نجيب محفوظ والنقد الثقافى: رواية

2020/05/29

د. ماهر عبد المحسن

تتميز أعمال نجيب محفوظ بتعدد مستويات القراءة ومستويات الفهم. فيمكن الدخول إلى عالم محفوظ من البوابة السياسية أو الاجتماعية أو النفسية. كما يمكن مقاربة هذه الأعمال باستخدام أكثر من منهج، لأنها تستفز فى القارئ النشط ملكاته النقدية ومخزونه المعرفى والمنهجى، سواء أكان بنيوياً أو تفكيكياً أو فينومينولوجياً تأويلياً. باﻹضافة إلى قابلية النصوص المحفوظية إلى القراءة الجمالية الخالصة أو تلك المحملة بأبعاد أيديولوجية لخدمة أغراض أخرى غير فنية.

وفى كل الأحوال يمكننا أن نقول إن أعمال محفوظ الروائية تحتوى على طاقة تعبيرية وفكرية هائلة بحيث يمكنها الاستمرار فى الزمان والمكان دون أن تفقد ألقها أو ينفد مخزونها السحرى الجذاب.

من هذا المنطلق سنحاول فى هذه المقالة أن ندلف إلى عالم محفوظ من المدخل الثقافى، مستفيدين من المنجز الفكرى الكبير الذى تحقق فى حقل “الدراسات الثقافية” فى السنوات الأخيرة. وهو مجال معرفى جديد، ينتمى إلى التيار ما بعد الحداثى، وينطوى على طبيعة ذات مرونه خاصة مكنته من اقتحام مناطق شديدة الوعورة والحساسية من قبيل قضايا العرق والجنوسة والنسوية والثقافة الشعبية، مستندا فى ذلك إلى الأدوات المنهجية التى قدمتها علوم النفس والاجتماع والأنثربولوجيا والفلسفة والتاريخ.

وبالرغم من خصوبة أعمال محفوظ ومرونة حقل الدراسات الثقافية، إلا أن التساؤل عن مدى إمكانية إخضاع رواية ذات أبعاد فلسفية عميقة مثل ”الشحاذ” لأبجديات الدراسات الثقافية يظل مطروحاً. ويمكننا أن ندرك مدى الصعوبة التى يمكن أن تكتنف مثل هذه المحاولات عندما نتعرض لطبيعة العلاقة بين النظرية الأدبية والدراسات الثقافية، فهذه الأخيرة قد أخذت على عاتقها تجاوز البعد الجمالى فى الأعمال الإبداعية على نحو ما كانت فى النظرية النقدية التقليدية، والعمل على إزاحة النقاب عن العلاقات المتشابكة التى تحيط بالعمل وتؤثر فيه أو تتأثر به كمنتج ثقافى. وبهذا المعنى يكون التركيز على علاقة العمل بدور النشر والدعاية واستجابات القراء على اختلاف مشاربهم.

والإشكالية التى تكمن هنا إنما تتعلق بالمضمون الجمالى والفكرى الذى يتم إهداره لصالح إبراز عناصر أخرى لا تدخل فى صلب العمل أو العملية الإبداعية. وفى هذا السياق اختلف المنظّرون حول هذه الإشكالية، فقال البعض بجواز تطبيق الدراسات الثقافية على الأعمال الروائية، بينما استبعد البعض الأخر هذا الاقتران على اعتبار أن الدراسات الثقافية لا تنطبق إلا على الظواهر الثقافية الواقعية لا الخيالية.

والحقيقة أن الحل فى نظرنا إنما يكون بانتقاء بعض المصطلحات ذات الدلالة الثقافية، ومحاولة قراءة الرواية وفقا للمعانى والدلالات التى منحتها الدراسات الثقافية لهذه المصطلحات. وهنا يمكننا أن نعيد اكتشاف العمل فى ضوء المفاهيم الثقافية الجديدة. وبهذا المعنى يمكننا أن نقرأ فى ”الشحاذ” ما يتجاوز أبعادها الفلسفية الصريحة والمباشرة، لنكتشف رؤية محفوظ لمفاهيم أكثر معاصرة مثل الهوية، والتعددية الثقافية، والجنسانية والجنوسة، والعلاقة بين الفنون البرجوازية والفنون الشعبية، خاصة أن الرواية سبق قراءتها فلسفياً من قبل مفكرين كبيرين: د.زكى نجيب محمود ود.حسين على أستاذ المنطق بجامعة عين شمس، ومازالت تحتمل المزيد من القراءات والتأويل.

ومن الأمور التى لا يفوتنا الإشارة إليها أننا سنعتمد فى قراءتنا للرواية على التمييز الذى وضعه الدكتور عبد الله الغذامى بين مؤلف ضمنى ومؤلف صريح. فالمؤلف الصريح هو ذلك الذى يكتب النص بوعى، وهو لا يقصد سوى المعانى المباشرة التى يمكن أن يستخلصها القارئ العادى من النص. أما المؤلف الضمنى فهو ذلك الجانب اللاواعى فى شخصية المؤلف، والذى يعبّر عن ثقافة العصر الذى يوجد فيه، ومن خلاله تأتى الأفكار المضمرة التى تتجاوز المعنى المباشر، وتحمل من الدلالات ما قد يتعارض مع قناعات المؤلف الواقعى الذى يكتب بكامل وعيه.

وبهذا المعنى يمكننا أن نقول إن الآراء التى سوف نستخلصها من رواية ”الشحاذ” لا تنسب إلى محفوظ نوبل الذى نعرفه تمام المعرفة بقدر ما تنسب إلى العصر الذى عاش فيه وكتب روايته المشار إليها.

وفى هذا السياق يمكننا أن نقول إن الرواية تزخر بالعديد من الإشكاليات الثقافية التى تحتاج إلى التأمل والدراسة. ولعل أبرز هذه الإشكاليات هو مسألة ”الهوية” فعمر الحمزاوى، الشخصية الرئيسية فى الرواية، كان شاعراً ثم مناضلاً سياسياً قبل أن يهجر الشعر والسياسة ويصير محامياً كبيراً. وفى هذا المعنى يحدثه طبيبه المعالج، الذى كان زميلاً له فى الدراسة، قائلاً: ”وكنت تظهر لنا بأكثر من وجه، الاشتراكى المتطرف، المحامى الكبير. ولكن وجهاً منك رسخ فى ذاكرتك أقوى من أى شئ سواه. هو عمر الشاعر” (نجيب محفوظ، الشحاذ، مكتبة مصر، القاهرة، دون سنة نشر، ص١٣).

والحقيقة أن ”عمر الشاعر” كان يمثل مرحلة الحلم، والبراءة الأولى، التى يبدو أنها لم تصمد كثيراً أمام الواقع السياسى والاجتماعى الخشن. ربما يشعر تجاهها بشئ من الحنين بعد أن هجرها إلى غير رجعة، لكنه الحنين الملىء بالشجن، كأى شئ جميل يتحول إلى ذكرى. وفى حوار ذى دلالة بين الحمزاوى وابنته الشابة ”بثينة” ندرك حقيقة علاقة الحمزاوى بالشعر، وعلاقة هذا الأخير بالهوية:

“وتساءلت فى مرح:

- متى تعود إلى الشعر؟

- ادعى الله أن أعود لمكتبى أولا!

- إنى أعجب، كيف هان عليك أن تهجره؟  فقال وهو يدارى ابتسامة حياء:

- كان لهواً ليس إلا..

- والديوان يا بابا؟

- توهمت يوماً أننى سأستمر..

- ولكنى أسألك عما أوقفك.

... ودفعته رغبة صريحة إلى الاعتراف، فقال:

- لم يسمع لغنائى أحد.

وسألت ”بثينة”:

- وهل من الضرورى يا بابا أن يستمع لغنائنا أحد؟

فداعب خصلة من شعرها الأسود، وقال:

- ما معنى أن ندعو سر الوجود من الصمت إلى الصمت؟” (الشحاذ، ص ص٣٨-٣٩).

يتضح من هذا الحوار أن الهوية الإبداعية لا يمكن أن تتحقق دون أن تحظى باعتراف الآخرين. والحقيقة أن نفس المعنى يمكن أن ينطبق على ”الهوية” عموماً. فالهوية، فيما يبدو، لها تجليات متعددة بحسب أدوار الإنسان فى الحياة. وفى كل أحوال الذات يحتاج الشخص إلى الاعتراف بفرادة هذه الذات. والحمزواى لم يركن كثيراً إلى موهبته، ولم يقدم للشعر من وقته ومن جهده ما يجعله راضياً عن نفسه كشاعر، لأن الشعر بدوره، لم يحقق له شيئاً مما كان يطمح إليه خلافاً للحلم والتطلع البرئ للإصلاح السياسى والاجتماعى الذى يحقق العدالة الاجتماعية والمساواة بين الجميع. ولعل هذا الشعور بخيبة الأمل من الموهبة ومن الشعر هو ما جعله يصفه فى أكثر من مناسبة بأنه ”لعبة من لعب الطفولة”.

وإذا كان الحمزاوى يصف الشعر بأنه نوع من اللعب، إلا أنه يتحدث بلغة الخبير، المدرك لأصول اللعبة. فاللعبة السياسة واللعبة الاجتماعية لا يناسبهما الشعر، الهائم فى ملكوت الوجود، الرامى إلى فض الأسرار العليا المخفية. فيقول: ”مال الشعر، وهذا الطول والعرض، والتفكير الدائب فى القضايا، وبناء العمارات، والطعام الدسم لحد المرض؟! (ص٣٩).

غير أن الاعتراف بالهوية المبدعة يظل هو الأساس لإثبات الوجود. يترسخ هذا المبدأ لدى صديقيى الحمزاوى المقربين، ”عثمان خليل” المناضل السياسى الذى دفع حريته ثمناً للدفاع عن مبادئه، و"مصطفى المنياوى” الذى تخلى عن مبادئه الفنية من أجل تحقيق الشهرة والثراء المادى. فيقول ”عثمان”:

- اقذف بشعرك فى المعركة تظفر بآلاف المستمعين! (ص٣٩).

ويقول ”مصطفى”:

- لا فائدة من تجاهل الجماهير!(ص٤٠) .

لكن ل"بثينة” رأى آخر، تلخصه فى عبارة دالة، عندما يسألها الحمزواى:

- ألا تودين أن يسمع لغنائك الناس؟

فتقول:

- طبعاً، لكنى سأستمر على أى حال.. (ص٣٩).

ولعل فى تفوق ”بثينة” فى العلوم ما يدعم هذا الموقف الإيجابى المتميز. فالخلفية العلمية لها تجعلها تقف على أرض ثابتة، وتحقق لها رسوخاً فىالشعر. إن ”بثينة” لم تكتب الشعر تعبيراً عن حالة من الجيشان العاطفى العابر، ولم تستهدف بكلماته شخصاً بعينه، لكنها كانت تبحث عن الشئ الغامض، الذى هو ”غاية كل شئ” بتعبيرها، والذى هو ”سر الوجود” بتعبير الحمزاوى.

إن الحوارات الفلسفية العميقة التى يصوغها محفوظ ببراعة، إنما تنطوى على تمييز ثقافى كبير بين المعارف الإنسانية، ومدى قربها أو بعدها من الحقيقة، ومن آمال الإنسان وآلامه. فالعلم هو صاحب اليد العليا فى العصر الحديث، بعد أن ولى زمن الفلسفة والفن. هكذا توصل الحمزاوى، وصديقه ”مصطفى”.. وفى هذا السياق يقول ”مصطفى” : ”... قضى العلم على الفلسفة والفن،  فإلى مسرات التسلية بلا تحفظ، ببراءة الأطفال وذكاء الرجال، إلى القصص الخفيفة، والضحكات المجلجلة والصور الغريبة، ولنتنازل نهائياً عن غرور الكبرياء وعرش العلماء، ولنقنع بالإسم المحبوب والمال الوفير” (ص٤٠).

وبهذا المعنى، ينقل ”مصطفى” الفن من دائرة الجد إلى دائرة الهزل. يقوم بذلك فى محاولة ساخرة لتبرير تحوله من العمل فى المسرح الطليعى إلى العمل فى البرامج التليفزيونية الخفيفة. فالعلماء هم الأجدر بأن تسلط عليهم الأضواء لا الفنانون، العلم ينبغى أن يظل فى المركز بينما ينزاح الفن إلى الأطراف. ليس هذا فحسب، بل إن الفن فى عصر العلم، ليس له من دور سوى التسرية والترويح عن العلماء الذين يمتلكون الحقيقة، ويعملون على تقدم البشرية. الفن الحقيقى ينتمى إلى الماضى السحيق، ولا مكان فى المستقبل إلا إلى العلم. لهذه الأسباب حرص الحمزاوى على أن يطمئن على مستقبل ”بثينة”، فطلب منها أن تحافظ على دراستها العلمية بجانب حبها للشعر، بحيث تضمن فى المستقبل وظيفة علمية، كأن تكون مهندسة مثلاً، وشاعرة فى ذات الوقت. لا يريد ”الحمزاوى” أن يحقق تصالحاً بين العلم والفن، فالمسألة بالنسبة له محسومة منذ البداية، فقط لا يريدها أن تضيع العمر فى الشعر بينما العالم يتحرك سريعاً، وفى اتجاه آخر إلى الأمام، فيقول: ”لا أحب أن تنتبهى يوماً فتجدى نفسك فى العصر الحجرى، على حين يعيش من حولك فى عصر العلم” (ص٤١).

وكما ميّز محفوظ بين العلم والفن، وجعل للعلم اليد العليا، فإنه فى الوقت نفسه كان يميز بين نوعين من الفن.. الفن الراقى، والفن الجماهيرى، وهى تفرقة أقامها المجتمع البرجوازى الذى كان يعيش حياة مخملية ناعمة، يرتاد المعارض الفنية الحديثة، ويستمع إلى سيمفونيات عالمية مفارقة للواقع. يتبدى ذلك بوضوح منذ السطور الأولى للرواية، حيث تصور الحمزاوى جالساً فى غرفة الاستقبال فى عيادة طبيب وهو يتأمل لوحة فنية معلقة على الحائط. فبالرغم من أن محتوى اللوحة كان يتسق والحالة النفسية والذهنية التى كانت مسيطرة على ”الحمزاوى”، إلا أنه لم يجد فيها، من الناحية الجمالية، سوى عمل فنى من النوع الرخيص، فيقول الراوى: ”رجع يتسلى بلوحة المرعى. الطفل والأبقار والأفق. رغم أنها صورة زينة رخيصة القيمة، ولا وزن إلا لإطارها المذهب المزخرف بتهاويل بارزة” (ص٥).

لكن المفارقة التى يطرحها محفوظ لا تتعلق فقط بوجود فن راق وآخر متدنى، وإنما بغياب نوع راق من الفن وحلول نوع آخر أدنى مرتبة محله. فالفن الحقيقى تراجع أمام انتصارات العلم المدهشة، ولم يعد باقيا إلا الفن الجماهيرى الذى ليس له من دور سوى التسلية الرخيصة. عبّر عن ذلك المعنى ”مصطفى المنياوى“ فى أكثر من موضع، فأحياناً يصفه باللب والفشار، وأحياناً أخرى يعتبره حلية نسائية مما يستعمل فى شهر العسل. إلا أن التشبيه الأكثر تعبيراً عن هذه النظرة التمييزية للفن إنما نجده فى عبارة ”المنياوى” عندما قال: ”... وما نظن أنه الفن الحقيقى ليس إلا الضوء القادم من نجم مات منذ ملايين السنين، فعلينا أن نبلغ سن الرشد وأن نولى المهرجين ما يستحقون من احترام!” (ص٤٠).

وبالرغم من أن ”المنياوى” يدرك أهمية الدور الثقافى الذى تلعبه الفنون الجماهيرية خاصة فى الحياة المعاصرة، إلا أنه يظل ناظراً لهذا اللون من الفنون باعتباره فى مرتبة أدنى، حتى أنه يتهكم على القائمين به لكونهم ليسوا أكثر من مهرجين فرضتهم حركة تاريخ تأبى إلا أن تربط بين العلم والنضج، وبين الفن والتسلية.

تمييز ثقافى آخر مهم يمكن أن نعثر عليه لدى محفوظ فى ثنايا رواية ”الشحاذ”، ألا وهو التمييز الجنسى بين الذكورة والأنوثة. فالرواية لها منحى ذكورى واضح منذ البداية وحتى النهاية. فالبطولة رجالية، والأزمة العقلية والروحية التى تتمحور حولها الأحداث يعانيها رجل، والرواية برمتها يتم سردها من وجهة نظر ذكورية بإمتياز. ولا يمكنك أن تعثر على دور حقيقى ومؤثر للمرأة. بل على العكس، تأتى النساء فى الأحداث كمحطات على طريق ”الحمزاوى” فى رحلته الحائرة للوصول إلى الحقيقة، بدءاً من الزوجة التى تزوجها عن حب ثم تحولت إلى كومة من اللحم المترهل،  وانتهاءً بعشيقاته اللائى عرفهن من أجل الخروج من حالة الضجر التى انتابته، والدخول معهن إلى عوالم المتعة واللذات الحسية العابرة.

فبعد سنوات الحب والزواج يختزل ”الحمزاوى” زوجته إلى َمحض جسد طرأت عليه التغيرات البغيضة المنفرة، عدا ابتسامة رقيقة صافية أفلتت من معاول الزمن الذى قضى على كل شئ، ”وتبدى عنق زوجك من طاقة فستانها الأبيض متين الأساس. واكتظت وجنتاها بالدهون، وقفت كتمثال ضخم ملىء بالثقة والمبادئ، وضاعت عيناها الخضراوان تحت ضغط اللحم المطوق لهما، أما ابتسامتها فما زالت تحتفظ ببراءة رائقة ومحبة صافية” (ص١٥).

إن ”زينب” زوجة ”الحمزاوى” لم تعد سوى رمز للملالة والضجر، تلك الحالة التى تعرف ب"الاستقرار” وهو استقرار زائف لأنه لم يحقق للحمزاوى اليقين ولم يجعله يذق طعم الراحة. إن أسئلة ”الحمزاوى” الكبرى تفوق عقلية ”زينب” المشغولة طوال الوقت بأعمال ”الكنافاة”، وترتيب حياة الأسرة، فيقول الحمزاوى:”وها أنا اليوم أكافح للتملص من المواد الدهنية، ولا أرى فى ”زينب” العزيزة إلا تمثالاً لوحدة الأسرة والبناء والعمل”(ص٢٩).

إن استخدام محفوظ للفظة ”تمثال” أكثر من مرة فى أكثر من موضع لوصف مكانة الزوجة فى حياة ”الحمزاوى” إنما يدل على تكلس القيم والمبادئ الراسخة التى تحافظ عليها ”زينب” دون أدنى شعور بالضجر أو القلق على نحو ما حدث للحمزاوى رغم مرور عشرين عاماً على زواجهما. ويعنى ذلك أن المرأة لا تملك حساً فلسفياً، أو روحاً قلقة، أو عقلاً معذباً مثل الرجل.  وأنها تركن إلى وتيرة واحدة من الحياة تختزل فيها كل آمالها وطموحاتها التى هى فى الغالب ”الحب والاستقرار العائلى”.

يتأكد هذا المعنى فى علاقة الحمزاوى بنساء أخريات، ففى هذا الحوار الذى دار بين ”الحمزاوى” وفتاة الليل ”وردة” يتبدى لنا الفارق الكبير بين العقليتين، وكيف أن “الحمزاوى” يعانى مشكلة وجودية ويطرح أسئلة ميتافيزيقية عميقة، بينما ترضى ”وردة” بحياتها كما هى ، ولا تقنع بأكثر من الحب والرقص، والعيش فى كنف رجل مثل ”الحمزاوى” يحقق لها الأمان والحياة الرغيدة، حتى ولو دون زواج :

“- خبرينى يا وردة لماذا تعيشين؟

- وهل لهذا السؤال من معنى؟

- لا.بأس أن نسأله أحياناً.

- إنى أعيش، هذا كل ما هنالك.

- بل إنى أنتظر جواباً أفضل.

- لنقل إنى أحب الرقص، والإعجاب، وأتطلع إلى الحب الحقيقى.

.................

- والله، ما موقفك منه؟

- أؤمن به..

- بيقين؟

- طبعاً.

- من أين جاء اليقين؟

- إنه موجود وكفى..”(ص ص١١٧- ١١٨).

وبالرغم من أن ”بثينة” إبنة ”الحمزاوى” بدت وكأنها النموذج الإيجابى الوحيد فى نساء الرواية، التى كانت تجمع بين العلم والشعر وتحمل بداخلها إصراراً كبيراً على مواصلة الطريق رغم وعورتها، إلا أن أحداث الرواية تكشف لنا فى السطور الأخيرة عن أنها لم تختلف عن بنات جنسها اللائى أوقفن حياتهن على هدف واحد لا يمكن أن يتحقق دون وجود رجل، وهو الحب والزواج والإنجاب، باعتباره الهدف الفطرى الذى يتماشى مع الطبيعة الأنثوية للمرأة، وهى طبيعة تتماهى مع العاطفة والرغبة الدفينة فى الحفاظ على النوع الإنسانى. فقد تزوجت ”بثينة” من ”عثمان خليل” المناضل السياسى الذى يقارب أبيها فى السن وحملت منه، كما حملت أمها من ”الحمزواى” قرب نهاية الرواية، لتصير كل واحدة منهن محطة فى رحلة الرجل المهموم بقضايا فلسفية وسياسية، الحمزواى الباحث عن معنى لحياته وعثمان الباحث عن العدالة لمجتمعه.

وهنا ينبغى أن نتساءل عن السبب فى غياب التجربة الوجودية فى الأدب النسائى، خاصة بعد أن أقصاها الرجل، بنزعته الذكورية، بعيداً عن هذه التجربة فى كتاباته، وحولها إلى مجرد محطة أو مرفأ يركن إليه كلما رغب فى الاستراحة من عناء البحث عن الحقائق العليا. فعلها سارتر فى ”الغثيان”، وكامو فى ”الغريب”، ومحفوظ فى أكثر من عمل.

وقبل أن ننهى مقالنا لا ينبغى أن يفوتنا الإشارة إلى قضية ثقافية هامة مر عليها محفوظ سريعاً دون أن يمنحها الاهتمام الكافى، وهى ”التعددية الثقافية”. ربما تبدو هذه القضية بعيدة تماماً عن السياق العام للرواية، سواء من الناحية الفلسفية أو السياسية، غير أن الإشارات البسيطة التى ضمّنها محفوظ فى الرواية لهذه القضية تحمل من الدلالة ما يجعلنا نتوقف عندها قليلاً.

فزوجة ”الحمزاوى” التى يعرفها الجميع بإسم ”زينب” هى فى الأصل فتاة مسيحية تدعى ”كاميليا فؤاد”، عرفها ”الحمزاوى” منذ عشرين عاماً، وهى خارجة من الكنيسة، مرتدية الأسود حداداً على عمها. وعندما سأله صديقه ”مصطفى” عن مسألة الاختلاف الدينى، أجاب دون تفكير” لم أعد أكترث لهذه العوائق”، وعندما عرّفته بنفسها على استحياء، قال: ”يا عزيزتى، حبنا أقوى من كل شئ، وسوف نتغلب على أى عائق”. والغريب أن محفوظ لم يقف عند مسألة اختلاف الدين طويلاً، بالرغم من حساسيتها المفرطة فى المجتمع المصرى، ولم يعط الموضوع من الاهتمام أكثر من نصف صفحة، لخص فيها مراحل التعرف ومشاكل الارتباط، ولم يذكر صراحة كيف تحولت ”كاميليا” المسيحية إلى ”زينب” المسلمة، حتى أن القارئ غير االمدقق قد يمر على السطور دون أن يلحظ هذه النقلة الكبيرة التى حدثت فى حياة ”كاميليا” وانعكست على حياة ”الحمزاوى”.

وإذا أردنا أنا نرصد تفاصيل هذا التحول عن قرب فينبغى أن نضع بعض العبارات تحت الرؤية الميكروسوبية حتى نضع أيدينا على جوهر القضية الثقافية محل التحليل. وفى هذا السياق يكفى أن نقف عند عبارات ”مصطفى” ذات الدلالة من قبيل: ”إننى أعرفك منذ عهد آدم بحّاثة عن المتاعب، زوبعة فى بيتك وزوبعة أعنف فى بيتها، وأنا حائر بينكما.. ”(ص٤٨). وهى عبارة تكشف عن حقيقة ثقافية وعقائدية هامة تشير إلى صعوبة اقتران إثنين من البشر ينتميان إلى عقيدتين دينيتين مختلفتين فى المجتمع المصرى.

وفى نفس الموضع يقول ”مصطفى”: ” مبارك عليكما، أصبح الماضى فى خبر كان، ولكن تضحيتك لا تقاس بتضحيتها، وللعقائد طغيان حتى على الذين نبذوها، صحتك يا زينب، صحتك يا عمر.. ”. وتميط هذه العبارة اللثام عن الحقيقة الهامة التى لم يصرّح بها محفوظ، ولم تأت على لسان ”الحمزواى” أو ”زينب” فى أى موضع، فى حين أتت على لسان ”مصطفى” وهو فى حالة سكر، وهى مسألة تدعو للتساؤل.

وفى عبارة ثالثة موحية، يقول ”مصطفى” وقد استغرقته حالة السكر تماماً: ”لا تنس الأيام الأليمة، لا تنس الحب أبداً، تذكر أنه لم يعد لها أهل فى هذه الدنيا، مقطوعة من شجرة، ولا أحد لها سواك”. وهنا يحاول ”مصطفى” الصديق الوفى أن يوجد أسباب للتعايش بين الفرقاء، دينياً وثقافياً، مرة عن طريق العاطفة ومرة عن طريق الواجب.

غير أن ”الحمزاوى” لم يكن يعدم أسباباً للتعايش مع ”زينب” المسلمة ذات الخلفية الدينية والثقافية المسيحية، تلك الثقافة التى جعلت منها راهبة فى حياتها العائلية مع ”الحمزاوى” كما كانت راهبة، ذات يوم، فى الدير. فمثل ”الحمزاوى”، المحامى الطموح، لا يرضى بغير راهبة تفنى حياتها فى خدمة أهدافه وطموحاته التى بلغت الآفاق. وفى هذا المعنى يلخص ”الحمزاوى” الدور الهام الذى لعبته ”زينب” فى حياته فى هذه الفقرة المعبّرة: “تزوجت قلباً نابضاً لا حدود لحيويته، وشخصية فاتنة حقاً، تلميذة مثالية للراهبات، مهذبة بكل معنى الكلمة، مدبرة حكيمة كأنما خلقت للتدبير والحكمة، وقوة دافعة للعمل لا تعرف التوانى، ونظرة ثاقبة فى استثمار المال، ارتفعت فى عهدها من غمار العدم إلى التفوق الفريد والثروة الطائلة”(ص٤٨).

وبرغم هذا الاعتراف الصريح من ”الحمزواى” بفضل ”زينب” على حياته إلا أنه يفهم الرهبنة بمعنى خاص، فلا يفهمها بمعناها العقلى والروحى، لكن بالمعنى العاطفى والحسى الذى يختزلها فى خدمة الرجل وتحقيق متعته، وهو فهم يتسق والنزعة الذكورية التى تهيمن على الرواية، فيقول: ”وجدت فى حرارة حبها عزاءً من الفشل والشعر والجهاد الضائع، رمز الجنس والمال والشبع والنجاح، فماذا جرى؟”(نفس الموضع).

وأخيراً، يمكننا أن نقول إن كلمة ”الرهبنة” بالرغم من أنها لم تذكر إلا مرة واحدة، تقريباً، على مدار الرواية، إلا أنها تصلح لأن تكون مفتاحاً لإعادة قراءة الرواية من منظور مختلف، بحيث يصير كل شخص فيها راهباً فى محراب ثقافى خاص به، يتعبد فيه ويقدم له القرابين، سواء أكان العلم أوالفن أو السياسة، وأن الإيمان بعقيدة ما، دينية أو دنيوية، إنما هو الذى يحقق للإنسان الاستقرار وينقذه من الحيرة، لأنه يجعل لحياته معنى، فلا يجد صعوبة في المحافظة على هويته من ناحية والانفتاح على الآخرين من ناحية آخرى، وهذه مسألة تفتح الباب على دراسات أخرى مستقلة يمكن أن تنجز لنفس الرواية.

 

د. ماهر عبد المحسن

أخترنا لك
ذكرى لعيبي في روايتها الأولى: خُطـًى في الضباب

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة