جبار النجدي
تتجه قصائد الشاعر رافع بندر في مجموعته (بين شقوق الجدران) الى المعاني غير المحتسبة لمتغيراتها الكامنة فالمعنى معطى ناقص يتجاوز قصد الأتمام مايجعله دائما في حوزة زمن قادم ينتظر شيئا ملحقا به ويتولد عن ذلك في نصوص المجموعة محادثة الأشياء وتقويلها عارضة الأمكنة عرضا شعريا عبر ادوار احالية مايهمها دائما هو أظهار علاقتها بغيرها مفصحة عن غرضها الذي هو تعليق أكتمالها إما المعنى فهو مشروط بعدم أكتماله لذا فهو يحيل الى غيره ناقلا صفات الشعري الى السردي في أحايين كثيرة ومن شأن ذلك أن يخفض صوت الشعر الى درجة الهمس ليخلق بنية مشتركة بينهما تهز ثوابت الأشياء حتى ان ذلك يجري في قصيدة الهة سومرية عبر أمكنة متفرقة :
في الساحة
الحمراء
سمعت عويل
دماء الفلاحين
فوق معاول القياصرة
لكني في(سان بطرسبورغ)
كنت اغني معهم
كلما إرتفع منسوب الدموع
من نهر (ألفوتكا)
تتسلق الى روحي
إيقاعات البرد
وأنا اصنع تمثالا من ثلج
ذاب سريعا
في اول
عناق
هذا اللمح الشعري في نهاية القصيدة تقابله صورة مغايرة تماما في قصيدة (نفايات) لتنتج صورة مشتركة لمشهدين متغايرين وغير جاهزين للتصنيف معلنا الذهاب الى الاختيار القصدي لهذا التضاد مانحا القراء الكثير من الخيارات نظرا الى إن المعاني ليست في النصوص نفسها بل في الأمكنة التي تحيل اليها :
المدن
التي تتجمع
فيها النفايات
تبوح بأسرار أصحابها،،،!
بتلك البصمة القذرة
لمخلوق
يحافظ على وجوده
رغم كل شئ
ذلك العدم الذي يهرب منه الشكل ؟
واللغة التي لامعنى لها مجرد نفايات
النفايات تديم الفوضى
وتلتهم الجمال
في بلداننا
كل شئ يعاد تدويره
النفايات
المعتقدات
المباني
اسماء الشوارع
وأنطلاقا من ذلك فان نص نفايات يعتمد اللغة الواصفة والتجاور الضدي للكلمات مستنطقا اللامتجلي في استثارة الكامن الدلالي لمنظورات تبدو إنها عادية ومألوفة
وفي ذات الوقت لايقول الشعر كل ما يفهمه المتلقي اوتتم تغذيته بما هو ماثل في الذاكرة فثمة مظهرا لأنقلاب النسق الشعري الذي يمنع الولوج الى الخيار القصدي واللعب بالمشاعر وانما يفترض ان تكون المعاني بعيدا عن النصوص رغم انها ظاهرة للعين وجلية تماما :
في البصرة
نسمع انواع الأيقاعات
لكن أكثرها طربا
ايقاعات النعي
النوارس
تطلق صفارات الأنذار
لذكرى حرب مضت
يجاور ذلك لمحات شعرية صادرة من احاسيس لامتوقعة اساسها التعارض الثنائي في الصورة الشعرية الغائبة عن فطنة الشعر وهي في أحسن تقريب مثل اشياء دائمة الوجود لكن لايراها أحد انها تنحو الى الأحتجاب لتحقق حضورها بصورة إنابة تسعى الى رابط تضامني يهمه الاستمرار لا القطيعة في اجواء واشكال البداهة التي لاتخطر على بال حيث تحتشد الالتقاطات ثم تضاء بضربة شعرية أخيرة :
الشموع
الذي انهكها
عويل الريح
لم تهزم الظلام
بدموعها الساخنة
تصمم تمثالا
يأخذ شكل المصباح
لكنه لن يضئ
على الرغم من إن الاسى يطغى ويستأنف رحلته في المجموعة غير مرة إلا أنه مفتوحا للإفراضات وحقل ينبض بسواد الالوان وهو مثل خيوط هائمة تتلوى وترتد على نفسها بمعان لمضاعفة الحزن الذي يعبر عنه عن طريق الام وسلوكها في الطوارئ المأساوية وهي كفيلة بجعل الخفي من الاحزان ظاهرا عبر سلوك الام الذي تحكمه مسلمات الأسى التي لاتحتمل خيارا آخر :
امي
الدمع وسواد الثياب
يلازمها حد الوداع الأخير
تودع التوابيت الى مدينة (النجف )
وهي تشد
على خصرها
(عباءة) الفراق الأبدي
ولعل من البديهي ان تمتد الأحزان بمفرداتها في المجموعة كلهافهناك صمت ممتلئ عويلا علاوة على خصائص اشارية واسى يسهم في تخيل عالم سحري نتلمس وجوه العبرة فيه في نص (أقليات) إيثارا للمغايرة بأخص المميزات :
أقليات
نحن الاحياء
نخطط لمستقبل أفضل
لكننا نصمت أمام
اطلاقات المتطرفين
ننحني امام سيف الخليفة
الذي يقنعنا
بان الموت على يديه
حياة أبدية
بقي ان نقول إن هذه المجموعة تشكل بداية في تجربة قصيدة النثر التي يخوضها الشاعر رافع بندر بجدارة وننتظر منه تطويرا مستمرا ومثابرة لاحدود لها استكمالا لمنجزه هذا.