالكهم في الحياة. هذه مقاربة بالغة الخطورة لسببين على الأقلّ: الأول أنّ كثيراً من هذه المقولات تفتقرُ إلى المصدر الموثوق، وغالباً ما تحصل فيها تحريفات وتشويهات عديدة، وقد قرأت مقولات منسوبة لآينشتاين - مثلاً - واتضح لي بعد التدقيق أنها ما كانت سوى أكاذيب ملفقة أو عبارات قيلت على لسان آينشتاين! أما السبب الثاني فيكمن في أنّ خلاصات الحكمة التي يمرّرها لنا هؤلاء العلماء والفلاسفة رائعة ومفيدة في النطاق الإنساني العام أو في التفاصيل التقنية الدقيقة؛ لكنها لا تمثّل بديلاً في كلّ الأحوال عن مقاربتنا الشخصية وخبرتنا الفردية الموسومة ببصمتنا الفريدة، بخاصة في الموضوعات الوجودية الكبرى (الحب، السعادة، معنى الحياة، الموت، الصداقة... إلخ). ثمة عبارة تنسبُ إلى تشيخوف (لستُ أعرف مدى دقتها) يقول فيها إن السعادة لا توجد إلا في أحلامنا. هل تراها كذلك؟ أنا أرى في هذه العبارة خدعة كبرى: السعادة حقيقة شخصانية الطابع، تتلوّن بألوان شتى بحسب التشكيل النفسي للفرد وخبراته ومهاراته وقدراته، والأهم من كل هذا أن السعادة كينونة يمكن تخليقها متى ما تمرّسنا على هذا الفعل، وهذا فعلٌ أرفع مقاماً من الارتكان إلى المقولات العامة والآراء الغارقة في التعميمات والمبنية على خبرة مسبقة (تكون مؤلمة في العادة). إنّ واحدة من أعظم مهاراتنا وميزاتنا البشرية هو أن نتعلّم صناعة السعادة أو على الأقل ترك الطبيعة والوقائع الطبيعية تفعل فعلها المؤجّج للسعادة في أرواحنا بدل الاتكاء على مصدات نفسية ثقيلة تحجبها.
ورابعاً، مقولة «السعادة تنهض على دعامة الأمل بدلاً من التفاؤل». وقد تبدو هذه العبارة منطوية على شيء من المخالفة المناقضة لحسّ البداهة وتعاليم مدارس التنمية البشرية الذاتية؛ لكنّ خبراتنا البشرية الممتدة من الرواقيين، وحتى اليوم، لا تنفكّ تعلّمنا أنّ الأمل قيمة ميتافيزيقية تفترض إمكان وقوع الأمور السيئة التي ستنجلي ولن يكون لها دوام؛ أما التفاؤل فينطوي على تفعيل لنظام المكافأة الذي يتوقّع الحصول على نتائج مادية في نهاية المطاف. ماذا لو لم يحصل المرء على ما يرغبه (وهذا أمر ليس بالمستبعد أو غير الممكن)؟ سينكفئ نحو لجّة من الضيق والشعور بانسداد الآفاق. المطلوب إذن هو أمل من غير تفاؤل (اتخذّ الناقد الأدبي والمنظّر الثقافي تيري إيغلتون من هذه العبارة عنواناً لأحد كتبه الصادرة عام 2019 عن جامعة ييل الأميركية).
وأخيراً، السعادة تنشأ من مراكمة التفاصيل الصغيرة، لا من الموضوعات الكبرى: التعويل على تحقيق الموضوعات الكبرى (ما يصطلح عليها بالسرديات الكبرى Grand Narratives في أدبيات ما بعد الحداثة) إنما هو مقامرة ومغامرة لا يقدم عليها سوى العقل الآيديولوجي المفتون بهذه السرديات والموهوم بأنها مفضية إلى تحقيق السعادة الجمعية اليوتوبية. السعادة تخليق فردي ينشأ من مراكمة سعادات جزئية صغيرة في موضوعات صغيرة هي الأخرى. شخصياً أرى أنّ سعادتي تتحقق في أشياء صغيرة قد لا تلفت انتباه الآخرين: عندما أجد وردة (جوري) متفتحة بين نباتاتي أشعر أنها هدية ثمينة لي وأنها وُجِدَت من أجلي، عندما أتسلم غلاف أحد مؤلفاتي وترجماتي من المصمم فتلك لحظة سعادة عظيمة، عندما أهيئ عُدّة الشاي على وهج شمعة، عندما يهبني المطر متعة الارتواء وأتلمس قطراته على وجهي، عندما أصحو صباحاً بكامل صحتي وأقول: الحمد لله، الحياة نعمة، عندما أكتفي بزهدي وعزلتي وأنجز عملاً طيباً أكون سعيدة، عندما أنتهي من مشكلة عابرة وعندما أسعِدُ إنساناً بكلمة حب وتنعكس سعادته على زمني. السعادة ومضات من ضوء كالبرق المغادر. تلك هي بعض سعاداتي الصغيرات التي أتوق لأن أتشاركها مع كلّ سكّان الأرض.

* كاتبة وروائية ومترجمة عراقية تقيم في الأردن

أخترنا لك
نفس النبي

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة